كثيرا ما نمر أمام كلمات ومصطلحات ذات مدلولات قوية لكن لا نلقي لها بالا، ربما مرد الأمر إلى عوامل ثقافية واجتماعية واقتصادية تروم تعطيل النباهة وتأخير الفهم، ولم لا تعميم الفائدة بتحويل البشر إلى نماذج من ''المنغول'' يُحسن المرور دون التوقف، والتوقف دون تأمل، والتأمل -إن وجد- تأمل في السراب مع التحية والتقدير لكل ''منغول'' فطري. فالناظر - من غير العرب طبعا - إلى الحالة التي يعيشها الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج تثير الشفقة والاشمئزاز في آن واحد، حاله كحال مرتكب الخطيئة، ينتابه إحساسان، الأول شفقة على النفس والآخر اشمئزاز من سلوكياتها، ولن نعدم حيلة إذا سحبنا هذا الحكم على كثير من شعاب حياة الموطن العربي الغارق في ''بزقة'' أكرمكم الله، فلا هو غرق بصفة نهائية، ولا هو ترك المجال لمن ينقذه من هذا الغرق الأسطوري الذي لا مكان له إلا في كتب ألف ليلة وليلة التي زيدت لها ليلة أخرى كما زيد في أسعار الزيت والبطاطا والسكر وحفّاظات الأطفال والكبار. هذا الغرق والتشتت الذي مرده إلى سيوف الدهر وتكالب الأعداء وظلم النفس، للمواطن العربي نصيب كبير في المسؤولية على هذا الوضع المزري، فلا هو قارئ نهم، ولا موظف مسؤول ''يروح للخدمة، ماشي يروح يخدم'' يذهب إلى العمل ولا يعمل، و''يسكيفي من الخدمة'' ولا ينهي الدوام، وإذا خرج إلى تناول الإفطار أو ارتشاف القهوة استغرق وقتا يضاهي الوقت الذي تصنع فيه إيران كذا ألفا من أجهزة الطرد المركزي، وإذا كان مصليا فالكارثة أعظم، لأنه لن يصلي الفرض دون أن ينفّل قبلا وبعدا، ولن يتم له كل ذلك إلا بقيلولة تذهب معها مصالح المواطنين إلى جحيم التعطل ووهاد النقمة، وإذا انتُقد أخرج لهم سيف الرقية والمكتوب والوصال مع عالم الأبرار، حجته في الخصام لحية ظاهرة أو باطنة، ولغة فيها شيء من ألفاظ الجلالة والاستغفار والالتزام وطاعة الخالق ومعصية المخلوق والنفاق وغيرها من الألفاظ المشروخة المشروخ صاحبها. والحال هذه لها ما يشابهها في قطاعات كثيرة من قطاعات الحياة، في التربية والتعليم والتكوين والتجارة والإدارة، فهذا أستاذ جامعي تساوي شهادته العلمية شهادة ميلاده، يحسن المعاكسة والمساومة وكل مشتقاتهما ماعدى العلم والتعليمية، وذاك ''كاره حياتو'' يترك تصحيح أوراق الامتحانات لأولاده في أحسن الأحوال إن لم يطلق فيها العنان لقلمه الأحمر يفعل بالأوراق كما يفعل أحمر الشفاه في أوجه الحسان، فلا بحوث ولا نجاحات ولا تقدم ولا تطور ولا حتى بذل للوسع في إطار المتاح من الطبيعة وغير الطبيعة من باب تبرئة الذمة وإراحة الضمير وكأننا نناضل من أجل حجز مكانة في ذيل الترتيب عن جدارة واستحقاق. هذا الذيل الذي سكن فينا حد النخاع، وبرزت من خلاله علاقة حميمية بينه وبين المواطن العربي تضاهي علاقة نور بمهند أو العكس في المسلسلات التركية التي برّئت عيني من مشاهدتها ليس كرها فيها وإنما لضيق الوقت وكثرة المشاغل، فكأن الذيل يتغنى بالمواطن العربي، والمواطن العربي عاشق ولهان للذيل يعجز حتى فطاحل الشعراء من تصوير هذه العلاقة التي فاقت في حميميتها علاقة قيس بليلى، وعنترة بعبلة، وسلطاني بحنون، وهل هناك إبداع وجمال وتفوق أبلغ وأعرق وأشقى وأعتى من هذا التفوق على الذيل في الذيل وبالذيل. ولمن لا يعرف شيئا من فلسفة الذيل عليه بالرجوع إلى كتب أرسطو وأفلاطون ومحاورات سقراط العظيم، وكتابات الشيطان الرجيم التي لا وجود لها إلا في مواطن العرب وحلهم وترحالهم، حيث أن المطلع على الأمر يحل به الغبن وتدركه التعاسة من التعميم والتعويم وعدم التفصيل، بفضل مؤسسات توزيع التشويش على الناس الخارجية والداخلية، حين ترفض التفصيل والتدقيق في مكانة العرب داخل ذيل الترتيب، فلا تذكر لنا إن كان قريبا من مقدم الذيل أم من مؤخره، لأنها تدرك التداعيات النووية والانبعاثات الحراراية والتلوث البيئي الناجم عن أحد الموقعين داخل هذا الموقع المقدس الذي كُتب علينا كما كتب على بني إسرائيل في فترات سابقة. وزيادة في التفصيل، ومن باب تعميم الفائدة لا بد من التوضيح أن نشاط الذيل وميدان عمله لا يكون إلا في الأماكن المقدسة التي يكون فيها الإنسان العربي وغير العربي خالصا فيها ومتجردا من الإكسسورارت وصادقا مع نفسه بغض النظر إن كان المكان تركيا أردوغانيا أم بريطانيا إليزابيثيا، فالخلاف في وضعية الجلوس لا غير، وما أدراك ما وضعية الجلوس. إذاً مورد نشاط الذيل لا يكون إلا في أماكن مخصوصة وبوضعيات مخصوصة أيضا، وموقع المواطن العربي بين المخصوص والمخصوص، فهو بأسلوب التلطيف والحشمة إما في مؤخر الذيل على مقربة وادي الحراش قبل التنظيف، وإما في مقدم الذيل على مقربة من مصفاة مصنع النسيم والروائح الفواحة، فالذيل ومدار نشاطه قدر بئيس ولعنة خسيسة، وهذا دون الحديث عن نوعية الذيل إن ''بقريا'' يستعْيدنا عليه الهنود أو ''حلّوفيا'' يستعْيدنا عليه اليهود، أو ''سبعيا'' تستعْدينا عليه كل حيوانات الغابة، وبعد كل هذه المرارة والحقارة ألا يملك المواطن العربي المقومات المادية والمعنوية للخروج من سلطان الذيل ومن دوامة دورات المياه؟