عندما قال ابن خلدون مقولته الشهيرة :''المغلوب مولع باتباع الغالب''، لم يكن على دراية بحوادث المستقبل ،وما سيؤول إليه حال أمته, ولكن تشابه الحوادث ونتائجها في الماضي،واستثماره للقاعدة القرآنية: سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا?.كل هذا جعله يخرج بهذه القاعدة في الاجتماع ويعممها على المستقبل أيضا.فانظر إلى مزاولة الكتابة والقراءة كيف تجعل الإنسان مطلعا على حوادث المستقبل أيضا. إن المقصود بالغالب والمغلوب في مقولة ابن خلدون لا يعني بالضرورة اختلالا في موازين القوى، أو ما يمكن أن نعبر عنه بثنائية الكتلة الراجحة والكتلة المرجوحة، بحيث لا يحدث التأثير والتأرجح بينهما إلا بتأثير كتلة على حساب الكتلة الأخرى، كما هو الشأن في موازين الماديات، وإنما المقصود بالغالب والمغلوب، وجود ثنائية ذات انفصال متصل يمكن التعبير عنها بثنائية الضعف والقوة، وهي تختلف عن سابقتها من حيث عدم وجود رابط متصل يحدث التأثير بين طرفي الثنائية، بمعنى أن ضعف الأول ليس سببه الأساس والمباشر قوة الطرف الثاني، كما أن قوة الثاني لا ينجر عنها بالضرورة ضعف الأول، وإنما وقع اتصال هذا الانفصال عندما نظر الأول إلى الثاني على أنه الأنموذج والمطمح الذي تجب متابعته ومسايرة خطاه، ورأى بالمقابل في نفسه مثال الضعف والتقهقر والرجعية وعبادة الماضي. إن ما أريد قوله، أن تبعية المسلمين للغرب وولعهم به، هي فعلا مشكلة وأزمة حضارية أصبحنا نعاني منها، ولكن هذه المشكلة ليس سببها الأول والأخير هو الغرب من حيث كونه طرفا قويا له القيمة الحتمية والجبرية بالنسبة لتحديد خط سيرنا ونمط حياتنا، وإنما السبب الأساس في هذه الأزمة يكمن في ضعفنا وهواننا على أنفسنا، فإذا كنا نتحمل تبعة ومسؤولية ضعفنا، فإننا نتحمل مسؤولية تبعيتنا وتقليدنا للغرب من منطلق ضعفنا لا من منطلق القوة المادية للغرب، ولهذا عندما خاطبنا الله عز وجل على سبيل الجواب عن سؤال طرح ولازال يطرح وسيطرح مادامت الحياة قائمة، قال: أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ، فالآية الكريمة لم تترك المجال مفتوحا لطرح الاحتمالات والأسئلة حول أسباب المصائب والمشاكل الحضارية التي تصيب الأمة الإسلامية، وعلى رأسها الوهن والضعف وظهور الأعداء عليها، بل حصرت هذه الأسباب في أمر واحد هو الإفراط في الذنوب والتفريط في الواجبات التي سطر حدودها الدستور الإلهي، وبهذا فالآية تصدق ما ذكرته سابقا، من أن جدلية الضعف والقوة لا تفرض على أطرافها كقدر حتمي وجبرية مطلقة، وإنما تفرض نفسها في إطار شروط وظروف معينة تجعل من الضعيف تابعا للقوي ومولعا بتقليده ومتصلا به من هذا الوجه، وإن كان منفصلا عنه من جهة كونه غير مسؤول عن ضعفه وهوانه مسؤولية مطلقة ونهائية. وفي هذا يقول أحد المفكرين:'' ... من هنا فإن داء التقليد الأعمى الذي يصيب المجتمعات الإنسانية هو وليد كسبهم وفعلهم الذاتي'' ويقول آخر:'' إن الخليط الذي تتألف منه تركيبة مجتمعاتنا يعاني في مجموعه من فراغ إيديولوجي_ إن جاز التعبير_ ومن ثم فإنه يعاني من حالة استسلامية تجعله معرضا لقبول كل ما يفد إليه بل كل ما يمر به '' ويفسر المستشرق الإنجليزي ''جب'' تبعية المجتمعات الإسلامية للدول الأوربية الصناعية في الغرب، بضعف المجتمع الإسلامي وعدم استطاعة ما فيه من ثقافة وقيم إلى إيجاد وحدة ثقافية متكاملة تحفظ عليه التوازن وليس إلى إكراه الغرب واستعماره. فنحن وإن كنا نوافق هذا المستشرق في حقيقة ضعف المسلمين كسبب في ولعهم بالغرب،فإننا لا نوافقه أبدا في اتهامه للقيم والمبادئ الإسلامية بقصورها عن إيجاد البديل، لأننا نعتبرها قيم معطلة ومغيبة. يتبع (...) أستاذ في التعليم وباحث أكاديمي