ان المبتغى من الإسلام ان يعمر الدنيا كلها ويشملها برحمته ومعانيه السامية، وان لا يتوقف عطاؤه وبركته على جيل بشري او حقبة زمنية معينة، بل لابد ان يتواصل مواكبا رحلة الانسان وتطور حياة الابداع والتطور دونما معطل او منفر... والذي جاء ليهدي للتي هي أقوم على كل الأصعدة ويكون رحمة للعالمين. * * لقد اصبح نصيبنا من الاسلام حفظ آياته دونما إدراك لرسالته وحفظ اقوال الرجال في محطات من تاريخنا الاسلامي دونما إدراك لروح تصرف اولئك الرجال واقوالهم ونمو قدراته وتعدد اشيائه وطرائق معيشته الفردية والمجتمعية.. وهو لأنه الرسالة الأخيرة ونبيه هو آخر الأنبياء عليهم السلام فكان لابد ان يحمل خاصية اضافية على كل خصائص الرسالات السابقة، اذ ان كل رسول او نبي انما بعثه الله لمهمة محددة من جنس التحدي القائم في قومه فكانت مهمة بعضهم ان يصحح لهم معايير الحياة الاقتصادية كيوسف او ان يصحح لهم قيمهم الاخلاقية كلوط او ان يدفعهم الى العدل في الميزان كصالح او ان يحررهم من ربقة الفرعون كموسى وهكذا.. اما مهمة محمد عليه الصلاة والسلام فلقد كانت مهمته للناس كافة حتى يوم الدين، أي بمعنى آخر لمعالجة كل التحديات القائمة في حياة البشر انذاك والتي ستستجد في حياتهم بعد تلك المرحلة وهذا ما يجعل تفرده بالختم على الرسالات ولرسوله بانتهاء رحلة الوحي الى الانسان اهمية وقيمة وهذا يعني ضرورة ان تتولد اجابات اسلامية من صميم الدين المتجدد بطبيعته على التحديات اللاحقة لتلك المرحلة، والأمر ليس متروكا رهنا بأمزجة كهنوت او سادة انما هي الآيات والأحاديث والسنة.. هي القرآن ومنهجه وروحه الذي اعطى الانسان حرية التحرك وحرية.. لقد اصبح حفظنا في احسن احوالنا كأننا نردد قصيدة شعر مات زمانها ومكانها ونتصارع بأقوال الرجال ونستقوي بهذا النص على حساب النص المخالف ودخل بمجموع الأمة في معارك انتهت لمرحلة تاريخية انتهت.. وشيئا فشيئا اصبحت النصوص والأقوال تغطي بكثافة على جهلنا وعدم مسؤوليتنا تجاه مجتمعاتنا وتجاه التكليف الشرعي علينا كأفراد ومجتمعات، لأننا باختصار لا نعرف بالضبط أية معركة نحن بصددها... لقد انقطعنا بالمقدس الذي لدينا عن حركة الواقع المادي والاقتصادي للبشرية التي تشهد تطورات مذهلة على اكثر من صعيد وغاب عنا ان فحص تديننا صلاحه من فساده يكمن في مواجهة تحديات مطروحة على الانسان كأنسان وعلى المسلمين وعلى الأفراد.. * لقد اندفعت الأمة مع حركة الانحطاط المضطرد الى قاع التخلف والهزيمة وهيمنة اعدائها على مقاليد الأمور فيها وها هي ديارها تصبح مسرحا لجيوش الأعداء بعد ان انكشف غطاء المهابة عن ابنائها.. اننا في هذه الرحلة الطويلة من المعاناة لم نفقد تديننا واسلامنا، لكنه تدين تقليدي وفهم سطحي للاسلام ورسالته وهذا هو المبرر الوحيد لوجود هذا الانتشار للتخلف في أمتنا. * لقد اصبح نصيبنا من الاسلام تدينا ليس له علاقة بتقدم حركة الحياة في الدوائر الرئيسية الثلاث: دائرة الايمان والاعتقاد ودائرة المفاهيم والقيم ودائرة العمل.. ف أصبحت مجمل مواقفنا وتصرفاتنا في المسائل المصيرية تفتقد الى معاني التوكل الإيجابي والإقدام المتحرر من قيود الدنيا.. هذه المعاني التي تدعو الى اقتحام كل تحد وجعل البلاء في جبهته دربا للعبادة لله رب العالمين.. اما على صعيد مفاهيمنا وافكارنا والتي جاءت وليدة عقيدة غير ايجابية وخاملة ومجمدة ومستكينة فكانت بدورها مفاهيم وافكارا اجترارية لأجيال سبقت وهكذا اصبحنا غير قادرين على تكسير الأقفال التي على القلوب والأكنة المستحكمة كي ترى الواقع كما هو الواقع.. وظلت افكار السابقين واجتهاداتهم في بلاءات تعرضوا لها بنجاح وفطنة كبيرين قيدا على عقولنا الآن. * ان تفاعل الدين مع الواقع الحي المعاش هو الذي يولد افكارا حية قادرة على مواجهة التحديات المستجدة وهكذا تتولد منظومة افكار مضطردة تنشئ قيما قادرة على ضبط حركة الفرد والمجتمع على سلم الصعود الحضاري.. ولا مجال لحياة كريمة لأمتنا بغير الصلة الحية بين تفاعل الدين والواقع على ارضية فهم مقاصد الشريعة وادراك طبيعة هذا الدين وخصوصياته التي ترفض الجمود والكهنوت، كما انها ترفض في الحين نفسه قطع الطريق على تواصلها الحضاري. * لقد تجدد الاسلام عبر مسيرة أمتنا اكثر من ذي مرة على ايدي العلماء الأعلام وتنوعت عطاءاته حسب التحديات المطروحة عليه نظرية كانت او عملية.. تجدد في نظرية بناء الدولة وفي الرد على احتياجاتها وفي مواجهة الفلسفات، وفي مواجهة الصليبيين والتتار، وتجدد في مواجهة محنة سقوط الخلافة، وفي كل تجديد كان تركيزه منصبا على قضية جوهرية، وهكذا نكون على خط الأنبياء أعظم البشر بلا منازع، حيث تنوعت اجاباتهم حسب تنوع التحديات التي واجهتهم.. وذلك مع توحد المبتغى ألا وهو تحقيق شروط الاستخلاف على الأرض رحمة للعالمين. * وسنجد ان كثيرا من تلك القضايا الجوهرية في زمانها ليست ذات اهمية اليوم، ولا في أية مرحلة تاريخية غير مرحلتها وسيكون من المفيد تدبرها ومعرفتها دون ان نحركها كقضايا بديلة عما هو جوهري في حياة الانسان في مرحلتنا ، ولعل هذا هو منهج الراشدين من الأنبياء وعظماء القادة الذين كانت لهم بصمة على التاريخ البشري.. وفي المقابل سنجد اننا ازاء قضايا تهدد وجودنا الانساني فضلا عن تهديدها لقيمنا وتأثيرها في مجرى حياة شعوبنا ومحاولاتها الغاء نموذجنا الحضاري لم تخطر على بال اهل تلك الأزمنة!! * اننا امام تحديات حقيقية من عدم وجود امام للمسلمين يكون رمزا لوحدة الأمة يسوس الدنيا ويحمي القيم والأخلاق ونظم الخير، وقيام التجزئة فيها بدواع عديدة، وتدمير مؤسسات الأمة الخاصة القضائية والعلمية، وفوضى المفاهيم التي تسود العقل المسلم، واضطراب مناهج الاقتصاد والتعليم.. وتحول ثرواتنا ورهن واقعنا بعجلة اقتصاد دولية ظالمة استحواذية وربط مصيرنا بصيغ دولية عنصرية تحت مسميات عدة من الشرعية الدولية والقانون الدولي تلك التي جعلت لتسويغ مخططات تسيد المشروع الغربي في العالم.. وسقوط فلسطين بين انياب المشروع الغربي الصهيوني بهذه الكيفية وارتباط ذلك كله بمصير الأمة.. ان هذه التحديات لم تكن تخطر على بال اهل الأزمنة السالفة وهي قضايا جوهرية في حياتنا.. فهل يعقل ان نستدعي التراث لحل مشكلات الواقع؟ أليس من الظلم تحميل السابقين عبء حلول قضايا زماننا. * ومن الإشارات التي فصلت في القرآن الكريم وأعطت من العناصر ما جعلها من صميم المنهج القرآني تلك التي خصت الأمم التي انحرفت فأضاعت الدين وتمسكت بالإجتهادات والآراء وأقوال الرجال- قال تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا الله هو سبحانه عما يشركون) التوبة. * وفي الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي فقال: يا رسول الله لسنا نعبدهم. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى. قال: صلى الله عليه وآله وسلم فتلك عبادتهم). * ولقد حمل القرآن على الأقوام الذين أعلنوا تشبثهم بما وجدوا عليه آباءهم وأفرد القرآن الكريم مساحات لنقاشهم وحثهم على الإتيان بدليل على شرعية تنكرهم لرسالة الإسلام فكان جوابهم أنهم وجدوا آباءهم على هذا الموقف. * إنه منطق الجمود وإيقاف عجلة الحياة.. وهو منطق مرفوض من قبل الإسلام دين الحياة والآخرة. * وهكذا يصبح التقيد بقول إنسان كائنا من كان، هذا الإنسان مكمن خطأ عقائدي وخطأ إنساني كبيرين وهكذا تظهر أهمية الإنطلاق من الإسلام في معينه الصافي (القرآن الكريم والسنة النبوية) مجرداً من الإلتزام بإجتهادات العصور. والتحرك به في الواقع المعين لمواجهة التحدي الشاخص. * وسيكون هذا العمل بمثابة إضافة جديدة على خط الأنبياء وقص جديد يضاف إلى قصصهم المبارك. * أجل إنه لا يصلح أمر أمتنا إلا بما صلح بها أولها (كتاب الله وسنة رسوله)، وهذا هو مجال تجدد الاسلام في الإجابة على تحديات الزمان والمكان، فنحن اليوم امام تحدي التكنولوجيا وتحدي المناهج وتحدي العولمة وتحدي استقواء عدونا ومحاولاته عزلنا ومحاصرة تجاربنا العلمية، وليست قضيتنا الآن قضايا فلسفية في علوم الكلام والفر بين الفرق.. لا بد من التجدد وخلع روحية التمترس في قضايا الماضي.. وذلك على خط محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم بالكيفية التي ضبطت حركته. * قال تعالى (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) الأنعام. * وهكذا يجب أن نتزود باليقين بضرورة التوجه إلى القرآن الكريم النبع الصافي لإستخلاص منهجية الرسالة في إستكشاف قضية وجودنا في زماننا ومكاننا الخاصين لنتزود بشرعية البحث عن الإجابة على: * 1- من أين ننطلق؟ كيف نبدأ العمل؟ * 2- ما هي أهدافنا المرحلية؟ ثم ما هو خط سيرنا؟ * 3- كيف نتعامل مع الصعوبات في المراحل المتتالية؟ * قال تعالى (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولن تجد لسنة الله تحويلاً) الإسراء. * إنه العلم بالقوانين والسنن، حيث لا عبث في حركة الكون أو حركة المجتمعات ونتائج الصراع ولا مكان في ذلك للصدفة.. إنما هو النظام الدقيق المتناهي في الدقة، ذلك الذي يحكم الحياة وعناصرها وحركتها. * وكل الآخرين الذين انتصروا في الحياة الدنيا لم يحققوا ذلك إلا لأنهم حشدوا من عناصر النصر ما يتغلبون به على خصومهم بغض النظر عن معتقدات المنتصر والمهزوم.