يوصف هذا العصر ب ''عصر الصورة'' حيث الصورة هي المسيطرة على كل شيء، ولم تترك للفكر واللغة أو الكلمة (الصوت) مجالا لمنافساتها ونقدها فالزمن المتسارع والأحداث المتلاحقة والتصوير الفوري والقيام بنقله مباشرة للمشاهد بفضل التلفزيون وهذا المشاهد يقف عاجزا عن إبداء أي تحليل أو نقد للحدث أو الصورة، باعتبارها - أي الصورة - لسان الصدق الذي لا يمكن تكذيبه أو دحضه، فيحدث القبول ويمرر الهدف الذي يراد الوصول إليه في غفلة من هذا المشاهد أو ذاك المحلل. وهذا نتاج العصر و راجع إلى سلطان الصورة، يقول الفيلسوف فيورباخ ''لاشك أن عصرنا يفضل الصورة على الشيء والنسخة على الأصل والتمثيل على الواقع والمظهر على الوجود وما هو مقدس بالنسبة إليه ليس سوى الوهم أما ما هو مدنس فهو الحقيقة''. وإذا كان من سمات العصر استساغة السهل، وتفضيل التمثيل على الواقع، وقبول الصورة دون تمحيص أو نقد فإن السؤال المطروح هو إذا كانت الصورة سلاحاً بيد القوي الذي يملك الآلة والقيادة والعتاد الحربي، فهل يعجز عن استخدامه الضعيف الذي يملك المال والآلة؟ وأين العرب من الصورة؟ ------------------------------------------------------------------------ الصورة ايجابيات وسلبيات ------------------------------------------------------------------------ يذكر ريجيس دبرين في كتابه ''حياة الصورة وموتها'' ''أن التلفزيون قد فتح قلوبنا وعقولنا على المعاناة والقمع اللذين لم يكونا قابلين للرؤية هكذا من قبل، وأنه قد خلق نوعا من الرأي العام العالمي الذي له تأثيره الخاص عبر العالم وأن الرأي قد يتحول إلى تعاطف، والتعاطف قد ينقلب إلى اهتمام نشيط فعال''. إلا أن دبرين لم يذكر لنا فيمن يسعى بقوته وسطوته في خلق نوع من الرأي العام العالمي بتزييف الصورة التلفزيونية والتلاعب بتركيبها والعبث بمحتواها خاصة في هذا العصر، عصر الرقمية، ونقلها إلى المشاهد، والمشاهد يتلقى تلك الصورة الوهمية الزائفة على أنها الحقيقة، لأن الصورة تتغلب على العقل النقدي، وتقضي على كل مقدرة نقدية للحدث أو للصورة في حد ذاتها، في لحظة تلقي تلك الصورة، وبهذا يتم التلاعب بعواطف الناس ومشاعرهم من أجل خلق رأي عالمي يتقبل ما يُعرض عليه، وهذا من الجوانب السلبية للصورة. نعم لقد استعملت الصورة التلفزيونية لفضح السياسات الاستعمارية في بداية ظهورها، والكل يتذكر ما حدث في التدخل الأمريكي في الجزء الجنوبي من فيتنام، فقد أسهمت الصورة التلفزيونية في فضح الإجرام الأمريكي، حيث أظهرت حجم الدمار والقتل الذي خلفه العدوان الأمريكي في هذه المنطقة. فالصورة هنا عبأت الرأي العام العالمي ضد المشروع الأمريكي الاستعماري، والنتيجة كما هو معروف هو انسحاب القوات الغازية من فيتنام بمذلة. فكانت هذه الحرب درساً للقوى الاستعمارية في إبعاد الصورة التلفزيونية من نقل الحقيقة، وجعلها وسيلة أخرى تضاف إلى مختلف الوسائل التي تستعمل في الحروب. هذا بخلاف حرب الخليج الثانية فقد ضللت الصورة التلفزيونية الجماهير حيث نقلت الحرب وكأنها أصوات القنابل وصيحات المدافع دون إلقاء الضوء على الجانب الإنساني، وذلك بإخفاء حجم الدمار والقتل الذي استهدف العراق دولة وشعبا، وقد أُطلق على هذه الحرب اسم الحرب النظيفة. ------------------------------------------------------------------------ سلطان الصورة ------------------------------------------------------------------------ في ذروة العصر الذي يتحقق في فيضان المعلومة، كيف يمكن ألا تصل إلى الكتل الجماهيرية إلا أقل المعلومات الممكنة والموكول إليها حجب كل ما عداها، المكرسة لتحريك الاستجابة المقننة سلفا؟ بالصورة فقط، فالصورة قد تتغلب على الحرف، أو أن الحرف يغدو صورة منظورة وليست مقروءة، وحضارة السمعي - البصري تنهي حضارة الحرف ولا تغير طباعته فقط كما يقول دبرين. للصورة إذن في هذا العصر سلطان كبير في تشكيل الرأي وتوجيه العقول وهندسة القبول حيث أصبحت سلاحاً يضاهي أي سلاح آخر تستخدمه القوى العظمى كمقدمة لتنفيذ مشروعها، وبسط نفوذها على العالم، واختراق العقول البسيطة التي تستسلم للعبث والتزييف بسهولة، وأدل مثال على ذلك أحداث 11/9 المتمثلة في الهجمات الإرهابية على برجي مركز التجارة والبنتاغون، وكيف استعملت الصورة لكسب تعاطف الجماهير، وكسب تأييدها في أي قرار تتخذه الطبقة الحاكمة في البيت الأبيض. فقد نقلت كل تلفزيونات العالم تلك الصورة، والكل شاهد اصطدام الطائرات بالبرجين وكيف سقطا على الأرض، والكل سمع صيحات الناس، ورأى ملامح حزنهم. هذه الصورة جعلت كل العالم يقف خلف أمريكا، ووصل بأعرق صحيفة فرنسية (لوموند) أن تعنون بالبند العريض ''كلنا أمريكيون'' إلا أن الكثيرين من الباحثين الغربيين لم يتقبلوا الصورة المتاجر بها واعتبروها مجرد إخراج سينمائي هوليودي ولعبة تمثيلية وخدعة تضليلية للضحك من عقول الشعوب، وكسب تأييدها في انجاز مشاريع حربية تقوم بها عصابة البيت الأبيض المتحكمة في تجارة السلاح والنفط. ما يؤسف له حقا هو أن العرب (ضحايا ما بعد 11/9) اعتبروا الرواية الرسمية للإدارة الأمريكية هي الحقيقة، وبقوا يرددونها في خطاباتهم وكتاباتهم، بل ذهب البعض إلى أكثر من ذلك عندما أصبحوا يعملون ليل نهار على طعن العرب في هويتهم ودينهم من أجل كسب ود الأمريكان والتقرب إليهم، وظهرت دراسات حول علاقة الإسلام بالعنف، وأن الإسلام انتشر بالسيف، وأن هذا الدين لا يحترم العقل بل يناقضه، وظهر مختصون يدرسون ظاهرة الإسلام الجهادي تجدهم يتبارزون برونق اللفظ، وبلاغة الكلام على شاشات القنوات التلفزيونية، وأصبح الإسلام ليس مصدر خطر وتهديد على الغرب فقط، بل على العالم كله بمن فيهم الذين يدينون به. بفعل الصورة إذاً أُحتلت أفغانستان والعراق والصومال... وبفعل الصورة أيضاً تُحاصر غزة، ويُجوعُ أهلها، ويبيتون في وسط الظلام الدامس... وعن طريق الصورة أيضاً تعم الفوضى الخلاقة بلاد العرب والمسلمين من لبنان إلى السودان إلى سوريا إلى إيران إلى باكستان.... بفعل الصورة أيضا يُحارب الإسلام ورموزه، فالقدس، أولى القبلتين وثالث الحرمين يُعبث بأساسه، ويُهدم بناؤه، وشخصية الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم تتعرض دائماً للتشويه والسخرية والاستهزاء من طرف كل حاقد مغمور، والقرآن الكريم يُدنس تارة، ويُعدل تارة أخرى حتى يُسهم في تشكيل عقول تقبل هيمنة الإنسان الأمريكي، وأصبح المسلم في الغرب مقروناً بلفظ إرهابي مشكوك في ولائه للبلد الذي يقيم فيه، لذلك لابد من مراقبته والتجسس عليه. يتبع (...)