إن النقلة النوعية التي ظهرت بها السينما الحديثة أدى لطرح العديد من التساؤلات في عالم الفلسفة والنقد السينمائي حول مستقبل الفن السابع وآليات الخطاب التجريدي والصورة التحليلية المعبّرة التي نجحت في مزج الواقع بالخيال ونسج سينما متطورة ذات أبعاد فلسفية عميقة مؤثرة، ولأن الإجابة على بعض هذه الإستفسارات كان ضرورة حتمية ضمن الملتقى الدولي للسينما والفلسفة بوهران فقد إرتأى المشاركون ضمن اللقاء لعرض بعض الأفلام السينمائية الضخمة وتحليلها فلسفيا بطريقة تبرز العلاقة بينها وبين عالم الفلسفة الشائك لتقع الأعين على فيلم الخيال العلمي الضخم "أفاتار" للمخرج الكندي جيمس كاميرون الذي أخرجه سنة 2009 لمدة عرض تقدر ب 166 دقيقة، وهو من بطولة كل من الممثلة العالمية "زوي سالدانا" في دور" نايتيري" والممثلة "سيجورني ويفر" في دور الدكتورة_ برايس "أوجيستين" في حين كانت البطولة المطلقة للممثل الأمريكي "سام ورثيجنفون" في دور "جاك سولي" وقد اعتبر هذا الفيلم من أغلى الأفلام إنتاجا في تاريخ السينما العالمية حيث كلف قرابة 300 مليون دولار على الأقل، وبعد عرضه بالصالات الأمريكية والعالمية رصد أكثر من مليار دولار في شباك التذاكر نظرا للنوعية الممتازة التي ظهر بها من ناحية الإخراج والتصوير، إضافة الى الشركة المنتجة له وهي "فوكس القرن الواحد والعشرون" قد ذكرت أن الفيلم حقق إيرادات بلغت قرابة 350 مليون دولار في صالات السينما الأمريكية فقط في حين حقق إيرادات تجاوزت 670 مليون دولار عبر أنحاء العالم في غضون 20 يوما من إصداره. ولم يتفاجأ النقاد السينمائيون كثيرا بهذا النجاح نظرا للخبرة الواسعة التي يتميز بها المخرج جيمس كاميرون الذي استخدم في فيلمه أحدث التقنيات الخاصة بالجرافيك والتصوير السينمائي حيث شهد فيلم "أفاتار" لمسة إبداعية خاصة ولدت صور سينمائية إعتيادية وصور أخرى طورها الكومبيوتر بشكل متقن وحديث تحمل دلالات الخيال العلمي وعالم الإثارة والمغامرات. أما عن الرموز والدلالات التي حملها فيلم "أفاتار" فقد شكلت محور نقاش في العديد من المناسبات لا سيما في هذا الملتقى الدولي حيث أوضح الأساتذة المشاركون أن رموز الفيلم تنتمي لعوالم متنوعة بين الإغريقية والإستلهام الثقافي مرورا بالترجمة الحرفية والاصطلاحية لمعنى الإسم " أفاتار" وهي كلمة ذات الأصل "السنسكريتي" وتعني "حلول الإله" في العقيدة الهندوسية مما يجعل الفيلم يحمل في عمقه رسالة ميتافيزيقية تهدف لتوحيد الكائنات الحية مع الإله في العالم بشكل ومضمون جديدين تتجاوز المادي الى الروحي وتجعل الفيلسوف يتوه في فرضيات علمية تعود للحياة الهندوسية ذات العقائد المتعددة، فيعمل على ربطها برموز فلسفية ودلالات تعبيرية خاصة بالإنسانية مئة بالمئة، حتى يعطي مفهوم واضح وتحليلي لكل حركة سينمائية خصوصا أنّ فيلم "آفاتار" ضم حركات تعبيرية رائعة ذات صبغة خيالية ملهمة تطرح بالدرجة الأولى فكرة "العودة الى الحياة من جديد" بعد قتل الممثل البطل وإرجاعه من جديد الى الحياة بإستعمال تقنيات عالية يستطيع المشاهد أن يحسّ ويعيش هذه اللحظات السينمائية. ❊ حياة تنتهي وأخرى تبدأ... قصة فيلم "أفاتار" تدور أحداثها في المستقبل عام 2154 بالتحديد حول فريق فضائي يحاول إستكشاف كوكب بعيد يسمى "باندورا" بعد أن قررت شركة إدارة تنمية الموارد التي أقامت قاعدة عسكرية على هذا الكوكب الذي يبعد 43 سنة ضوئية عن الأرض بهدف إستخراج خامات معدنية أن ترسل فريق مختص لتعويض الخسائر التي تعرضوا لها بعد إستنزاف الشركات لموارد الطاقة الأرضية، وبهذا الكوكب تعيش كائنات مشابهة للبشر يسمون "نافي" يتميزون بطول القامة ولون بشرة أزرق وثروة غنيّة بالحياة النباتية والحيوانية لكن سكان هذا الكوكب كانوا مهددين بالدمار الجسدي والبيئي بسبب أطماع الشركات الأرضية وهؤلاء ليسوا بشرا مئة بالمئة بل عرق آخر ذو صفات جسدية مختلفة نوعا ما، فهم أكثر طولا ولكنهم عرق عاقل ذو حس وإدراك متطور، علما أن هذا الكوكب لا يستطيع البشر أن يتنفسوا فيه بشكل طبيعي الأمر الذي دفع بالشركة لتطوير بعض أجساد "النافي" من خلال الهندسة الوراثية ليحل فيها بشر معين عن طريق برنامج "آفاتار" وهو مصطلح من الديانة الهندوسية يعبّر عن الحلول الإلهية حسب معتقداتهم في جسد إنسان أو حيوان، وعليه فإن علماء الأرض يقومون بدمج بعض الجينات والمورثات وتكوين أجسام جديدة تدعى "أفاتار" أين تكون الأجسام متصلة ويتم التحكم فيها ذهنيا بواسطة بطل الفيلم "جاك سولي" وباقي أفراد الفريق الأمر الذي يسمح بجعلهم يتنفسون ويتحركون بكل حرية في هذا الكوكب. وأكبر ميزة ألهمت الفلاسفة والنقاد هي فكرة "العودة الى الحياة من جديد بعد الممات« وإمتاع المشاهد بلحظات سينمائية راقية ومؤثرة برزت بوضوح من خلال بطل الفيلم "جاك سولي" وهو جندي سابق في البحرية الأمريكية أصيب بشلل في إحدى المعارك على الأرض مما منعه عن الحركة والمشي وفور تلقيه خبر هذه المغامرة والرحلة الخيالية لكوكب "باندورا" تظهر على وجهه علامات الدهشة وهو ينظر من كرسيه المتحرك متأملا ويلقي عبارة مزدوجة ذات معاني ودلالات فلسفية مؤثرة ومباشرة للمشاهد عندما يلمح لمصرع أخيه وترشيحه بدلا عنه لخوض غمار هذه الرحلة المجهولة والغامضة الى كوكب "باندورا« أما المعنى الفلسفي الآخر لعبارته فتبرز مع نهاية الفيلم الذي يشير من خلالها لنهاية حياته كإنسان واقتراب موعد بدء حياة جديدة أبدية على سطح الكوكب بعد أن فقد الأمل في العيش بسعادة وبطريقة عادية ليقرر الإندماج مع الطبيعة والإخلاص لشعب »نافي« الأمر الذي يبرز مقصوده الفلسفي ضمن العبارة التي قالها والتي يترتب عنها نهاية حياة إنسان كسيد للكون وبدء حياة جديدة في عهد »الأفاتار« باعتباره فردا من سكان »النافي« الذين يمتازون بالرقي والتحضر والأخلاق والقوة واحترام الطبيعة التي هي جوهر كل شىء. وحسبما أكده فلاسفة السينما فإن كوكب »باندورا« له علاقة مباشرة مع صندوق »باندورا« الذي عرف في الميتولوجيا الإغريقية على أنه يحمل كل شرور البشرية من جشع وغرور وافتراء وكذب كان قد أودع لدى امرأة تدعى »باندورا« التي أمرت بألا تفتحه لكنها فعلت وأخرجت كل شرور الشر منه مما قلب الموازين وجعل العالم يبدو أسودا ومخيفا، و »باندورا« طبقا للأسطورة الإغريقية فإنها تحمل الأمل في الخلاص من باقي الشرور التي تسببت فيها هذه المرأة من خلال هذا الفريق الذي جاء من الأرض ويحاول بطلها »جاك سولي« زرع الأمل والرجاء بين سكان هذا الكوكب. ❊ الحركة والشعور في قراءة الصورة السينمائية وكل هذه المفاهيم الفلسفية التي توصل إليها فلاسفة السينما تبرز العلاقة الوطيدة بين السينما والفلسفة وكيف تخدم كل واحدة منهما الأخرى لاسيما اذا تعلق الأمر بالأفلام العلمية بالسينما الأمريكية التي اتضح انها مغرمة بوضع نهايات حتمية للعالم وبدء حياة أخرى في كواكب غريبة ونائية، أين تظهر الفلسفة كخطاب تجريدي والسينما كصورة تعبيرية يمتزج بينهما الفكر والعاطفة حسبما أكده مختلف فلاسفة السينما أمثال هنري بريكسون وجيل دوروز اللذان تطرقا في العديد من النظريات لمفهوم الحركة والشعور في قراءة الصورة السينمائية مع توظيف آليات منطقية لتحليل الخطاب السينمائي أين أكد كل منهما أن السينما هي تصوير ضوئي لتسجيل فوتوغرافي لعرض حركي. وأضاف الفيلسوف »دوروز« أن السينما تطبيقات جديدة للصور والعلامات التعبيرية وهي أيضا أفق للتفكير الجديد وتتكون من صور متحركة تعتمد على آليات منطقية تستعمل بدورها في تحليل أي خطاب شفهي أو كتابي في حين أن الفلسفة تعمل على وضع المفاهيم والتفكير بواسطتها ومن خلالها لعرض مشاهد سينمائية مع استعمال الصورة والصوت والخيال للتعبير عن المضامين الفكرية. ليستنتج كل من الفيلسوفين أن السينما للمخرج ليست فرجة بل كتابة تؤخذ من الرواية الجديدة من حيث التقنيات في السّرد والتحليل، وما على المؤلف السينمائي سوى تقديم صور تعبيرية تنم على الإبداع والجمال للتأثير في نفسية المشاهد وإمتاعه. وذلك ما حمله فيلم »أفاتار« في مشاهده الخيالية على كوكب »بانادورا« الذي أعطى بدوره صورة واضحة عن الخيال العلمي والحياة الأبدية التي تناولها مختلف الفلاسفة كنظرية وعالجوها في نقاشاتهم وتحليلاتهم الفلسفية لاسيما إذا تعلق الأمر بعلاقة الإنسان مع الطبيعة الحيوانية، وقد ساهم بدوره المخرج الكندي جيمس كاميرون في إظهار الإنسان كسيد للكون لكن بصورة غير دائمة وفترات معينة من الألم والحزن وكيفية انتقاله للحياة الأبدية واندماجه مع كائنات غريبة ذات صفات متعددة تدخل أشكالها ضمن أساطير إغريقية قديمة تؤمن بها بعض الشعوب لاسيما الشعب الهندوسي الذي له تقاليد معينة عن طابع الخير والشر والبقاء الأبدي مما يولد مفاهيم فلسفية ذات أبعاد عميقة استعان بها مختلف المخرجين السينمائيين خصوصا أن الإعتماد على هذه الدلائل الفلسفية والمعتقدات الخاصة بالشعوب الهندوسية ساهمت كثيرا في نجاح الفن السابع المعاصر بعد أن رصدت هذه الأفلام أعلى المبيعات في شباك التذاكر ولقيت إعجابا وإقبالا كبيرا من طرف الجمهور الذي استهوته هذه التعبيرات الفلسفية والأبعاد المأخوذة من الروايات القديمة التي أنتجت خيالا علميا ولد كل أنواع الإثارة والمغامرة، وهي تجربة ناجحة جدا في عالم السينما خلال القرن 21 م التي صارت في أوجها وقمة تطورها ولا يتعلق الأمر فحسب بنوعية القصة بل بطريقة التصوير أيضا التي صارت تعتمد على التقنيات الحديثة والآليات المتطورة باستعمال الكمبيوتر بشكل يضع المشاهد أمام صورة إبداعية تلم بأحداث الفيلم الخيالي وتخلق أرضية وخلفية مؤثرة بألوان مدروسة غالبا ما تخرج عن البياض وتعتمد على اللون الرمادي والأسود وهو ما أقلق الفلاسفة الذين اعتقدوا أن هذه الألوان تخلق نوعا من الفراغ العاطفي والكآبة للمشاهد الذي أسرته قصة الفيلم الخيالي وأذهلته طبيعة الصورة التعبيرية التي استعملها المخرج للتأثير في عقله وادماجه ضمن القضية الخيالية وحياة الكائنات الغريبة على سطح هذا الكوكب إضافة الى طبيعة ما قامت به شركة الموارد لتطوير أجساد »النافي« وهم الكائنات من خلال الهندسة الوراثية حتى يحل فيها بشر محدودون عن طريق برنامج »أفاتار« المشتق من الديانة الهندوسية والتي ينِمّ مصطلحها عن الحلول الالهي حسب معتقداتهم في جسد انسان أو حيوان. وهو ما استعمله المخرج جيمس كاميرون في بطله »جاك سولي« الذي تشبع بهذه الروح الأبدية على كوكب »بانادورا« وامتلك حياة جديدة لمدى غير منته بعد أن كان يعيش حياة معدمة ومهددة بالزوال. بعد تعرضه لحادث مفجع بأحد المعارك جعله مشلولا ليجد أمامه فرصة ثانية لكسب حياة جديدة خالية من العيوب تكسبه عيشا أبديا ولا حدود له من خلال خوضه لرحلة مجهولة نحو كوكب »بانادورا«. وكل هذه التحليلات الفلسفية لفيلم »أفاتار« أبرزت العلاقة الوطيدة بين الفسلفة والسينما وأهمية كل واحدة منهما في خلق رؤيا جديدة لعالم الإبداع والجمال وامتاع المشاهد بكل ما هو درامي وخيال علمي من شأنه أن يرفع من درجة الإبداع السينمائي ويدفع به نحو التطور والرقي بغض النظر عن نوعية الفيلم ولغته لأن لغة السينما موحدة والتحليل الفلسفي موحد هو الآخر ولا يمكن الاختلاف عليهما مهما تعددت الآراء والأجناس.