ها هي الأيام قد دارت، وها هو الوقت يمضي، والشهر الكريم قد أزف على الرحيل. تلك أنواره توشك أن تنطفئ، وذاك نجمه قد قارب على الأفول بعد السطوع. تلك الليالي التي شعت بنور القائمين والتالين والعاكفين؛ أوشكت على الظلمة، والأيام التي عُمِّرت بالطاعة والتلاوة والصيام قد أوشكت على الوداع. إن وداع هذا الشهر ليهيج في النفس الأحزان، فكيف يفارق الحبيب محبوبه الذي يخشى أن يكون آخر العهد به، إنها لحظات لا ندري حقيقة أهي لحظات عزاء ومواساة، أم لحظات فرح وسرور. نعم: إن خروج هذا الشهر المبارك ليجمع بين الحالين: حال العزاء، وحال الفرح والتهنئة. فالعزاء لكل الأمة على وجه العموم؛ إذ ستفقد شهر الصيام، والقيام، والذكر، ستفقد تلك النفحات الربانية، والمنح الإلهية التي منحها الله عز وجل لعباده في هذا الشهر المبارك، فلحظات وداعه لا تُنسى، ولوعتها لوعةٌ لا تبلى، وإن حرقة الوداع لتُلهب الأحشاء، وإن دموعه لتحرق الوجنات بحرارة العبرات، وقد آن لهذا الشهر أن يودع كل مؤمن تذوَّق حلاوة الطاعة والأنس بالله. عزاؤنا في خروج هذا الموسم المبارك، والشهر الكريم؛ عزاء على وجه الخصوص لمن قصر عن استغلال الفرصة، وغفل فيه عن باب الجنة، ولم يحسن العمل. أن يكون ممن شملهم قول المصطفى صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى المنبر، فلما رقى الدرجة الأولى قال: آمين، ثم رقى الثانية، فقال: آمين، ثم رقى الثالثة فقال: آمين، فقالوا: يا رسول الله سمعناك تقول آمين ثلاث مرات؟، قال: ((لما رقيت الدرجة الأولى جاءني جبريل عليه السلام فقال: شقي عبد أدرك رمضان فانسلخ منه ولم يغفر له، فقلت: آمين، ثم قال: شقي عبد أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، فقلت: آمين، ثم قال: شقي عبد ذكرتَ عنده ولم يصل عليك فقلت: آمين)) صحيح الأدب المفرد. ومع خروج شهر رمضان المبارك يودعه المؤمنون في كل أصقاع الأرض، وأرجاء المعمورة، فمنهم من يودّعه بقلب وجلٍ يؤمّل قبول العمل ويخشى ألا يتقبّل منه. ومنهم من يودّعه ويودّع معه الأعمال الصالحة، وهذا هو المخذول الذي لم تتحقق ثمرة الصيام والقيام عنده، إذ إن الغاية من الصوم هي تحقيق التقوى في النفس، والتزكية للعبد في الأقوال والأفعال، فإن التقوى هي الكلمة الجامعة التي ختم الله بها آية الأمر بالصيام، ويجب ألا يُغفَل عنها بعد انقضاء شهر الصيام، بل تبقى شعاراً لأعمال الأفراد والأمم. وإن من نعم الله العظيمة علينا أن يبلغنا تمام هذا الشهر ويختمه لنا ونحن على الطاعة والإخبات والإنابة، وهي غنيمة لا ندري والله من يبلغها مرة أخرى، ومن يفضي إلى الله ولا تسنح له الفرصة لمثل هذه الأيام والليالي الفاضلة. فهلم نختم شهر رمضان بالتوبة إلى الله ، والإنابة إليه ، فإن كلاً منا لا يخلو من الخطأ والتقصير، وكل بني آدم خَطَّاء، وخير الخطائين التوابون. هلمّ نختم عملنا في هذا الشهر بالحمد والثناء على الله وكثرة الاستغفار. إذ هو مطلوب بعد كل عمل صالح لما قد يعتريه من نقص وخلل، فهو مكمل للأعمال وجابر لنقصها ، وأرجى لقبولها. وقد (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا انصرف من صلاته ، استغفر ثلاثاً )) رواه مسلم.