إذا رأيت كلبا مكشرا عن أنيابه، ينبح على السحاب ويريد أن يرعبه أو يسيء إليه فأشفق على الكلب المسكين الغبي، ولا تُبد خوفك على السحاب من أن تضره تلك النبحات أو تصل إليه تلك الأنياب فتمزق أوصاله لأنه أعلى وأبعد من أن يسمع تلك النبحات أصلا. بعد أن أدينا صلاة الصبح وخرجنا من المسجد التقيت بجاري ورحنا نتمشى رويدا نحو بيوتنا فخاطبني قائلا: هل سمعت ما قاله الشيخ الفلاني البارحة على الفضائية الفلانية من ردود مفحمة على ذلك الذي سب الصحابة وادعى على نسب أبي بكر الصديق بالانقطاع؟ فقلت له: إن أفحم رد على أولئك المستأجَرين بفتح الجيم هو السكوت وعدم الرد عليهم أو الاهتمام بهم، أرأيت إن كنت متوجها إلى أحد أشغالك الهامة أو قضاء إحدى حوائجك الضرورية ومررت بكلب مربوط أمام دار صاحبه فقام الكلب بالنبح عليك لأنه بطبيعته نابح على الغريب فإنك إن بقيت واقفا أمامه تستفزه وتستنفره فإنك ستجني على نفسك سيئتين: إحداهما تضييعك لأشغالك الهامة وحوائجك الضرورية والثانية اتهام الناس لك بالسفاهة والطفولية لأن ما تقوم به يعد من أفعال الأطفال السفهاء الأشقياء، هذا بالإضافة إلى الهيجان المتزايد الذي سيظهر على ذلك الكلب الذي لا محالة سيحاول تقطيع السلاسل التي تربطه والويل لك إن انطلق نحوك. أما إذا واصلت طريقك ولم تأبه لنباحه وتظاهرت وكأنك لم تره أو تسمع نباحه فإن نباحه عليك لن يطول وسيعود إلى مسكنه ذليلا حقيرا، وإني أرى أمر القضية السابقة منطبقا تمام الانطباق على ما ذكرناه من حال الكلب وحال من يجاريه فيزيده ذلك هيجانا أو يتجاهله فيخنس في مأواه ولا يُسمع له نباح بعد ذلك. لا يختلف اثنان على أن حال الأمة الإسلامية اليوم يدعو إلى الحزن والأسى، ولما آل إليه أمر المسلمين من ضعف وهوان على الناس، وحتى يبقى حالنا على ما هو عليه فإن الجهات المستفيدة من هذا الوضع لن تألوا جهدا ولن تعدم حيلة في إبقاء حالة الضعف على ما هي عليه، بل إنها دائمة البحث والتفكير في الوسائل والطرق التي تزيد بها من شتات الأمة وتفرقها، لهذا صرنا نسمع بين الفينة والأخرى غرابا ينعق من الغرب أو كلبا ينبح من الشرق سبا وشتما لنبي الإسلام أو صحابته الكرام، وإني أرى أن هذه الشتائم والمسبات لا تخرج عن إطارين: الأول: إما أن يكون صاحبها من الكفار الذين أظهروا العداء للإسلام وضاقوا ذرعا بعدم سقوط الإسلام وبقائه صامدا صافيا نقيا رغم محاولات التشويه والمسخ التي قام بها هؤلاء الحاقدون عليه، ورغم النكبات المتوالية التي أصيب بها أهله، بداية من الحروب الداخلية والصراعات المذهبية والتقاتل على المناصب مرورا بحروب المغول والتتار والحروب الصليبية ومحاكم التفتيش وحروب الإبادة... فلم يجد هؤلاء من وسيلة للتنفيس عن أنفسهم إلا بتدنيس المصاحف وحرقها وسب نبي الإسلام والإساءة إليه بالكلام والرسوم. الثاني: وإما أن يكون صاحبها ممن ينتسبون إلى الإسلام في الظاهر فأجَّروا عقولهم وأقلامهم وألسنتهم لمن يهمه سب الإسلام وأهله، زرعا للفتنة وتأليبا للمسلمين على بعضهم، حتى يبقى التناحر قائما بينهم ولا يلتفتوا إلى قضاياهم المصيرية التي من أجلها عُلِّقت أمانة الإسلام في أعناقهم، وعلى رأسها الاتحاد وعدم التفرق في الدين ونصرة بعضهم البعض مهما اختلفت أجناسهم ومذاهبهم عملا بالقاعدة النورسية -نسبة إلى الإمام بديع الزمان النورسي رحمه الله- التي تقول: ''عندما يكون هناك اتفاق على الحق، ولكن مع وجود خلاف على الأحق، يكون الحق أحق من الأحق'' فلو فهم المسلمون هذه القاعدة حق الفهم، وطبقوها في حياتهم وعلاقاتهم المذهبية لما سمع أحد بنباح تلك الكلاب أو نعيق تلك الغربان التي تنطلق من هنا وهناك، لأنهم في تلك الحال لن يجدوا ما ينبحوا عليه، لأن الألسنة التي سينطقون بها حينذاك ستكون مقطوعة، ولأنه لن يوجد يومئذ من يلقي لهم بالا أو يهتم لأمرهم، أو يرد عليهم نباحهم والسلام.