إن المقصود بالغالب والمغلوب في مقولة ابن خلدون لا يعني بالضرورة اختلالا في موازين القوى، يقول أحد المفكرين:'' ... داء التقليد الأعمى الذي يصيب المجتمعات الإنسانية هو وليد كسبهم وفعلهم الذاتي'' ويقول آخر:'' إن الخليط الذي تتألف منه تركيبة مجتمعاتنا يعاني في مجموعه من فراغ إيديولوجي_ إن جاز التعبير_ ومن ثم فإنه يعاني من حالة استسلامية تجعله معرضا لقبول كل ما يفد إليه بل كل ما يمر به '' ويفسر المستشرق الإنجليزي ''جب'' تبعية المجتمعات الإسلامية للدول الأوربية الصناعية في الغرب، بضعف المجتمع الإسلامي وعدم استطاعة ما فيه من ثقافة وقيم إلى إيجاد وحدة ثقافية متكاملة تحفظ عليه التوازن وليس إلى إكراه الغرب واستعماره. فنحن وإن كنا نوافق هذا المستشرق في حقيقة ضعف المسلمين كسبب في ولعهم بالغرب،فإننا لا نوافقه أبدا في اتهامه للقيم والمبادئ الإسلامية بقصورها عن إيجاد البديل، لأننا نعتبرها قيم معطلة ومغيبة. متى أعطيت الفرصة آتت أكلها ولو بعد حين. لا أقصد من وراء هذا الكلام تبرئة الاستعمار من جرائمه التي ارتكبها ولا زال يرتكبها في حق إنسانيتنا وإسلامنا، ولكن الحقيقة أننا أصبحنا أكثر تبعية وولعا به في ظل الاستقلال مما كنا عليه أيام الحرب والمواجهة المباشرة! لقد كبلتنا عقدة الاستعمار والضعف وأصبحت تمنعنا من أي محاولة للإقلاع، ولسان حالنا يقول: لسنا بقادرين على مواجهة التحديات لأننا ضعفاء أمام قوي، فنحن عاجزون عن الانتقاد وعن الاستفسار وحتى عن الكلام، صرنا لا نجرأ أن نتصور أننا قادرون على أي عمل صغير، أو كبير دون اللجوء إلى الغرب نستشيره ونطلب نصائحه، حتى لو كان الأمر الذي نستنصحه فيه من صميم هويتنا وثقافتنا المغايرة تماما لما عليه الغرب من قيم زائفة وثقافة مادية بحتة، أجل بلغنا هذا المستوى من الضعف وعدم الثقة بالنفس، ولا شك أن الجيل الذي يستحقر نفسه بنفسه يكون حقيرا عند الآخر أيضا. يتضح مما سبق أن للغالبية حدود تتوقف عندها ولا تتعداها، وهذه الحدود تتمثل في التطور التكنولوجي الذي عرفه الغرب من خلال نهضته العلمية والصناعية، هذه النهضة التي ليست حكرا على الغرب وحده، بل من حق كل الشعوب أن تستفيد منها وتأخذ نصيبها من منافعها، لأن المبادئ التي بنيت عليها هذه النهضة هي عبارة عن إرث إنساني مشترك، ومبدأ تطور التاريخ أكبر شاهد على هذه الحقيقة، فليست هناك والحالة هذه- بداية معرفية صفرية، فكل حضارة أو مدنية أخذت من سابقاتها ما به بنت نهضتها، وأبسط مثال على هذا الأمر، تطور تاريخ النقل وآلات الفنون ومعدات الحروب ووسائل الاتصال وغيرها، فالعجلة المطاطية-مثلا-التي نتنقل عليها اليوم بكل راحة واطمئنان، ينتهي نسبها إلى الحضارة السومرية صانعة أول عجلة في التاريخ قبل أكثر من خمسة آلاف سنة ، هذه الحضارة التي ضمتها بلاد ما بين النهرين، وهي تدك اليوم وتدمر على أيدي لقطاء التاريخبتعبير الأستاذ نعمي- وما يقال عن العجلة يقال عن منهج الاستقراء العلمي وليد الحضارة الإسلامية، والذي استفاد منه الغرب أيما فائدة في بناء صرح نهضته التي أصبح يتطاول بها على المسلمين، وهم في سبات وغفلة عما يحاك حولهم من مؤامرات الإفناء والإبادة، بل وفينا من يقول: كل شيء بخير والحمد لله الذي سخر لنا الغرب يصنع ويتعب، ونحن نستهلك ونتفرغ للعبادة فقط. أجل إن الحضارة الحقيقية هي تقليد الغرب في أنماط العيش واللباس والعلاقات الاجتماعية والممارسات السياسية والثقافية ألا تبا لهذا المنطق الأعوج الذي يجعل من اللصوص الذين يسرقون الشعوب في وضح النهار مثالا للقيم التي تحتذى وتتبع، وتصبح مطمحا لكل من يريد أن يصير متحضرا ألم يأن لنا أن نستفيد من هزائمنا فنبني منها عزائمنا، ونسعى لتعمير الأرض غالبين لا مغلوبين؟ إذا أصبحنا في مستوى ذلك فإن وعد الله عز وجل سيتحقق لنا وهو القائل: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون الصالحون في تعميرها ولتعميرها. إنتهى