ها هي الذكرى الخمسين لمظاهرات 11 ديسمبر 1960م التي بينت للعدو قبل الصديق، وللقريب والبعيد، مدى وحدة الشعب الجزائري والتفافه حول مهامه الوطنية ومقومات حضارته ( الدين و اللغة و التاريخ...). مظاهرات سلمية أعلن من خلال الشعب الجزائري عزمه على تحرير وطنه واسترجاع حريته وحفظ كرامته وعزته. ذكرى 11 ديسمبر إحدى أهم محطات الثورة الجزائرية، التي اعتبرت بحق أعظم ثورات القرن العشرين، ''تنظيم محكم ونفس طويل وصدى واسع المدى''. ثورة قادها رجال تخرجوا من مدرسة الحياة عبر مراحل الحركة الوطنية، أبناء شعب تلاقت رؤى أفراده في نقطة التصدي للاستعمار والحفاظ على الهوية الوطنية، فشكلت قوة ضاربة كبحت جماح الاستعمار وفندت مزاعمه وأبطلت مفعول حساباته المغلوطة ودسائسه وحماقته. من تعلموا العربية تصدوا لتغريبه، ومن تعلموا الفرنسية تصدوا لفلسفته ومراميه وفندوا ادعاءاته والعاملون تصدوا لمفاسده. يحضرني الآن ما قرأته من أرشيف مجلة الآداب لسنة 1953م،عبر مقال لمراسلها من باريس تناول من خلاله تحليل روايتين جزائريتين: {الربوة المنسية مولود معمري} و{والبيت الكبير محمد ديب}، يتعجب المراسل من الموقف المعارض للاستعمار في الأدب المكتوب بالفرنسية !!!. ويشير إلى أن الأدب في شمال إفريقيا تطغى عليه السياسة. هكذا توحد الشعب واطمأن مفجرو الثورة وضمنوا بيان أول نوفمبر دليل اطمئنانهم ''انظر الفقرة الأولى منه''.. اليوم وبعد خمسين سنة على مظاهرات11 ديسمبر التي قلبت خطة ديغول الرامية لمساندة سياسته وخروج الفرنسيين في مظاهرات واستقباله في عين تموشنت يوم 9 ديسمبر 1960م. وشوشت خطت المعمرين من أنصار الجزائر فرنسية ومحاولتهم فرض الأمر على الجزائريين للرد على سياسة ديغول الداعية إلى اعتبار الجزائر للجميع، فعملت جبهة التحرير الوطني على التصدي لسياسة ديغول و المعمرين معا، ودخلت حلبة الصراع بقوة شعبية هائلة رافعة شعار الجزائر مسلمة مستقلة، الجزائر جزائرية، لتضرب الغلاة القتلة بقادتهم. وعبر ذلك التلاحم والتماسك الشعبي أكدت حقيقة الاستعمار الفرنسي الإجرامية و فظاعته أمام العالم، وبرهنت على مساندة شعبية مطلقة لجبهة التحرير الوطني فاقتنعت هيئة الأممالمتحدة بإدراج ملف القضية الجزائرية في جدول أعمالها و صوتت اللجنة السياسية للجمعية العامة لصالح القضية الجزائرية رافضة المبررات الفرنسية الداعية إلى تضليل الرأي العام العالمي. ما زاد من اتساع دائرة التضامن مع الشعب الجزائري عبر العالم خاصة في العالم العربي و فرنسا نفسها. واليوم كالأمس، فالوقائع السياسية في العلاقات الجزائرية الفرنسية التي تتململ مكانها وتتجه في الضفة الأخرى نحو مزيد من التعقيد، تكشف عن سياسة بنظرة كولونيانية تواصل من خلالها فرنسا تجاوز السيادة الوطنية وإهمال تضحيات شعب عانى الويلات والهمجية مدة تفوق 132 سنة، أولها الزوبعة التي أثارها الإليزيه بتمجيده همجية الاستعمار تحت غطاء الحضارة، وزاده ساركوزي تعفا بسياسة التحدي ومحاولة المساس بمشاعر الجالية، وتعمد الخلط بين التطرف والإرهاب من جهة، والقيم الإسلامية والعربية من جهة ثانية. تراه يتحيّن الفرص بوضوح ويحاول الدخول من الثغرات لدس دسائسه، بالبحث عن علاقة على مقاسه، دون إعطاء الطرف المتضرر من جرائمه البشعة الموصوفة بالهمجية وضد الإنسانية ما يستحق. والإخلال باتفاقية الطرفين سنة 1968 لتنظيم الهجرة والتضييق على الهجرة الجزائرية باتجاه فرنسا، بوضع شروط صعبة للحصول على تأشيرة السفر لمجرد السياحة، و تبرير ذلك بالدواعي الأمنية واشتداد ظاهرة الإرهاب بالجزائر؟!! وعلى خلفية اعتماد الجزائر مبدأ المصالحة، وفي ظل السياسة الانفتاحية للجزائر تمكنت فرنسا من تدعيم وجودها في مجالات الاستثمار والشراكة، واستغلال الفرص المتاحة في مختلف المجالات الاقتصادية، ما مكن من الولوج السهل للمتعاملين الفرنسيين وأوجد روابط وعلاقات شخصية بين المسؤولين على أعلى المستويات ،و بقى التعاون الاقتصادي بعيدًا عن توترات الأجواء السياسية رغم احتفاظ الذاكرة الجماعية عند الجزائريين بصورة الاستعمار. لكن إثارة ساركوزي لمسألة العشرات الآلاف من الجزائريين الذين جندتهم فرنسا ضد الوطنيين، ومارسوا أساليب القمع الشنيع ضد المدنيين ''مذابح جماعية، وتعذيب وإعدام المعتقلين والأسرى ودوس المقدسات، والإسراع بترقية أبناء غلاة الحركى وغلاة الاستعمار الذين مازال يراودهم الحنين إلى العودة إلى الجزائر أسياداً كما كانوا في زمن الغزو العسكري، والسعي لاستعادة عقارات اكتسبوها بعد إبادة أصحابها الجزائريين، وتجريد آخرين. فعل كل ذلك إرضاء لليمين المتطرف وإخمادا للهيب السخط ضد سياسته، وحين أوهمه الخونة المتسترين أن أعباء الحياة اليوميّة أنست الجزائريين ويلات الاستعمار. فراح يصول ويجول في بحر نواياه دون أن يضع في حسبانه مقاومة شرائح واسعة من الرأي العام الوطني الجزائري لسياسة طي الماضي بدون محاسبة. فحساسية الجزائريين لكل ما يتعلق بهذه المسألة عميق بعمق الجرح ما يحول دون رؤية موحدة حول انعكاسات الاستعمار الفرنسي في الجزائر. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: الجروح لم تلتئم والجماهير الجزائرية لم تنس ويلات الاستعمار ومكائد فرنسا وأعوانها من الخونة مستمرة. جيلان من قادة الجزائر ينتميان إلى زمنيين مختلفين، وتجربتين مختلفتين هما اليوم في ذات الخندق، انشغال الجماهير يتزايد، ودوائر الأسئلة تكبر وتتسع، فهل هناك اليوم بين التشكيلات السياسية الجديد منها والقديم التي تتبارى في كل مناسبة بالتغني بوفائها لبيان أول نوفمبر 54 وعهد الشهداء، من هو قادر على التصدي للسياسة الاستعمارية الجديدة؟ على غرار ما فعل عظماء نوفمبر في مواجهة السياسة الديغولية؟؟