تقتضي حاجة التنقل اليومي سواء للذهاب إلى العمل أو للدراسة أو لأي مكان آخر، استقلال المواطن الذي لا يملك سيارة خاصة لوسيلة نقل عمومي، تكون إما ''تاكسي'' أو حافلة. إلا أنه عادة ما تكون هذه الأخيرة محل تذمر واستياء غالبية الركاب، نتيجة قدمها واهترائها والمشاكل التي تعترض الجميع لدى ركوبها. فإذا نجوت من وصولك متأخرا بسبب عطب قد يصيبها، فإنك حتما ستواجه مشكلة من نوع آخر وأنت على متنها، تكون إما تكدسها الذي يقطع الأنفاس، أو شجارا ينشب أمامك فتعجز عن تفاديه، أو وقوفها الطويل أمام محطات فرعية، هذا ناهيك عن ما تلاقيه الفتيات داخلها من تحرش ومضايقات. في الوقت الذي تشهد دول العالم انجازات عملاقة متعلقة بالحافلات الحديثة والقطارات السريعة والميترو المجهز بأعلى التقنيات، يبقى المواطن الجزائري يحلم بتحقيق المشاريع الكثيرة التي سطرتها الدولة في هذا المجال، والتي بلغ العديد منها مراحل متقدمة، كمشروع الميترو الذي يجري العمل عليه منذ ثلاثة عقود، والذي ينتظر تسليمه بداية من سنة ,2011 إضافة إلى البرنامج الضخم لتجهيز 14 مدينة في الجزائر بشبكة الترامواي، وعدد من القطارات السريعة والحديثة التي تم اقتناؤها مؤخرا. إلا أنه وفي انتظار هذا كله، لا يزال المواطن يعاني من جحيم الحافلات التي أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها ''خردة قديمة'' انتهت صلاحيتها، تصلح لنقل الماشية لا البشر. يكفي أن تسأل مواطنا يستقل هذا النوع من الحافلات في رحلة بين الشراڤة ومحطة تافورة أو الدويرة ونفس المحطة -على سبيل المثال لا الحصر- عن رأيه فيها، ليبدأ بسرد معاناته ومأساته مع هذه الأخيرة، في حكايات قد لا تنتهي، تجسد الكابوس الذي تمثله بالنسبة إليه، خاصة أنه في كل مرة يجد نفسه مرغما على ركوبها، لسبب أو لآخر. رحلاتها شاقة تصيبك بالتعب الشديد والصداع وتعكّر المزاج يتطلب منك السفر عبر الحافلات العجوز التي أكل عليها الدهر وشرب، والتي يزيد عمرها عادة على الخمس وعشرين سنة، تحضيرا نفسيا كبيرا لتحمل الرحلة الشاقة التي تنتظرك، خاصة إذا كانت هذه الرحلة من محطة رئيسية إلى أخرى، وكنت واقفا طوال الوقت، باعتبار أن حجزك لمقعد فيها أمر غير مضمون دائما، نتيجة الاكتظاظ الكبير الذي يميزها، ما يفسح المجال واسعا أمام مظاهر وسلوكيات مقلقة تعكر المزاج وتتسبب في إزعاج كبير. وقد عبر مستعملو هذه الحافلات العجوز ل''الحوار'' عن تذمرهم الشديد حيال الظروف الصعبة التي يكابدونها خلال الساعات الطويلة التي يقضونها داخلها لكونها أصبحت عاجزة عن السير بسهولة نظرا لقدمها، وما ينجر عن ذلك من مشاكل، حيث تتوقف في كثير من الأحيان وسط الطريق مخلفة ازدحاما شديدا، ينتهي في العديد من المرات بمناوشات تقع بين السائق والركاب الذين يهدرون الكثير من الوقت داخلها بسبب تباطئها، دون الحديث عن أنواع الروائح الكريهة التي تملؤها، بسبب تكدسها بعدد هائل من الركاب، وكذا الحرارة المرتفعة جدا صيفا، وقطرات المطر التي تبلل مقاعدها وتسيل على جدرانها شتاء. وما يزيد في مأساة المشهد ذلك العبث الذي يمارسه بعض أصحابها ''المراهقين'' عندما تراهم يتسارعون من أجل الظفر براكب يحصلون عليه هنا أو هناك، دون مراعاة مساراتهم أو أماكن توقفهم القانونية، ولا العدد المسموح به، في صورة تشبه إلى حد كبير تسابق المفترس نحو فريسته داخل غابة لا يحكمها سوى قانون ''القوي يأكل الضعيف''، لتكون النتيجة تلك الاختلالات في توازنها، إذ ما إن تراها إلا وتجزم أنها ستهوي بركابها في أي لحظة، ناهيك عن كميات الدخان والغبار المنبعثة منها والتي قضت على ما تبقى من هواء نقي في سماء العاصمة. ولك أن تسأل أي مواطن ممن يستقل هذه الحافلات بشكل يومي عن حالته بعد النزول منها، ليخبرك عن إصابته بالصداع من جراء الصوت المزعج الذي تحدثه، والإرهاق الشديد بسبب الوقوف غير المريح، إضافة الى تعكر مزاجه نظرا للمشاكل المتعددة التي تصادفه وكذا السلوكيات السلبية التي تكون هذه الحافلات عادة مسرحا لها. ''نكره هاذ الكار، لازم يبدلوهالنا''، ''نركب بالسيف فيها، وديما يسرالي مشكل...''، ''عيينا من هاذ الكيران القدم'' وغيرها، هي عبارات وأحاديث تتردد بين غالبية المواطنين الذين يجدون أنفسهم في كثير من الأحيان مجبرين على الصعود على متن هذا النوع من الحافلات، رغم سخطهم عليها ونقمهم على خدماتها، ليجد المواطن المسكين نفسه محصورا بين سندان ركوبها ومطرقة غلاء البديل المتمثل في التاكسي أو حافلات النقل الحضري، والتي يرى كثير من الناس أن أسعارها مبالغ فيها، إذ أن السعر الأدنى لها يقدر ب20 دج وذلك للتنقل من محطة فرعية إلى أخرى، حيث تكون المسافة عادة قصيرة جدا لا تستحق هذا الثمن المرتفع، لتبقى هي الحل الآني المتوفر، في انتظار البديل الكفيل بضمان سلامة وكرامة وخاصة راحة هذا المواطن. الأعطاب، السرقة، التحرش والعراك.. مشاهد يومية داخل هذه الحافلات! إن عملية وصف حالة الحافلات القديمة التي غزت طرقاتنا وشوهت مجال النقل بشكل عام في بلادنا، باتت لا تحتاج إلى خبير صيانة أو مختص في الميكانيك، لتشخيص وتقييم وضعيتها، إذ يكفي النظر إليها نظرة سطحية لتتنبأ بما يمكن أن يحدث لها أثناء قضاء رحلاتها، من أعطاب كثيرة، كانفجار أحد عجلاتها أو تصاعد الدخان الكثيف من ورائها، برائحته المقرفة والخانقة، أو تعطل الفرامل أثناء السير، والتي تكون في غالب الأحيان غير آمنة ومصدرا للكثير من الحوادث الخطيرة. هذا الأمر أكده ل''الحوار'' كثير من الركاب الذين صادفناهم. وحسب شهادات العديد منهم، فإن هذه الحافلات تشكل خطرا على مستعمليها، حيث أدت في كثير من الأحيان إلى سقوط الركاب أثناء نزولهم بسبب تآكل درج الباب، أو إقلاع السائق أثناء نزول راكب ما، الأمر الذي يتسبب في كثير من الأحيان في أحداث مؤسفة، يروح ضحيتها طفل صغير أو عجوز مسن. ولعل ما حدث في رمضان الفارط يعكس صورة حقيقة لما يحدث في الجزائر والبزنسة بأرواح الجزائريين في مراكز المراقبة التقنية الخاصة، حيث أثبتت التحقيقات في حادث حافلة ب''عين الملاح'' أن عمرها يتجاوز 32 عاما ومهترئة على الآخر، ولكن المشكل أنها خضعت للمراقبة التقنية للمركبات بوكالة خاصة، وكان محضر المعاينة والمراقبة إيجابيا رغم اهترائها.. كان من المفترض أن تخرج من مركز المراقبة التقنية إلى محشر السيارات. أما ما زاد الطين بله، فهو سلوكيات من يعرفون بتسمية ''الروسوفور''، حيث باتت تصرفات الغالبية منهم محل انتقاد المواطنين، فبالإضافة إلى صراخهم اللامنقطع من أجل الإعلان عن وجهة الحافلة، أو أثناء الوصول إلى محطة ما، تجد عباراتهم المسيئة والتي يردون بها على كل من ينتقد المكوث الطويل للحافلة دون سبب في المحطات الفرعية، على شاكلة ''لي ما عجبوش الحال يركب طاكسي''.... والتي تؤدي إلى نشوب مناوشات كلامية تتطور أحيانا إلى عراك، يسيء إلى العائلات الراكبة، الأمر الذي يتحول إلى مصدر قلق واضطراب بالنسبة إليها. إلى جانب هذا فإن حكايات السرقة والتعدي على الحرية الشخصية للركاب بالكلام الفاحش، والتحرش الجسدي الذي تتعرض له الفتيات بل وحتى النساء الكبيرات في السن، من قبل أصحاب النفوس المريضة، كثيرة حيث تحولت إلى مشاهد يومية ومتكررة، سببها الرئيسي الاكتظاظ المرعب لهذه الحافلات. مالكوها الخواص يتحججون بانخفاض أسعار تذاكرها مقابل أعباء الصيانة من جانبهم فإن أصحاب هذه الحافلات من فئة الخواص، يجدون دائما من الأعذار ما يفسر الحالة السيئة لحافلاتهم، فما إن يسمعونك تتحدث عنها إلا ويطالبونك باستقالة تاكسي أو الذهاب إلى شراء سيارة خاصة لتتمتع بالراحة، مؤكدين أن الأسعار التي يعملون على أساسها منخفضة، ما يتوافق وحالة حافلاتهم. ولكن الغريب في الأمر أن هذه الأسعار والتي تتراوح في غالب الأحيان، ما بين 10 إلى 25 دينارا جزائريا، حيث يقدر الثمن بين محطة وأخرى ب 10دنانير، تشهد أحيانا ارتفاعا غير مفسر، ليصل السعر بين محطة فرعية وأخرى إلى 15 دينارا جزائريا، ما يستدعي التساؤل عن المسؤول الحقيقي والمتحكم في هذه الأسعار المتأرجحة على حسب هوى أصحابها المالكين؟!. من جهته أكد السيد ''عيدر''، رئيس الاتحاد الوطني للناقلين الخواص منذ ,1997 أن 80 بالمائة من الناقلين يواجهون مشاكل مع الضمان الاجتماعي و90 بالمائة مدانون للبنوك، مضيفا أن هذا ليس ذنب الناقلين بل ذنب الدولة، لأن الناقلين لم يتمكنوا من تجديد حافلاتهم بسبب الأعباء والإجحاف والضرائب المفروضة عليهم والفوضى في التسيير، ما جعلهم عاجزين عن تجديدها. كانت مؤسسة سونا كوم في التسعينيات تبيع الحافلات للناقلين ب70 إلى 90 مليونا للحافلة، لكن اليوم أصبح سعر الحافلة يساوي مليار سنتيم وبعضها أكثر، في وقت بقيت أسعار النقل دون زيادة، ما أدى إلى تآكل أرباح الناقلين الذين عجزوا عن شراء حافلات جديدة، ثم إن الحافلات تحتاج إلى صيانة ومراجعة دورية وتجديد قطع الغيار، ومداخيل الناقلين لا تغطي كل هذه الأعباء. مضيفا أنه إذا كانت مؤسسات النقل التابعة للدولة تستفيد من دعم الدولة ومع ذلك رفعت تسعيرتها بنسبة 150 بالمائة، فإن الناقلين الخواص أولى وأحق برفع تسعيرة النقل، لأنهم يشترون الحافلات من جيوبهم، ودون دعم من الدولة، ومقابل كل ذلك، نجد أن الناقل ملزم بتوظيف سائق وقابض يعملان 24 يوما في الشهر، مقابل عطلة الأسبوع المقدرة ب 8 أيام في الشهر، أي 52 يوما عطلة أسبوعية سنويا، ومجموع عطلتهما معا يساوي 104 يوم في السنة، زائد عطل الأعياد والمناسبات، زائد العطلة السنوية المقدرة ب 30 يوما، وكلها عطل مدفوعة الأجر. يضاف إلى ذلك أن السائق يتقاضى راتبا قدره على الأقل 20 ألف دينار، والقابض يتقاضى راتبا لا يقل عن 15 ألف دينار، زائد 33 بالمائة تكاليف التصريح للضمان الاجتماعي. كما أن الحافلة التي تتسع ل 50 شخصا يجب أن تقلع على الأقل ب 35 راكبا لتكون مربحة، أي أن تكون 65 بالمائة من مقاعدها محجوزة، في وقت تضطر الكثير من الحافلات للإقلاع بمقاعد شاغرة، زائد تكاليف المازوت، حيث أن 100 كيلومتر تتطلب 80 لترا من المازوت ذهابا وإيابا، وسعر هذا الأخير يقدر ب 70,11 دج للتر، كما يدفع الناقلون ضريبة ''التيفيا'' المقدرة ب 17 بالمائة. بالمقابل، تهّجم عميد الشرطة السابق محمد العزوني المعروف بالشرطي المخفي ورئيس جمعية طريق السلامة، على الناقلين الخواص بوصفهم سائقي وسائل القتل الجماعي، مبررا حكمه هذا بنقص وعي السائقين الذين يعتقدون أنهم ينقلون البضائع والبطاطا عوض البشر، حيث انجر عن هذا اللاوعي والتساهل حوادث مأساوية تتسبب في مجازر جماعية، داعيا الجهات الوصية إلى استبدال سياسة ''البريكولاج'' بمخطط مرور ونقل مدروس يحفظ أرواح الجزائريين. .. والمشاريع القادمة أمل المواطن للتخلص منها نهائيا تمثل المشاريع المستقبلية المسطرة من طرف الدولة، شعاع الأمل الوحيد بالنسبة للمواطنين، للتخلص من هذه الحافلات التي بلغت مرحلة التقاعد. وفي هذا الإطار كشف عمارتو، وزير النقل، عن برنامج الوزارة والآفاق المستقبلية التي تتضمن عددا من الملفات الكبيرة والطموحة إلى غاية سنة ,2016 مضيفا أنه حان الوقت لجعل القطار وسيلة النقل رقم واحد والتي ستكون وسيلة تنافسية بين كل الوسائل الأخرى، حيث أكد الوزير أن البرنامج الحالي سيدعم الشبكة بأكثر من 10 آلاف كلم في آفاق ,2014 آخذا بعين الاعتبار المشاريع التي هي في طور الانجاز بالإضافة إلى الخطوط التي سجلت بها مشاريع لتحديث الخطوط الموجودة. هذا وصرح الوزير من جانب آخر أنه تم اقتناء 17 أوتوراي 16 منها باشرت أو ستنطلق في القريب العاجل في العمل، إضافة إلى مشروع الميترو الذي بلغ مراحل متقدمة، إذ أعلن الوزير عن استكمال الخط الأول منه، حيث سيتم تشغيله بعد تسوية ''بعض الجوانب'' الأمنية المرتبطة باستغلاله. كما نص البرنامج كذلك على ضمان المداومة في تأمين النقل للمواطن في كل الأوقات والأيام والمناسبات وضمان سلامة المستعملين وحقوقهم وتفعيل وسائل الرقابة التقنية للمركبات التابعة للقطاع العام والخاص، بما يساهم في التقليص من حوادث المرور، ودعم وترقية النقل الحضري العمومي بتوسيعه إلى مختلف مقرات الولايات والتجمعات السكانية الكبرى وإلزام الجماعات المحلية بتوفير مرافق الخدمات اللائقة وفقا لمخططات التوسع العمراني وتزايد السكان. واحتراما لقواعد المنافسة أكد على ضرورة تحسين المنظومة التشريعية والتنظيمية للقطاع والاهتمام أكثر بصيانة الطرق وهياكل النقل القاعدية بما يضمن الحفاظ على وسائل النقل ومردودية استعمالها، وإلزام المستثمرين العموميين والخواص بالصيانة الدورية لعتاد النقل وتجديده عند الاقتضاء وفقا لمقاييس السلامة على الطرقات، وإعادة النظر في لجان النقل على مستوى الولايات تركيبة وتنظيما وعملا. ما يدعو إلى التفاؤل بقرب أجل الهياكل القديمة للمواصلات الحالية.