تسارعت الأحداث أواخر ثمانينيات القرن الفارط مع انهيار المعسكر الشرقي وهبوب رياح التعددية، وتغلغل مد الرأسمالية المتوحشة، فاستغل ما عرف عندنا بجناح الإصلاحيين أو التجديديين الظرف داخل بيت الحزب العتيد ليشعل فتيل أحداث أكتوبر ,1988 ويمهد لتعديل الدستور كأولى الخطوات مواكبة لما يجري بالخارج، وقطيعة أريد لها مع النظام الموجّه، هذه هي الرواية الأقرب إلى الحقيقة - وباقتضاب - حسب متتبعي الشأن السياسي لجزائر ما بعد الاستقلال. ولأن الأحداث كانت تسير بسرعة جنونية، فقد جاء تعديل الدستور ذات فبراير من عام 1989 متسما بنوع من الاضطراب والتسرع أو لنقل أشبه بعجة بيض، لجأ إليها صاحبها لسد الرمق ليس إلا، تجاوبا مع تسارع جغرافي وسياسي فاق التوقعات، حتى أن المبشرين بالعهد الجديد فتحوا الأبواب والنوافذ باحتشام، فالتأسيس للحياة الحزبية تحدثوا عنه ولكن بطريقة توحي لأصحابها وكأنهم يكسرون الطابوهات، حيث بدل الجهر بإنشائها تم إدراج عبارة ''الجمعيات ذات الطابع السياسي''، وأما الذين هلّلوا لميلاد الجمهورية الثانية، فسرعان ما انطفأ وهجهم، لأن الدستور المعدّل تم تفصيله بمقاس متسرّع ولم يجسّد طموحات وآمال عرابيه، لاسيما في الشق المتعلّق بالفصل التام للسلطات، وجاء التعديل الموالي لعام ,1996 غير أن ''الثورة الدستورية'' الطامح فيها لم تترجم لا في الوثيقة ولا في الميدان، دستور لا يحسم البتة في ماهية النظام لا هو برلماني ولا هو رئاسي ولا هو شبه رئاسي، وحتى النواب باتوا يسوّغون ''سلبية'' حصيلتهم بتبرير تبعية المنبر للجهاز التنفيذي، فأي خروج عن النص سيكون مآله الترويض بعصا الطاعة أو الحل. ويقول فقهاء السياسة إن دستور 96 ضبط خصيصا لكبح جماح الانفتاح العشوائي للتعددية الجزائرية، وسحب البساط من تحت المتاجرين والمزايدين بالسجل التجاري للهوية الوطنية لاسيما في شقيها الثقافي والديني، دستور أملته المأساة الوطنية والذي حاول من خلاله المشرّع الجزائري الحيلولة دون تعاظم خطرها المتربص بمعالم الجمهورية والسعي لتجفيف منابعها ما أمكن إلى ذلك سبيلا. والحال نفسها مع دسترة الأمازيغية التي فرضتها سياقات مرحلية جديدة، عجلت بها أحداث سياسية واجتماعية صنعت الحدث لأشهر، في تساوق طبيعي رغم النقائص في التأقلم مع معالم كل خريطة جديدة، ولنا في التجارب التاريخية ما يعضد هذا. فسيّد الأنام محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة المنوّرة المسماة آنذاك ''يثرب''، كان أول أمر شرع فيه هو المصالحة بين الأنصار والمهاجرين ردما لثلم التناحر الجاهلي، وقطيعة معه، ثم شيّد مسجد ''قباء'' للتفقه في الدين وتنظيم حياة المسلمين على اعتبار أن هذه المؤسسة لا تقتصر على العبادة فقط، ثم أعد دستورا بموجبه تحركت الدولة الفتية وعم الإسلام كامل ربوع المعمورة كما شاء لذلك خالق هذا الكون، وهذا كله من مستلزمات المرحلة المدنية، بالمقارنة مع المرحلة المكية يتبين الفارق والإبداع والقانون الاجتماعي. وفي هذا السياق يعدد المنادون بتعديل الدستور الحالي معالم الحركية في المرحلة الجديدة التي أعقبت تسلم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الحكم، والتي تكرس التباين بين مرحلة وأخرى سابقة.. بين دستور أزمة والحاجة إلى وثيقة متماشية والمرحلة الجديدة التي خطت معالمها الفيصلية. فأول خطوة أقدم عليها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ساعة اعتلائه سدة الحكم ذات الخامس عشرة من أفريل عام ,1999 كان إقراره المصالحة الوطنية التي ألّف الله من خلالها قلوب الجزائريين وأخرس نعيق الغربان وغلاة الاستئصال، وسار على النهج المستقيم ليشيّد ''الجامع الأعظم'' بربوع المحمدية، مؤسسة أراد منها أن تكون مركزا يشع نورا للدين والدنيا، وإبرازا للمعالم الحضارية للبلاد، في قطيعة مع سياقات الماضي. وبقي الآن وفقا لهم بعدما بان فيصل التفرقة بين مرحلة وأخرى العمل على تعديل الدستور حتى ينظر للجزائر في سياقات محلية ودولية وفكرية جديدة، زمن العولمة والرقمنة والتأثر الكبير بأحدث منتجات الفكر البشري التقنية والإنسانية، فهل أزف التجسيد؟