في أواسط الثمانينيات تسارعت أحداث التغيير فيما كان يسمى الإتحاد السوفياتي .. فكان فورباتشوف يقوم بتفكيك الآلة الروسية السوفياتية .. ويتأهب للانسحاب بروسيا إلى الحضارة الغربية الأم .. على اعتبار أن الاتحاد السوفياتي هو جزء من المنظومة الحضارية الأوروبية ! فيما كان رفاق ماو بعد دفنه يفكرون فيما سمي آنذاك بكسر الطنجرة الكبيرة لماو والبحث عن صبغة جديدة لإدارة مليار من البشر بما يضمن طبق الرز للجميع ! كان فرباتشوف يبحث عن ميادين خارج الاتحاد السوفياتي لتجريب فكرة البوستريكا والفلاسنوس .. وكانت دول أوربا الشرقية هي المجال الخصب لتطبيق ما يريده العم "فربي" كما كان يسميه اليساريون عندنا.! في هذا الجو الحافل بالتغيير، تدهورت أسعار النفط في الجزائر بصورة لم يسبق لها مثيلا .. وشرع الشاذلي ورفاقه في محاولة تطبيق إصلاحات يمكن أن تؤدي إلى حفظ التوازن الهش لنظام تآكل شعبيا وأصبح شبه منهار اقتصاديا، فطرحت مسألة تعديل الميثاق في سنة 1986 ثم تعديل الدستور .. وكانت نتائج هذا التعديل مخيبة للآمال، ذلك أن الحزب الحاكم انبرى لهذا التعديل بما كان يسميه الإصلاحيون القوى المحافظة في جبهة التحرير .. والتي كانت لها السطوة الكبرى بعد انتعاش الحزب في العهدة الأولى للشاذلي، حين جمع بين الرئاسة والأمانة العامة للجبهة ! وأصبحت اللجنة المركزية للحزب هي الدائرة شبه الوحيدة لصناعة القرار في الجزائر.. في هذه الأجواء، طرح سؤال مهم: إذا حكمنا على النظام الاشتراكي الجزائري بالفشل ويجب التغيير، فما هو البديل.. ؟! الإصلاحيون والشيوعيون يقولون : إن البلاد أصبحت ناضجة لقيام نظام غربي علماني بديل لما هو قائم .. فيما قال المحافظون : إن فشل النظام الاشتراكي هو إقرار بأننا أسأنا الاختيار في سنة 1962 حين قررنا الإشتراكية .. لذلك لابد أن ننسحب إلى إطارنا الحضاري العربي الإسلامي وليس الإطار الغربي العلماني ! هذه المسألة كانت في قلب الصراع السياسي الذي دار في اللجنة الوطنية لتحضير المؤتمر السادس لجبهة التحرير ..! وقال المحافظون وقتها بأن الإصلاح الحقيقي لنظام الحكم في الجزائر يتطلب نقل قرار تعيين الرئيس من المؤسسة العسكرية إلى الحزب ! في هذه الأثناء ضغط الواقع الاقتصادي المزري على النظام بشقيه العلماني الشيوعي والإسلامي العربي .. وراح كل طرف يبحث عن حليف له خارج الوطن لدعمه فيما يسميه معركة الإصلاح ! وتبنت المؤسسة العسكرية تيار التحديث والإصلاح على أساس العلمانية والجمهورية والاتجاه إلى الغرب ! وتبنت المؤسسة السياسية (الأفلان) مسألة البحث عن نظام ينسحب بالجزائر من الإشتراكية إلى العربية الإسلامية ! فظهرت عمليات الانفتاح الكبرى على فرنسا إثر زيارة الشاذلي لفرنسا وإلى الولاياتالمتحدةالأمريكية وزيارة ميتران للجزائر ! ورد التيار المحافظ على هذا التجاذب العربي بتجاذب شرقي، فقامت جبهة التحرير ببلورة مشروع اتحاد مع ليبيا .. كان الهدف منه هو تأمين عائد مالي يضمن للجزائر عدم الارتماء في أحضان فرنسا تحت ضغط الحاجة ! فليبيا آنذاك تعداد سكانها لايزيد على 5 ملايين .. وإنتاجها من البترول ضعف إنتاج الجزائر ! وكان المرحوم مساعدية هو مهندس هذا التوجه لقطع الطريق أمام الإصلاحيين الذين يقولون إن الارتماء في أحضان فرنسا أمر لابد منه لضمان التغلب على الأزمة الاقتصادية. هذا الصراع حول ماهي الإصلاحات وغايتها، نقلت النقاش حتى إلى داخل الحزب نفسه .. فكتب بوحارة عبد الرزاق عدة مقالات حول الإصلاحات اشتم منها مساعدية ورفاقه رائحة الوحي العلماني لكاتب هذه المقالات .. كما اطلقت يد الصحفي كمال بلقاسم ونور الدين بوكروح في "جزائر الأحداث" ليقولا ما اعتبره المحافظون عرقلة للتغيير الحقيقي القاضي بتمدين الحكم وانسحاب الجيش من السياسة ! وفي اللجنة الوطنية لتحضير المؤتمر السادس للحزب، جرى الحديث لأول مرة وباقتراح من مساعدية عن إمكانية فصل رئاسة الجمهورية عن الأمانة العامة للحزب، وفهم الشاذلي ورفاقه أن مساعدية يريد أن يضمن له بعض الصلاحيات ..! وعلى مستوى الحكومة، جرى صراع صامت بين المرحوم قاصدي مرباح وبين عبد الحميد براهيمي .. وكان هدف مرباح ليس إنقاص صلاحيات عبد الحميد براهيمي .. بل الهدف هو انقاص صلاحيات رئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد ! وتزامن هذا التدافع السياسي مع سلسلة من الفضائح المتعلقة بالفساد .. تورط فيها مسؤولون كبار .. منها مثلا قضية الشاب "موحوش"، هذا الشاب الذي أصبح ثريا وهو في سن المراهقة لأنه صاحب ابن الشاذلي واستغل اسمه في النفاذ إلى المؤسسات المالية ! وقد وضع المعني بالسجن، فيما لم يصب ابن الشاذلي بأي متابعة ..! وتزامن ذلك أيضا مع زيادة ما يسميه عميمور بمظاهر الإستهلاك الإستفزازي للأشياء الجدد ! كان الشاذلي يفتخر بأن فورباتشوف ينظر للإصلاحات بينما يقوم الشاذلي بالتطبيق العملي للإصلاحات ! بل وذهب أبعد من ذلك إلى القول : بأن الشعب يجب أن ينتفض لفرض الإصلاحات المطلوبة .. وجاء ذلك في خطاب ألقاه في 19 سبتمبر 1988 في مقر الحزب وكان شبه هجوم على الحزب الذي بدأ يفكر في تقليص صلاحيات الرئيس وسحب قرار اقتراح الرئيس من الجيش وإسناده للحزب وحده ! اللجنة التحضيرية للمؤتمر كان يرأسها مساعدية ومقررها مولود حمروش .. وفيها أقطاب النظام الذين يرى مساعدية أنهم أصبحوا على قناعة بضرورة إحداث نقلة نوعية في تغيير النظام السياسي وأن الحزب آن له أن يقرر هذه المرة.! وسألت مساعدية ذات مرة بعد خروجه من الحكم : كيف حدث لك ماحدث في 5 أكتوبر 88 وأنت كنت الماسك بزمام الأمور .. فقال لي رحمه الله بعد تنهيدة كبيرة : رجالي هم الذين خانوني يالفحل .! ثم أردف يقول: عندما يكون ابراهيمي في الحكومة ويكون لكحل عياط على رأس الأمن العسكري والهادي خذيري على رأس الداخلية ومولود حمروش في لجنة تحضير المؤتمر مقررا .. وشلوفي في الأمانة العامة للدفاع .. عندما يكون ذلك كيف لا أطمئن إلى أن الأمور ستسير وفق ما تريد الجبهة؟! لكن عقلية الإنقلابات لا تعترف بالمنطق السياسي للأمور. كيف حدث الخامس من أكتوبر ومن قام به ؟! حاولت الإجابة عن هذا السؤال في الذكرى الأولى لأحداث أكتوبر 88 فحملت هذا السؤال إلى كل من قاصدي مرباح ومساعدية ونزار ولكحل عياط وعبد الحميد براهيمي والهادي خذيري.. فاعتذر الهادي والإبراهيمي عن الإجابة، وأجابني نزار ولكحل عياط وقاصدي مرباح ومساعدية ! وقد نشرت وقتها هذه الإجابات في مجلة "الوحدة"، عدد أكتوبر 89. قالي لي مساعدية: - رحمه الله -: أبحث عمن استفاد من أحداث أكتوبر وأنت تعرف من قام به.. وأبحث عن المتضرر منه وأنت تعرف ضد من كانت هذه الأحداث موجهة؟! في ذلك الوقت أزيح عبد الحميد براهيمي من الوزارة الأولى وأزيح مساعدية من الحزب.. وكانت الإشاعات تقول: إن قاصدي مرباح الذي كان على خلاف مع الشاذلي بسبب الإبراهيمي قد خرج من وزارة الصحة بسيارته وفتح له المحتجون الطريق ليمر.. في حين كانوا يتهددون بحرق متحف الجيش ورياض الفتح.. ثم أصبح مرباح وزيرا أولا خلفا للإبراهيمي .. بل واستفاد من نقل بعض صلاحيات رئيس الجمهورية من الرئاسة إلى رئاسة الحكومة عقب تعديل الدستور..! فيما قال الشاذلي لمساعدية: "روح درف وجهك حتى تمر العاصفة"! أما قاصدي مرباح - رحمه الله - فقد قال لي: إن سوء إرادة الحكومة وسوء إدارة الحزب والفساد هو الذي أشعل الأزمة وأدى إلى هذه الأحداث الخطيرة على البلد، وقال لي: لقد ذهب إلى القذافي ليطلب منه 150 مليون دولار لإطفاء النار في الجزائر.. فأعطاه المبلغ ولكنه اشترط عليه بألا يتراجع عن مشروع الوحدة، في حين أن أحد أسباب أحداث أكتوبر هو الالتفاف حول مشروع الوحدة مع ليبيا! أما لكحل عياط - رحمه الله - فقد حملني في سيارة فولف بيضاء وراح يلف بي العاصمة.. وهو يحدثني عن أحداث أكتوبر.. ومن بين ما قال لي: أن المصالح كانت على علم بأن "الكاجبي والزداك كانوا يخططون لعمل ما في بلدان أوربا الشرقية ورومانيا والجزائر وأن عناصر يسارية جزائرية مقيمة في تيشكوسلوفاكيا قد تورطت في مخطط ما... وقال لي بأنه أعد بذلك تقريرا في 16 أفريل 1988 ويشك أن يكون قد وصل إلى الشاذلي.. لأن البطانة كانت تحجب عنه ما لا تريده أن يطلع عليه! وعندما علم لكحل عياط بأنني سأقابل خالد نزار لأسأله عن أحداث أكتوبر باعتباره كان قائدا للحصار، وقد أصبح وزيرا للدفاع.. قال لي رحمه الله: اسأله: كيف سمحوا بتنظيم مسيرة للإسلاميين يحملون المصاحف ويتقدمهم علي بلحاج؟! ويسيرون من مسجد كابول في بلكور حتى المديرية العامة للأمن الوطني في باب الوادي حيث وقعت مجزرة 10 أكتوبر وذهب ضحيتها أكثر من 30 مواطنا؟! ولماذا لم يمنعوهم من الخروج من بلكور؟! ثم لماذا رفض الشيخ سحنون تنظيم هذه المسيرة وقام بلحاج بتنظيمها؟! ومن المستفيد من إخراج الإسلاميين في هذا الظرف بهذه الطريقة؟! ولماذا اسكتوا عناصر الأفلان عندما خرجوا في مظاهرات تردد هتافات "مساعدية ضد الفومية" ردا على العبارات التي رفعها المتظاهرون في 5 أكتوبر والتي تقول "مساعدية سراق المالية"! وفهمت من كلام عياط أن الرسالة كانت واضحة للفرنسيين تقول لهم إذا سقط النظام فإن البديل لن يكون بطبيعة الحال العلمانيين والشيوعيين، بل هم الإسلاميون.! وقابلت اللواء خالد نزار في مكتبه في وزارة الدفاع ثلاث مرات؛ مرتين بطلب منه، ومراة واحدة بطلب مني.. وفي هذه المرة التي طلبت منه أن يعطيني وجهة نظره في أحداث أكتوبر 88 باعتباره كان قائدا للحصار! وقد تفضل بإعطائي معلومة في غاية الأهمية.. فقال لي إنه عندما كان قائدا للحصار في العاصمة.. ضبط بعض الجنود الذين كانوا يحاصرون حي القبة مجموعة من الشباب كانوا يحملون نعوشا يصيحون: الله أكبر ويتجهون إلى المقبرة.. وعندما أطلق عليهم الجنود النار في الهواء تركوا النعوش في الأرض وهربوا.! وعندما فتح الجنود هذه النعوش وجدوها مملوءة بالحجارة! وهذه الصورة تكررت بعد سنة تقريبا في تيمشوارة برومانيا، حيث أخرجت الجثث من مصلحة حفظ الجثث في المستشفى وقدمت على أنها ضحايا بالمجازر وقامت بها مصالح "السكيرتات التابعة للرئيس شاوسيسكو!. خلاصة القول: إن ما قاله نزار وأويحيى من أن أحداث أكتوبر كانت مفبركة أصبح بمثابة الحقيقة التي لا نقاش فيها ! لكن من قام بهذه الأحداث؟! قد نحتاج إلى 20 سنة أخرى كي نعرف من الفاعل ولماذا فعل ما فعل؟! والأكيد أن أحداث أكتوبر كانت شديدة الصلة بموضوع الرئاسيات لعام 1988 وشديدة الصلة بما سبقها من محاولات التجاذب السياسي داخل سرايا الحكم حول موضوع الإصلاح.. وشكل الجزائر السياسي والمؤسساتي بعد إعلان فشل الإشتراكية، لكن الأكيد أن أحداث أكتوبر ما هي إلا مقدمة للأحداث التي شهدتها البلاد في العشرية الدموية.. فهل كانت أحداث أكتوبر ملوزة جديدة؟! وما الغاية من تنفيذها بهذه الصورة التعيسة؟! وهي نظرية التغيير بالكي أو التغيير على الساخن قد انتهت أم ماتزال مستمرة؟!