بعد رمضان وتوفيق اللهِ العبدَ المؤمنَ للطاعة والعمل الصالح من أعمال المغفرة والعتق من النار، خرج المرء محبًّا لله تعالى؛ أن وفقه إلى ذلك وأحسن إليه سبحانه وتعالى، وأفاء عليه برحمته وفضله وكرمه وغفرانه، في الوقت الذي يرى فيه الفسقة والفجرة والكفرة بعيدين عن الله تعالى لا يعرفون طريقه جل وعلا، لذلك كان شكر الله تعالى هو المطلوب الأول لمن أراد الاستقامة على طريقه، لأن شكرَ النعم له عواقبُ حسنةٌ كثيرة؛ منها: ثباتُ النعمة وزيادتها.. فبشكر النعمة تثبت هذه النعمة التي أخذتَها من الله تعالى، وبشكر النعمة تزداد النعم، كما قال الله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: 7)، فمَن وفَّقه الله للسير في طريقه فهذه نعمة عظيمة ويكون شكرها سبب تثبيت ما كان من هذه النعمة وأيضًا في زيادتها بالمسابقة في السير في هذا الطريق، وعلى العكس فإن كفر النعم يمحقها، ويذهب بها، وكفر النعم معناه ترك شكرها ؛ لأنه قال :(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 7) والمرء بعد رمضان يحتاج إلى قضية الشكر تلك ؛ لأن الله تعالى قد بيَّن خطورتها في قوله تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)،فقضية الشكر هي القضية المهمة التي يحاول الشيطان أن يفسدها على المؤمنين، حتى لا يكون أهلُ الإيمان شاكرين لله تبارك وتعالى على الحقيقة؛ وأنه لا بد أن يقف لهم هذه الوقفة ويقطعهم هذه القطيعة كما قال: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف: 16). كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً صلى الله عليه وسلم وكانت أعمال النبي دِيمة كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها في الحديث المتفق عليه «كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً»، أي كانت أعماله صلى الله عليه وسلم في شعبان وفي رمضان وفي غيرهما من الشهور أعمالاً لا تنقطع، فإذا جاءت مواسم المغفرة ازداد في الاجتهاد صلى الله عليه وسلم،وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: «فَإِنَّ لِكُلِّ عَابِدٍ شِرةٌ وَلِكُلِّ شِرةٍ فَتْرَةٌ؛ فَإِمَّا إِلَى سُنَّةٍ وَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَك»وفي رواية: «إن لكل عمل شرة»[1] كيد الشيطان مع المؤمنين بعد رمضان.. ولكنْ: يأتي الشيطانُ ليمنع هؤلاء المتقين الذين قد تحققوا بشيء من أعمال التقوى والمغفرة من مواصلة السير، وأيضا يأتي لهؤلاء الذين خابوا في تحصيل تلك المغفرة فيُقْعِدُهم ويُمنيِّهم أنهم إن شاء الله سيعوِّضون ما فات.. فيجلسون هكذا حتى يأتي رمضان القادم ولم يحصلوا شيئًا!،لذلك كانت هذه هي معركةَ المؤمن مع الشيطان في هذه الأيام؛ معركةَ الشكر، وهذه المعركة تستوجبُ من العبد المؤمن الشاكر لربه المحافظةُ على هذا العهد الذي عاهد الله عليه أن يستمر على صيامه، وذكره وقرآنه،و أن يبقى على ما كان عليه من أخلاق حسنة في البذل... في الإنفاق... في الجهد... في الإحساس بقرب الرحيل إلى الآخرة، والزهد في الدنيا، والإقبال على ربه متجردًا له... محبًّا له... متعلقًا به... متضرعًا له أن يحفظه و يوفقه سبحانه وتعالى، وألا يَطُولَ عليه الفتورُ هذه الأيام؛ لأنه إن طال عليه الفتور في هذه الأيام زاد في بُعْدِه عن الله تعالى ونزولِه عن الطاعة وفترته وانفكاك وانحلالِ هذه العزيمة التي كان عليها، ولا يستطيع أن يرجع بعد ذلك إلى ما كان عليه في رمضان، وهيهات لمثل ذلك أن يرجع ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (خاب وخسر من أتى عليه رمضان فلم يغفر له ) . آثار الشكر فإذا كان قد خرج المرءُ بالمغفرة من رمضان فإن هذه المغفرة كما أشرنا تستوجبُ أوَّل ما تستوجب هذا الشكرُ، فإذا كان قد حَصَّل المرء العتقَ من النار، وحَصَّل رحمة الله تعالى ومغفرته له فلا بد أن يظهر عليه آثار هذا الشكر، وهي الآثار التي يسعى الشيطان لإفسادها حتى يخرج بالمؤمنين عن طريق الله تعالى. فما هي هذه الآثار ؟ قيام الليل والوفاء بعهد الله تعالى وأول الآثار التي يسعى الشيطان لإفسادها على المؤمنين ليخرجهم من طريق الشكر..هو قيام الليل. فإذا ما تمكن الشيطان من أن يُفسد عليك هذا القيام، وأن يفسد عليك وِرْدَك من القرآن فقد انتهت مشكلته معك و استراح الشيطان منك! وعلم أنك لن تستطيع أن تقاومه بعد ذلك، وأبعدك عن الطاعات والعبادات، وتخفَّفتَ منها وأجَّلتها وسَوَّفت بعضها ..وتركت الآخر..حتى يصل منحنى عبادتك في النهاية إلى الصفر مرة أخرى ويعود المرء سيرته الأولى، فيأتي عليه الليل فيقول : سأنام قليلا وأستيقظ قبل الفجر، فإذا به لا يقوم ولا يصلي ؛ لذلك كان الوفاء بالعهد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول : «أوصاني حبيبي بثلاث لا أدعهنّ ما عشت : أن أوتر قبل أن أنام، وأن أصوم كل شهر ثلاثة أيام، وأن أصلي الضحى» ،لماذا كان في رمضان يقوم ويتهجد وطوال الليل يصلي، ثم بعد ذلك لا يصلي؟ ما الذي فعله حتى حرمه الله تبارك وتعالى ذلك؟ فقيام الليل ولذة مناجاة الربّ ليست من أعمال الدنيا ولا من سعادتها، بل هي من الجنة، فالدنيا لها سعادتها التي يسعى إليها الساعون في هذه الحياة الدنيا، أما قيام الليل ولذة المناجاة والإقبال على الله تبارك وتعالى والتملق والدعاء والمحبة كل ذلك ليس من الدنيا... ولا من سعادتها ولا من نعيمها ولا من سرورها، وإنما من سرور الجنة ومن سعادة الآخرة. الإقبال على تلاوة القرآن ولأن ترك القرآن يأتي في المرحلة المصاحبة لقيام الليل، لذلك فهي الأثر التالي من آثار الشكر التي يسعى الشيطان لإفسادها على أهل الإيمان،وهما المصيبتان اللتان يحس بهما المرء بعد رمضان، بأن ينشغل عن القرآن ويضعف ورده فيه، وتكاد علاقته أن تنقطع يوما بعد يوم إن قرأ شيئا اليوم فلعله لا يستطيع غدًا وهكذا ؛ لذلك كانت القضية الثانية والمرتبطة بإصلاح القلب والعمل هي قضية القرآن،هذا الورد من القرآن الكريم سواء تقوم به في ليلك أو تقرأه في نهارك لا بد أن يتحقق ..لا تُفَرِّطْ فيه أبدًا،لا يمر اليوم على المرء حتى يقضي ورده من قراءة القرآن، ومن التفكر في آياته، وكيفية الوفاء بالعهد مع الله تبارك وتعالى؛ فلا بد وأن يقوم المرء بورده ..وما فرط فيه في أَمْسه لابد أن يقضيه ويقرأه في يومه،فإذا لم يستطع المرء أن يري ربه ما يصنع في قيام الليل أن يريه ما يصنع في قرآنه وكلامه سبحانه وتعالى وهو كذلك سبيل من أعظم السبل التي يصلح بها القلب و العقل و الذهن و البدن، ويصلح بها الوقت وتصلح بها سائر الأحوال التي يوفيها، فإذا لم يتمكن من ذلك قال : ليرين الله ما أصنع في القرآن، ويربط نفسه ليله ونهاره به في هذه الأيام. إدمان ذكر الله تعالى الأثر التالي الذي يبيّن شكرَ نعمة السير في طريق الله هو إدمان ذكر الله تعالى؛ فكان الأمر التالي الذي تواجه به هذه الحالة من حالات الغفلة التي تنتاب المرءَ بعد رمضان أن يرى الربُّ عزّ وجلّ أنك من الذاكرين له كثيرا والذاكرات،وحالة إدمان ذِكر الله تعالى من الحالات التي نهتم بها لأمرين:الأمر الأول: إن هذا الذكر يحفظ القلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عن نبي الله يحيى عليه السلام: « وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ؛ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ في أَثَرِهِ سِرَاعاً، حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ الْعَبْدُ لاَ يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلاَّ بِذِكْرِ اللَّهِ » (4) يعني: كذلك المرء يُحصِّن نفسه من الشيطان بذكر الله تعالى،حالكُ إذن بعد رمضان هو كثرة الذكر وإدمانه، حتى لو كان شعارا للسان وحلية له فقط، فهذا أخفّ من أن يكون المرء غافلاً قلبًا ولسانًا عن الله تعالى، وربما من كثرة ذكر اللسان يتواطأ القلب مع اللسان ويستشعر القلبُ واللسانُ معًا الذكرَ وحلاوته، وحلاوة الإقبال على الله تبارك وتعالى فترتفع درجة المؤمن، ويكون ذلك سبب تحصينه الذي يطلبه من الله تعالى كعدو خرج في أثره سراعا حتى إذا أتى إلى حصن حصين حصن نفسه منه.