كان نيكيتا خروشوف شخصا مدهشا حقا. راعي غنم من أكثر الطبقات فقرا في أوكرانيا وعامل منجم تقدم في صفوف الحزب الشيوعي السوفياتي إلى أن يصبح زعيم البلاد، ثم وجها عالميا يجادل جون كيندي ويغاضب شارل ديغول ويضرب على الطاولة بحذائه في الأممالمتحدة.نقلت إلى العربية أوائل السبعينات مذكراته التي هربت سرا إلى الغرب وأثارت حنق موسكو وزادت في حرارة الحرب الباردة. وكانت مذكرات رجل مظلوم، يشكو تآمر الرفاق واعتلال النظام. أحيل على مكتبتي في القرية، مؤلفات المراجعة التي يعاد إليها في الهدوء وحركة البطء والتأمل. أعمال طه حسين والعقاد وتواريخ الأدب والتراث والأعمال الأجنبية المشابهة.هذا كتاب «التعايش السلمي كما أفهمه» 1961 لخروشوف المؤمن يومها بالانتصار الوشيك المطلق للنظام الاشتراكي: «نحن الشيوعيين مقتنعون تمام الاقتناع بأن العقيدة الشيوعية سوف تنتصر في النهاية في سائر أنحاء العالم، كما انتصرت في بلدنا وغيره من البلدان الشيوعية بما فيها الصين». ثم يتوقع أن تصبح روسيا والصين من أغنى دول العالم. وقد حدث. ولكن بعد التخلي عن النظام الشيوعي.كان الرجل مؤمنا حقا بالتعايش السلمي ويخشى فعلا أن يدخل العالم حربا ثالثة: فإنها، الحرب، لن تبقي هذه المرة على أي أثر للحياة: إنها حرب الصواريخ عابرة القارات وهي تحمل الرؤوس النووية.أضحك خروشوف العالم بلواذعه ومداعباته الساخرة. وهو يشير في هذا الكتاب إلى المستشار الألماني كونراد أديناور المعروف بكاثوليكيته المتشددة ويقول: «إن أديناور (المسيحي) يحلم بالجنة، لكنه يحمل الإنجيل بيد والقنبلة الذرية بيد أخرى. ووفقا لقواعد الإنجيل، لا أعتقد أن هذا الرجل سيجد لنفسه مكانا في أي جهة من الجنة. لقد أقيم مكان خاص في الجحيم لأولئك الذين يقومون بهذه النشاطات».توقعات خروشوف الحاسمة لم تصح. الرأسمالية لم تدفن والشيوعية لم تنتصر. وقد عين صهره إليكسي أدجوبي رئيسا لتحرير «البرافدا» من أجل نقل أفكاره الاشتراكية، لكن أدجوبي انتهى أستاذا محاضرا في الولاياتالمتحدة. وقبله لجأت إلى أميركا سفيتلانا، ابنة ستالين.. ويبدو الصراع الآيديولوجي بين الغرب والشرق شيئا من الماضي. فالحزب الشيوعي في روسيا أو أوكرانيا أضعف منه في أميركا. لكن منتصف القرن الماضي كانت واشنطن تخاف فعلا أن تتحول أكثرية الشعب الأميركي، ومعه الشعوب الأخرى، إلى الشيوعية. كانت هناك فكرة قيد التجربة لم يكتب لها أن تعيش. قتلها العنف والانغلاق وخصوصا الاغترار. لا يمكن أن تطلب النجاح الكوني وعندك سيبيريا. كسبت أميركا المنافسة بالأشياء البسيطة في الحياة «جينز» و«هامبرغر» و«روك آند رول» والأفلام التي تجتذب الملايين.