انعكاسات تسريب البرقيات الدبلوماسية على العلاقات الدولية أحسن من عبر عن الحدث هو وزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتيني حين قال أن هذا يشبه تماما "11 سبتمبر آخر في الدبلوماسية الدولية". فبعد نشر وثائق حربي أفغانستان في 25 جويلية و العراق في 22 أكتوبر بدأ موقع ويكيليكس (موقع على الإنترنيت يعمل كمنظمة غير حكومية مفتوحة لما يقدمه القراء، على شاكلة ما يحدث في "ويكيبيديا" الموسوعة المفتوحة، و "ليكس" تعني التسريبات) نشر 251.287 برقية دبلوماسية. الجديد هو أنه عكس الوثائق الأفغانية أو العراقية التي لا تخص سوى وحدات الجيش الأمريكي فإن الوثائق الجديدة تمس الدبلوماسية العالمية بما فيها كل الدول و الأشخاص الذين يتعاملون مع أمريكا. لكل مسؤولياته التاريخية أمام وسيلة تصل اليوم إلى أقصى أقاصي الأرض و هي الإنترنيت. عبد السلام يخلف/جامعة قسنطينة ما هي الانعكاسات الممكنة لهذا التسريب على العلاقات الدولية و العمل الدبلوماسي مستقبلا و خاصة على الدول العربية؟ هل من قراءة مغايرة لما يقدَّم للاستهلاك من طرف أكبر قوة في العالم؟ الأعمال المشبوهة للسفارات الأمريكية يطلب النص من مسؤولي السفارات الأمريكية في كل البلدان التجسس على أصدقائهم و العاملين معهم و خاصة من يقبلون دعواتهم للعشاء (كما يحدث في الجزائر من حين لآخر و خاصة من طرف بعض المسؤولين في الأحزاب السياسية و مؤسسات المجتمع المدني) علما أن في أمريكا 17 وكالة متخصصة في الأعمال السرية. هذه المؤسسات ليست سرية لكن السري هو الأعمال التي تطلبها من العاملين في السفارات حتى أصبحت هذه البنايات التمثيلية رمزا للتجسس و بؤرة للأعمال المشبوهة و ما طرد الإتحاد السوفياتي سابقا للعديد من العاملين في السفارات الأمريكيةبموسكو كأشخاص غير مرغوب فيهم(persona non grata) سوى دليل على الأعمال الشريرة التي يلجأ إليها هؤلاء بطلب من حكومتهم الفدرالية. لأنها كانت في تنافس و صراع حادين مع أمريكا فقد تفطنت روسيا لذلك أما الدول الأخرى فإنها تعتقد بأن السفارات الأمريكية موطن "للخير و الدَّمَقرطة و الدفاع عن حقوق الإنسان" و لهذا تسقط في الفخ سواء بإرادتها، لأن الكثير من الأشخاص يبيع الأخبار، أو بنية النضال ضد "الأنظمة الدكتاتورية".التعليمة السرية HUMINTو خاصة الوثيقة رقم 219058 التي تم توجيهها من طرف هيلاري كلنتون كاتبة الدولة للشؤون الخارجية والخاصة بحث كل العاملين بالسفارات الأمريكية بالحصول على كافة المعلومات و خاصة البيومترية منها المتعلقة بالأشخاص الذين تهتم بهم أمريكا بما فيهم مسؤولي مبنى الأممالمتحدة و كل الدبلوماسيين العاملين على التراب الأمريكي تبين إلى أي حد يمكن لأمريكا الذهاب في تعاملها مع الدول و الأفراد. المنظرون الواقعيون و سياسة أمريكا الخارجية يرى "الواقعيون" من المنظرين للسياسة الخارجية أن "لا وجود لأعداء دائمين أو أصدقاء دائمين، الدائم هو المصلحة الوطنية". يرون أيضا أن كل الأحلاف يجب أن تكون مؤقتة و ذاك ما تبرره مواقف أمريكا من تركيا مثلا. يرون أيضا أنه من واجب أمريكا، و كل الدول، المحافظة على استقلالها و تمام سيادتها بعدم نقل ولائها لمنظمات دولية أو تكتلات إقليمية، ذاك بالضبط ما تقوم به أمريكا في تعاملها مع الاتفاقيات الدولية الخاصة بالبيئة (كيوتو) أو تلك المتعلقة بالمحكمة الدولية و مجرمي الحرب. لم تصادق أمريكا على الكثير من الاتفاقيات و المعاهدات الدولية التي تلزمها بمسؤوليات تجاه الآخرين، فتطلب محاكمة سلوبودان ميلوزيفيتش على ما اقترفته القوات اليوغوسلافية في حروبها و خاصة كوسوفو لكنها لا تطالب بمحاكمة بوش أو ديك تشيني اللذين انتهكا حقوق الإنسان في العراق و أفغانستان. هل سيحال الرئيس بوش الابن على المحكمة الدولية بعد أن فضح ويكيليكس قراره بتمديد الحرب حتى تتمكن إسرائيل من القضاء على حزب الله و بالتالي مقتل أكثر من ألف مواطن ؟ من السذاجة أن يعتقد مواطن العالم أن هذا سر كبير خرج للعلن لأن كل المهتمين بالشأن الأمريكي تاريخيا يرون بأن ما يحدث شيء عادي. أما الشيء الجديد فهو التفاصيل التي تحلل كل مسألة و كذا اللغة التي يستعملها الدبلوماسيون الأمريكيون التي تفضح الفظاظة و كذا الاستخفاف الذي يميز الترتيبات الدبلوماسية. الجديد هو إنهاء التردد القائم لدى بعض الموالين لأمريكا، أولئك الذين ينتظرون خدماتها مجانيا أو مساعداتها كي "يكون العالم أحسن" كما هو شائع في لغة السياسيين الأمريكيين. الآن يدرك كل من يخدم أمريكا ضد وطنه (ربما بنية طيبة) بأنه لعبة في يد جبار مارد لا يتورع عن استعمال المباح و غير المباح من أجل تحقيق أهدافه الإستراتيجية. أمريكا "متعوّدة" على الفضائح تشير البرقيات على أن أمريكا تقوم بعمليات تجسس منظمة على حلفائها مثل فرنسا و ألمانيا لكن الملاحظ أنها متعودة على هذا النوع من الفضائح. 1) الووترغيت فضيحة تجسس حزب على آخر في الشأن الداخلي، 2) إيرانغيت هي فضيحة بيع أسلحة إيران و توجيه عائداتها إلى محاربي الكونتراس في أمريكا اللاتينية الذين لم يحققوا أي نجاح يذكر و لذا رفض الكونغرس مد الرئيس بالأموال اللازمة. 3) نورييغا رئيس باناما، دولة ذات سيادة، يتم اعتقاله و نقله إلى التراب الأمريكي بدعوى تعاملاته المشبوهة مع كارتلات المخدرات. الحقيقة أن الرجل كان قد طلب مراجعة المعاهدة التي تمنح أمريكا ملكية قواعد عسكرية في بانما و كذا حق مراقبة القناة. 4) تقوم أمريكا بإنشاء حركة "طالبان" (وتعني الطلبة) لمحاربة الشيوعية و القضاء على التطاحن داخل الأحزاب الأفغانية و خاصة بين حكمتيار و برهان الدين رباني. تقرر أمريكا شن حرب على "طالبان" التي نعتت بكل الصفات القبيحة و تفتح جبهة عالمية للحرب على الإرهاب. 5) الكثير من الدلائل الهامة تثبت وجود يد أمريكية في أحداث 11 سبتمبر و رغم ذلك تمكنت الأجهزة الأمريكية من إقناع حلفائها في العالم و خاصة العالم المتخلف أن دولة "متحضرة" لا تقوم بهذا النوع من الأفعال الشنيعة. 6) الحرب على الإرهاب قادت أمريكا إلى اتهام صدام حسين، أحد أهم حلفاء الغرب في الشرق الأوسط (يجب عدم نسيان صواريخ الإقزوسيت التي منحتها فرنسا للعراق لضرب المدن الإيرانية) بامتلاك أسلحة الدمار الشامل و التعامل مع القاعدة رغم غياب الأدلة.سيعمل ويكيليكس بالضرورة على تعميق فهمنا لهذه الأحداث و وضعها في سياقاتها و سيمنح الباحثين في التاريخ فرصة إعادة ترتيب بعض الأحكام و الخلاصات التي توصلوا إليها كما أنه و إن لم يوصل إلى الحقيقة المطلقة فإنه سيبعث فرضيات متناقضة تؤدي حتما إلى حالة جديدة من المعرفة التي أساسها التساؤل العقلاني. ويكيليكس و صورة أمريكا قال السيناتور الجمهوري ليندساي غراهام من كارولاينا الجنوبية بأن "نشر الأخبار سيؤدي إلى إراقة الكثير من الدماء على مسؤولية ويكيليكس". أما برادلي مانينغ (Bradley Manning) فهو اسم لرقيب في الاستخبارات الأمريكية عمره 22 سنة، تم تقديمه على أنه المسؤول المباشر على تحميل هذا العدد الهائل من الوثائق. هل سيتم قتل مانينغ من طرف شخص مجنون أو مجهول الهوية في ظروف غامضة كما حدث لأوسفلد "قاتل" الرئيس كينيدي؟ المنطق السياسي و الإستخباراتي يقول أنه لا يمكن حدوث هذا النوع من الأعمال دون وجود يد قوية في السلطة ترجو و ترعى ذلك. يجب التعرف على عمل المؤسسات الأمريكية و المنافسة الحادة بين البيروقراطيات عن قرب للتمكن من فهم ما يحدث. هل هو الصراع داخل السلطة في أمريكا بين "الحمائم" و "الصقور"؟ هل استجاب مساندو السلام في العالم إلى تقارير الكونغرس الأمريكي التي ترى بأن صورة أمريكا في العالم اليوم هي الأبشع منذ ميلاد الولاياتالمتحدةالأمريكية؟ الملاحظ أن قدوم أوباما لم يمكن من "إخراج الجن" (exorcism) و تلميع صورة أمريكا فهل سيتمكن موقع ويكيليكس من فعل ذلك؟ هل سيتم تحديد المسؤوليات في حال نشر كل الوثائق باعتبار أن ما يملكه الموقع هو "مختصرات" فقط للنصوص الكاملة؟ رغم أن الأطروحة تبدو قديمة بعض الشيء بالنسبة لغير الأمريكي فإن المعروف لخبراء و محللي السياسة الخارجية الأمريكية هو ذلك الصراع الدائم بين تيارين أساسيين: واحد يدعو للعزلة (Isolationists) و الثاني يدعو للتدخل (Interventionists). الأول و يرى أن كل مآسي أمريكا سببها التدخل في شؤون الآخرين بدءا بأوربا، القارة القديمة، أثناء الحربين العالميتين لأنه كان بإمكان أمريكا أن تكون اليوم أحسن بكثير لو لم تستنزف طاقتها خارج حدودها. أما التيار الثاني فيرى أن تدخل أمريكا في العلاقات الدولية يفرضه موقعها كدولة عظمى لا يمكن أن يتشكل العالم من دونها و خاصة مع ظهور "العدو الشيوعي". فرضية الخوف وصراع الحضارات لا يمكن القول بأن ويكيليكس وكالة تابعة للمخابرات الأمريكية لأن أمريكا مهما يكن دولة ديمقراطية بها مؤسسات فعالة و دستور يحمي الناس و المصالح، بل يمكن القول فقط أن بعض البرقيات يمكن أن تقرأ بشكل خطير. 1) البرقية الخاصة بأحمد ضياء محمود النائب السابق للرئيس الأفغاني الذي ضبطت بحوزته قيمة 52 مليون دولار نقدا أثناء زيارة له إلى دولة الإمارات العربية تثبت نية أمريكا في التنصل من مسؤولية فشل سياستها التدخلية في أفغانستان و خاصة ما يسمى بإستراتيجية "بناء الدول بعد الصراع" التي تقدمها كسياسة عالمية تمكنها من تسيير شؤون بعض الدول "الفاشلة"(failed) أو "المنهارة" (collapsed). الرشادة الغائبة و سرقة الأموال هي السبب الحقيقي في الفشل و لا دخل لأمريكا في ذلك. 2) البرقية المتعلقة بإيران و حصولها على 19 صاروخا متطورا من كوريا الشمالية و بالتالي إمكانية ضرب موسكو (نعم، موسكو يقول النص) و أوروبا الغربية. المعروف أنه منذ تراجع دور الإتحاد السوفياتي في العلاقات الدولية بدأت أمريكا تبحث عن عدو مشترك تخيف به أوربا الحليفة فما وجدت لذلك سوى مقاربة صامويل هانتنغتون "صراع الحضارات" التي ترى باختصار أن القضاء على الشيوعية لا يعني القضاء على أعداء الغرب و ذلك لوجود الخطر الإسلامي و الكونفوشيوسي (الصيني) و خاصة إمكانية التحالف بينهما. عاشت أمريكا مهيمنة على نصف العالم باسم الخطر الشيوعي حتى أن المواطن الأمريكي ابتلع الطعم و راح يردد "أفضّل الموت على الشيوعية" (better dead than red) و راح يمد الأموال لمشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا الغربية خوفا من تغلغل الإتحاد السوفياتي و ملء الفراغ طبقا لمبادئ نظرية الدومينو التي ترى بأن سقوط دولة في يد الشيوعيين يعني بالضرورة سقوط الدول المجاورة. الخوف من العدو المشترك هو الذي خلق اللحمة بين أمريكا و أوربا الغربية و كدا إسرائيل. فكل حروب إسرائيل تخدم مصلحة أمريكا بشكل من الأشكال لأن أعداء إسرائيل هم أعداء أمريكا. البرقية الخاصة بإيران إذن هدفها إثبات امتلاك إيران للأسلحة النووية الخطيرة كما أن طلب السعودية بضرب إيران و "قطع رأس الأفعى" ما دام هناك متسع من الوقت و كذا وصف وزير دفاع الإمارات العربية لمحمود أحمدي نجاد بالهتلر هو من قبيل عزل إيران عن بقايا حلفائها أو أصدقائها في العالم الإسلامي حتى و لو كانوا مزيفين و كذا عزل دول الخليج عن باقي الدول التي ما تزال سلطاتها مترددة في التحالف مع أمريكا و حصولها على تأشيرة الاستمرار في الحكم. الملف النووي الإيراني نموذجا كل البرقيات الدبلوماسية تشير إلى الخوف الذي يتملك ممالك الشرق الأوسط و خاصة السعودية و الإمارات العربية و الكويت والأردن ثم "الحقد الدفين" الذي تجلى في البرقيات الخاصة بمصر حيث قال عمر سليمان مسؤول المخابرات المصرية للأميرال الأمريكي "مولين" بأنه "على إيران أن تدفع ثمن أفعالها". كل هذه المواقف تستجيب للإستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة لكن السؤال الجوهري هو: هل هذه المواقف تخدم إستراتيجية أمريكا تجاه إيران؟ أقولها دون تردد: لن تضرب الولاياتالمتحدةالأمريكيةإيران و لن تدمر مفاعلاتها النووية و خاصة "بوشهر" لأنها تعرف أكثر بكثير من دويلات الشرق الأوسط أن إيران دولة كبيرة تاريخيا و استراتيجيا و أن مفاعلاتها النووية الأولى تم تأثيثها من قبل شركات أمريكية وألمانية بإيعاز من المخابرات الأمريكية التي كانت تراهن على نظام الشاه كقوة إقليمية. تعرف أمريكا جيدا أن بإيران أقلية يهودية أكبر مما هو موجود في بقية دول العالم من أنشط الأقليات التي تمتلك موقعا و اعترافا داخل المؤسسات الإيرانية. قد تشترك أمريكا مع دول الخليج في تضخيم الخطر الإيراني لسببين: الأول بهدف زيادة الإتحاد في المعسكر الغربي الذي لم يبق حليفا لأمريكا في كل مواقف سياستها الخارجية بدليل وجود سياسة خارجية و أمنية للإتحاد الأوربي، و الثاني زيادة ضخ الأموال من الكونغرس الموجهة لمشاريع السياسة الخارجية و التي تستعمل لأغراض غير التي يعلن عنها.سواء بنية مقصودة أو بيد الديمقراطية فإن وثائق ويكيليكس تقول للشعب الإيراني بأن أعداءكم جيرانكم و ليس أمريكا و سيصدم حكام الدول العربية المعادية لإيران في المستقبل القريب حين يدركون أن أمريكا قد قبلت التعايش مع إيران النووية منذ مدة لأنها لا تهدد المصالح الأمريكية أو الأمن الأمريكي. سيُصدم العرب حين يعرفون بأن الملف النووي الإيراني ليس له علاقة بالأسلحة النووية بل بالنفط و البيترودولار.1- سينتهي النفط بعد كذا عشرية و ستحتاج هذه الدول التي تحتكره اليوم إلى الطاقة النووية كي تشغّل محطاتها الكهربائية و غيرها من المصانع و ناطحات السحاب التي تتفنن في بنائها اليوم. لن تجد مصدرا للطاقة آنذاك سوى أمريكا و بعض الدول النووية و من بينها إيران. 2- ستلجأ دول الخليج إلى دعم برامجها العسكرية بشراء مزيد من الأسلحة "الذكية" التي تقدمها أمريكا من دبابات أبرامس و مقاتلات ف16 و هيليكوبتر "الأباتشي" و صواريخ باتريوت (كما فعلت الإمارات العربية في فبراير 2009 بطلب 5 قواعد لصواريخ باتريوت أمريكية في انتظار إقامة قواعدها التسعة.البرقية رقم 12958) و الدروع المختلفة الأحجام الواقية من الأسلحة الجرثومية.هل ستستفيد دول الشرق الأوسط من فضائح ويكيليكس أم أنها ستستمر في "الكذب" على شعوبها و حلفائها و قضاياها المشتركة؟ سؤال يجيب عنه المستقبل مع أن تصريحات الحكام تقول أن ما جاء في الوقع مجرد "تلفيق و كذب". هل من آثار هامة كنا نعتقد كطلبة للعلوم السياسية و خاصة الشأن الدبلوماسي بأن الدبلوماسية عمل نظيف و راق يعتمد على الدقة في المفاهيم و المصطلحات التي يستعملها القائمون على الملفات الساخنة في العالم و التي تخص الملايين من البشر الذين لا زالوا يعيشون ويلات الحروب الأهلية و الفقر و تبعات الدكتاتورية و الاضطهاد. توصف الألمانية ميركل "بالحذرة" أو "الخوّافة" و يطلق المستشار الدبلوماسي للرئيس الفرنسي صفة "المجنون" على الرئيس الفنزويلي شافيز، و ينعت الأمريكان الرئيس الليبي "بالدكتاتور المختل" و يوصف بعض حكام الدول الفقيرة أو المتعاونين مع أمريكا بأوصاف لا يقبلها عاقل. أما الانعكاسات المحتملة لهذه البرقيات على العلاقات الدولية فهي متنوعة و قد نشير فقط إلى التالي: 1- على المستوى الداخلي سيعرف الشعب الأمريكي الشيء الكثير عن السياسيين الذين يضع فيهم ثقة كلية لتسيير شؤون السياسة الخارجية مؤمنا بالمقولة القديمة أن "السياسة تنتهي عند حدود البحر" أي أن كل ما يهمه هو الشأن الداخلي. بدا أن الكثير من التلاعبات و القرارات الخطيرة تتخذ باسمه و عليه أن يراجع نفسه في ذلك و هذا ما تقوم به بعض المنظمات غير الحكومية المهتمة بالحقيقة في الصحافة الأمريكية. 2- على مستوى التمثيل الدبلوماسي سيكون للسرية شأن كبير و قد تلجأ المؤسسات الأمريكية إلى طرق جديدة لجني المعلومات و تجنب الحضور الفيزيائي للأشخاص إلى السفارات الأمريكية. 3- على المستوى العسكري ستبيع أمريكا كمية أخرى معتبرة من الأسلحة لأن العالم بعد ويكيليكس يبدو أكثر خطرا في بعض المناطق لغياب مفهوم الصداقة بين الدول. المزيد من القوة وحده كفيل بحماية الأنظمة السياسية و هكذا يكون "الخوف" هو البضاعة التي تكون قد نجحت أمريكا في تصديرها للعالم بعد الكوكاكولا و مخلوقات ديزني. 4- أما على مستوى السياسة الدولية و الترتيبات الأمنية فإن هذا لا يضيف شيئا باعتبار أن كل الدول تتعامل بحذر مع بعضها البعض و تفضل دوما مصلحتها على أي شيء آخر. 5- سيكون انعكاس برقيات ويكيليكس على الدول بدرجات متفاوتة، فالصين مثلا لم تتجسس على شركة غوغل بل لجأت إلى المفاوضات المفتوحة التي أدت إلى عقد تجاري استراتيجي رأت أمريكا بأنه لا يخدم موضوع حقوق الإنسان و حرية التعبير. 6- انكشاف زعماء الدويلات الصغيرة و تخاذلهم و كذا "تحايلهم" في تقديم الشأن السياسي للمواطن في قالب يثبت إيمانهم بأن شعوبهم غير راشدة لأخذ القرارات المصيرية و أن بقاءهم على رأس السلطة يبقى مرهونا بقرار يأتي من الخارج. 7- لن تؤدي هذه التسربات إلى تغيرات جذرية في العلاقات الدولية باعتبار أن الشعوب لها ذاكرة ضعيفة و علم سطحي بما يحدث إضافة إلى عاملي الفقر و الجهل اللذين يعطلان عمل القوى الخلاقة في المجتمع المدني كما هو الحال في بعض المجتمعات الأوروبية. لننظر إلى الأرقام كي نعرف مدى الكارثة: كم مواطنا من 6 مليارات ستحركه حقائق ويكيليكس؟ 8- ما الذي سيحصل بعد الآن؟ ستلجأ أمريكا إلى تهدئة مخاوف أصدقائها بتجاوز العاصفة الظرفية كما ستستعمل إمكانية عدم فضحهم من طرف ويكيليكس كورقة ضغط على خياراتهم المستقبلية. هل تملك الدول التي تتعامل اليوم مع أمريكا خيارا آخر غير التعامل مع أمريكا؟ انتهى عهد الثنائية و لم يبق سوى نظام الوحدة المهيمنة (hegemonic stability )التي ترسم معالم استقرار العالم. خلاصة سيعرف باقي سكان العالم أنهم لا يشكلون ثقلا على الأجندة السياسية العالمية، أما وسائل الإعلام العالمية التي لها القوة على صناعة الرأي فإنها تمكنت من التحالف مع الدول القوية و مع الدكتاتوريات و العملاء و التعهد بعدم فضحهم بدعوى أن ذلك سيؤدي إلى تهديد حياتهم. 120 صحافيا من خمس جرائد دولية هي لوموند الفرنسية و البايس الإسبانية و ديرشبيغل الألمانية و الغاردين البريطانية و النيويورك تايمز الأمريكية تقرر ما ينشر و تحمي من تشاء. هل تعتبر حياة الأباطرة و العملاء أهم من حياة الشعوب التي تقبع تحت الاستبداد و سيف ديموكليس؟ "لن نمارس الدبلوماسية كما مارسناها لحد الآن" يقول الأمريكيون. إذا كانوا يقصدون اللجوء إلى عدم تسجيل المقابلات الرسمية و استعمال آليات الدبلوماسية السرية يجب أن يتذكروا رئيسهم ولسون الذي نبذ الدبلوماسية السرية كسبب رئيسي أدى إلى نشوب الحرب العالمية الأولى. أما إذا كانوا يقصدون اللجوء إلى دبلوماسية أكثر مسؤولية تخدم السلم و الأمن الدوليين و تساعد على تحرير الشعوب و ترقية المواطن العالمي الذي يبحث عن الأمن الإنساني و الأمن السياسي و كذا الحكم الراشد الذي يجنب الاستغلال و يقود إلى الشفافية في تسيير أمور الشعوب فذاك ما تنتظره الشعوب البائسة. الشفافية، الحلم المنشود، هي أسمى ما وصل إليه ويكيليكس و صاحبه الأسترالي جوليان أسانج (Julian Assange) كخطوة أولى لرسم معالم خارطة معرفية جديدة. فقط.