أحدث كتاب (الإسلام بين الشّرق والغرب) لرئيس البوسنة السابق علي عزت بيغوفيتش (1925 - 2003) صدمة حقيقية لأعداء المسلمين، ففي الوقت الذي كانت عصابات الصّرب والكروات تمارس جرائم الإبادة المنظمة بحق مسلمي الدولة الوليدة (البوسنة والهرسك) المقدرين بعشرات الملايين، كان بيغوفيتش في كتابه يكشف سقوط النظام العالمي البائس والأيدلوجويات الغربية الشيوعية والماركسية والليبرالية والرأسمالية، كما نقل رأيه المبني على شواهد في تفوق الإسلام على العقيدتين اليهودية والمسيحية كدين سماوي وأرضي في نفس الوقت، يحُل أزمات الإنسان المعاصرة المتفاقمة. قام صديق بيغوفيتش، السيد حسن قرشي، بتهريب النسخة الأصلية من الكتاب في أوائل الثمانينات من القرن الماضي واستطاع ترجمتها للإنجليزية ونشرها بقلب أمريكا، ليشاهدها العالم. وكانت وقتها قوات الأممالمتحدة مشغولة بمراقبة مذابح مسلمي البوسنة دون أن تحرك ساكنا، وكان العالم الإسلامي يصدر الإدانات والشجب ولا يقوى على الفعل لإنقاذهم. وقد نشأ بيغوفيتش، المفكر الإسلامي، في قلب نظام شيوعي مستبد، وظل معتزا بإسلامه، وهو ينحدر من أسرة بوسنية عريقة، أما حياته فأمضاها بين العمل بالقانون ثم النشاط في مجال الدعوة والعمل الإسلامي. حُكم على بيغوفيتش بالسجن خمس سنوات في عهد جوزيف بروز تيتو الذي استولى وحزبه الشيوعي على السلطة في البوسنة بعد الحرب العالمية الثانية 1949، وشاركه بالحكم عدد من أبرز علماء المسلمين الذين تعرضوا للتنكيل والإعدام، وما من جريمة ارتكبوها سوى السعي للمحافظة على هوية الشباب الإسلامية بعد أن أصبحوا في حكم الشيوعيين محاصرين بين الإلحاد الرسمي أو المسيحية التي ترعاها كنائس كرواتيا والصرب بدعم غربي. وبعد أن خرج أصدر بيغوفيتش كتابه (الإعلان الإسلامي) 1970، ووصفه البعض بأنه يدعو للجهاد المقدس لإقامة دولة إسلامية بقلب أوروبا، فقدم للمحاكمة السرية العاجلة وتعرض لحكم ب14 عاما بتهمة محاولة قلب نظام الحكم، وفي سنوات سجنه أعد كتابه الذي بين أيدينا الآن والذي مرت ذكرى مولد مؤلفه يوم 19 أكتوبر الجاري.. اضطراب العالم يؤكد بيغوفيتش في فصول الكتاب المتقدمة، أن أكثر الدول المتقدمة التي ينعم مواطنيها بالرخاء تواجه انتشار حالات الانتحار والاكتئاب، وذلك لغياب الجوانب الروحية والدين والغرق في حياة المادية الزائفة. ويرى الكاتب أن شعار الحضارة الغربية كان (أنتج لتربح، واربح لتبدد)، وهو نوع من تقوية الصلة بين الإنسان والسلعة بحيث لا يعيش من دونها، وافتقدت تلك الحضارة للأخلاق والثقافة التي تتمثل في السلوك، فشرع الرومان لأنفسهم اقتناء العبيد من إفريقيا بالملايين وإذلالهم بالسخرة، وهكذا فعل الأمريكان البيض في الهنود الحمر، ورأينا أيضا أكبر الدول المتحضرة ملوثة بالعوادم ومخلفات المصانع. وقد خلقت تلك الحضارة الغربية أيضا طبقة عمال مسخرة لخدمة المُلاّك، ويسهل التلاعب بهم، حتى أن مطالبهم اقتصادية غالبا وليست إنسانية. أما الفن فقد سخرته الدول الشيوعية لخدمة السياسة، ومنعت الأعمال الأدبية كما فعل الاتحاد السوفيتي مع روايات ديستويفسكي ولوحات مارك شاجال، وقد أصبح أشهر الأدباء والفنانين هناك معارضون بالضرورة للنظام.. وكان ذلك ضمن إجراءات تكميم الصحف وتزكية الأمن والجيش ومنع الأحزاب، كما منعت الصين أعمال تولستوي وبيتهوفن وشكسبير حيث كان النظام الرسمي يعيش أجواء شيوعية إلحادية. رغم كل ذلك كان الدين الفطري يقاوم في البشر ليُعلي وجوده، وزالت فلسفات الماركسية (النفعية المادية) والأبيقورية (القائمة على المتعة واللذة) واندثرت من الوجود. وإذا انتقلنا للأسرة، فسنجد أن كثير من فلسفات الغرب لم تعترف بوجودها، وخاصة الماركسية، ولنقرأ كتابات سيمون ديبفوار، المحررة الفرنسية، وماركس، وإنجلز، بل وأفلاطون ذاته لنتأكد من ذلك، فهم يستبدلون بالأسرة، المجتمع نفسه، ويزدرون وظيفة الأمومة الطبيعية باعتبارها معوقا للمرأة! موسى.. عيسى ومحمد في فصول الكتاب اللاحقة، يتحدث بيغوفيتش عن الديانات السماوية الثلاث المنتشرة في العالم، فهناك اليهودية التي يسعى أصحابها لأن يقيموا جنتهم على الأرض ولا يعترفون بالعالم الآخر في (العهد القديم) للتوراة، ولذلك نجد أن الأفكار المادية كلها من اشتراكية وماركسية وماسونية مأخوذة عن مفكرين يهود، وهؤلاء أسسوا لامتلاك الإنسان قوة تعينه على البقاء واهتموا بأن يبني حضارة مادية، ونجد أشهر العلماء في الفيزياء والذرة من اليهود كأينشتاين وغيره، بل إن كريستوفر كولومبس مكتشف العالم الجديد هناك دلائل على يهوديته. وعلى النقيض فإن المسيحية ترسخ مباديء اللاعنف والإيمان بالغيب والزهد، واستمد منها كبار الكتّاب أفكارهم مثل تولستوي، ولكن المسيحية ترسم طريقا لصفوة المؤمنين وطريقا آخر لعامة الناس، وبينما تقوم حياة القساوسة على العزوبة فإنها تجيز الزواج للعامة (كشر لابد منه) بدلا من الزنا. أما الإسلام فيراه بيغوفيتش مثالا للإزدواجية بين الديانتين السابقتين عليه، بين المادة والروح، العقل والإيمان، الدين والدولة، وقد جاء ليضع فكرة واضحة عن وحدانية اللّه بعد أن كانت محيرة في المسيحية، وأكد أن محمدا إنما هو بشر، وجعل المسجد بيتا للّه يجتمع فيه الناس للصلاة وتدبر شؤونهم الدنيوية، وليس معمارا هائلا مليئا بالأسرار كما الكنيسة. والإسلام لا يضع عصمة لبشر، كما في المسيحية، ولكنه مع ذلك يؤكد أن الأمة الإسلامية لا تجتمع على خطأ، ومع الأسف فقد ضرب الفساد السياسي وحالة التصوف المغرقة بين جنبات الجسد الإسلامي فأصبح خاملا لا يقوى على تغيير الواقع ( يمكن أن تكون ثورات الربيع العربي مقدمة لحالة اليقظة التي لم يشهدها المؤلف). الماركسية فشلت في اجتياح العالم الإسلامي -كما يعبر بيغوفيتش- لأنها قابلت دينا يعترف بالواقع وبالقيم الروحية أيضا، في حين أنها واجهت مسيحية كاثوليكية مغرقة في الغرب فتمكنت من الولوج عبرها بقيم مادية جديدة تعيد حقوق الطبقات الضعيفة من أصحاب رأس المال، ولهذا فإن الثورة الدينية التي قامت بالغرب وأتت بالمسيحية البروتستانتية كانت تميل للمنظور الإسلامي بدرجة أكبر. أما القرآن فهو يعترف بالمسيح بين رسُلِ اللّه، ويقبل الإنجيل الأصلي كتابا مقدسا، وهي أبعاد يمكن أن تترجم في تقارب حقيقي بين أبناء الديانتين. فرادة المنهج الربّاني يؤكد بيغوفيتش في كتابه، أن الصلاة تجمع الروح والعقل معا، حتى أن أحد جنود استطلاع الفُرس قبل معركة القادسية وهو ينظر لجيش المسلمين يصلي الفجر قال : (إنهم يؤدون تدريباتهم العسكرية اليومية). ومع ذلك نجد مواقيت الصلاة والحج تعتمد على حقائق فلكية وصحية أيضا بل واجتماعية، تعلم الفرد المسلم عدم العزلة والذهاب للمشاركة مع الآخرين بالمسجد. أما الزكاة فهي تعالج ليس فقط الفقر المزمن بالمجتمع، لكن الأهم أنها تعالج الجشع عند الميسورين، والذي جعل حتى المجتمعات الثرية يوجد لديها فقراء مدقعون، فضلا عن أن ثلث البشرية بالكامل يعانون من نقص الغذاء المزمن. أما الصوم فيمارس في قصور الملوك وأكواخ الفلاحين على حد سواء، فيشعر المجتمع ببعضه. والقرآن يتحدث عن الغرائز لأنها حقيقة واقعة ولا ينكرها كما تفعل الأناجيل التي تركز فقط على الروح، حتى أن القرآن جعلت الملائكة المطهرة تسجد للإنسان البشر في إشارة لتميزه عنهم، فهو لديه إرادة حرة للخطأ والصواب. وعن القانون، يستدعي بيغوفيتش مقولة أرنست بلوك : إن كل دكتاتورية تعليق للقانون، وينطبق ذلك حتى على ديكتاتورية الطبقة العاملة (البروليتاريا) كما يقول لينين فهي (غير مقيدة بقانون وتقوم على العنف)، ولذلك لم يكن بالإمكان جعل الطبقة الحاكمة هي التي تصوغ القوانين لأنها ستفصلها لصالحها وضد الضعفاء، وكان المستعمرون يفعلون الأفاعيل بمستعمراتهم الإفريقية بالقانون، وهو ما يفعله الرأسماليون أيضا حين يحتكرون مصادر الإنتاج، لكن الإسلام يحرض على قوانين تلزم ضمير المواطنين جميعا وتعيد للفرد حقوقه وللجماعة أيضا، في غير تنافر بين المصلحتين، ويؤكد وحدة الهوية بين القانون والدين. الأنظمة المستبدة كانت ولا تزال برأي مؤلف الكتاب تستخدم محاكم غير طبيعية للتحايل على القانون الطبيعي الذي عادة ما يكون نقيضا لرغباتها، ويتمثل ذلك في مراكز الاعتقال والمحاكمات العسكرية والأوامر الاستثنائية المخالفة للقانون. على أرض الواقع يؤكد المؤلف أن كافة القيم المثالية تتغير حين تهبط على صخرة الواقع، حتى أن المسيحية تحولت من تعاليم عيسى الدين الخالص إلى أيديولوجية وكنيسة وتنظيم، والمؤلف يبدي احتراما للمسيحية كديانة ولا يضمها ضمن التعاليم المفسدة، ولكنه ينتقد إغراقها في الروحية بعيدا عن الدنيا. أما أفكار الماركسية فقد شهدت اتجاها أخلاقيا رغم أنه مذهب مادي بحت. ويشير بيغوفيتش، أن إنجلترا يمكن اعتبارها استثناءً بين أوروبا في فصل الدين عن الدولة، فقد هدفت ثورتها للقضاء على السيطرة البابوية وطغيان الملكية معا، وعلى العكس نرى أن إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال نماذج حادة للاستقطاب بين الديني والدنيوي، والرأي العام هناك غير قابل للتصالح بين حركات وأحزاب يمينية مسيحية ويسارية ماركسية. أما الانطلاقة الختامية للكتاب فهي أن التسليم للّه هو الضوء اليانع لاختراق التشاؤم ومواصلة الجهاد في الحياة رغم المحن، مؤكدا أن أصحاب المذاهب المتطرفة كالشيوعية والماركسية أصبحوا يتجهون بعيدا عن أفكارهم صوب الواقع، فدعيت الدول الشيوعية لتبني مباديء ديمقراطية نسبيا، وتنامت أحزاب الوسط خاصة في انجلترا والمجتمعات البروتستناتية عموما، وتعد المكسيك وفنزويلا من أكثر الدول بأمريكا الجنوبية القريبة من الديمقراطية الاشتراكية ولذلك فهما الأكثر استقرارا. وسادت مناقشات حول هذا الاتجاه في اليابانوالمكسيك.، وحتى في الصين رفعت الرقابة تدريجيا عن أعمال بيتهوفن وشكسبير بعد وفاة ماوتسي تونج، وأعمال دستويفسكس وشاجال وكافكا تم رفع الرقابة عنها في روسيا، وهو ما يعني أن مطلب الحرية سيعلو صوته في العالم، وفي الدول الرأسمالية حدث العكس، فصدرت أصوات للكبح من الحرية المفرطة، واتجهت بعض المصانع الأمريكية نحو الاشتراكية بالاعتماد على الدولة، واتجهت بعض المؤسسات الاقتصادية في الاتحاد السوفيتي السابق بعيدا عن المركزية..