أستسمح القارئ عن خرقي القاعدة التي فرضتها على نفسي، وهي الحديث حصرا عن مشاهير زاروا الجزائر، لأتحدث، هذه المرة، عن كاتب مشهور لم تتح له هذه الفرصة، لكنه زار بلادنا بفكره وحلمه وخياله. إنه الكاتب الفرنسي المعروف بروسبير ميريمي Prosper Merimee. وقد ظلّت الجزائر كما تمثّلها في خياله حلما يراوده إلى آخر حياته. وتشهد على ذلك مقاطع عديدة من رسائله يتحدث فيها عن مشروع هذه الزيارة منذ سنة ,1847 لكن هذا المشروع لم يتحقق. ويبدو أن ميريمي كان يعدّ لهذه الزيارة بدقة فائقة، فكان يقرأ بشغف كبير وفضول مثير للدهشة كلّ التقارير والمصادر التي تتحدث عن الجزائر، منذ أن كان رئيس مكتب الأمين العام لوزارة البحرية والمستعمرات قبيل احتلال الجزائر. ومن الواضح، أن ميريمي كان يخطّط لكتابة عمل أدبي تدور أحداثه في أرض الجزائر، أو على الأقل وصف رحلة، كما فعل ذلك بعد أن زار إسبانيا وكورسيكا وإيطاليا وإنجلترا وغيرها من البلدان.. ومن المعروف أن هذا الكاتب استقى المادة الأساسية لأعماله الكثيرة من انطباعات رحلاته العديدة حول العالم. وخير دليل على ذلك مجموعتا ''كولومبا'' و''كارمن''. فشل مشروع ميريمي لأسباب مجهولة، لكن الكاتب عوّضه ابتداء من سنة 1859 بقراءة مسلّية لكتب الجنرال دوماس التي كانت آنذاك موضة منتشرة في أوساط الكتّاب المبتدئين والمغامرين، ومرجعا أساسيا لكلّ عشّاق الجزائر بسحرها وألوانها وغرائبها، وخاصة كتبه ''القبائل الكبرى'' و''أحصنة الصحراء'' و''الصحراء الكبرى''. وعوّض ميريمي أيضا مشروعه الفاشل بقصة شرع في كتابتها في فونتان بلو، وأنهاها في باريس، ونشرها في المونيتور اينيفرسال في جانفي .1873 هذه القصة تحمل عنوانا غريبا هو ''جومان''. وإضافة إلى غرابة عنوانها، بدت القصة للقراء غريبة، من حيث بنيتها وموضوعها. فهي مفكّكة وخالية من أيّ موضوع، ما عدا موضوع الجزائر، حيث تدور أحداثها في الجهة الغربية، بين تلمسان والحدود المغربية. ودهشة القراء والنقاد لها ما يبررها، خاصة أنهم تعوّدوا على قصص ميريمي التي تعتبر نماذج رفيعة ومتقنة في الفن القصصي. غرابة القصة واندهاش القراء من تفكّك موضوعها وتهافت بنيتها، دفعت العديد من النقاد إلى محاولة تقديم تأويلات ذاتية في غالبها، ومتضاربة في مجملها. ومن هؤلاء الباحث راؤول روش الذي فسّر سنة 1928 هذه القصة على أنها تعبير عن حلم عاشه الكاتب فعلا، ومصدر هذا الحلم رغبة ملحة عاشها الكاتب إزاء يهودية. بعد ذلك قدّم ريمون شميستلاين وجهة نظر مخالفة، معتبرا جومان انتحالا حاذقا لقصة شعبية ذات أصول شمالية هي ''ابن الدب''، واستدل على ذلك ''بالصراع مع الخصم الذي لا يقهر، والسقوط في الهاوية السحيقة، والكهف، والفتاة الأسيرة، والثعبان الضخم''. على أنه ومهما اختلفت تأويلات الباحثين لقصة ''جومان''، يمكننا الجزم أنها تمثّل تعويضا عن حلم لم يتحقق، نسجه الكاتب ميريمي من خياله الخصب ومن قراءاته الكثيرة المسلية لكتب ذلك الوقت التي كانت تقدم صورة عن الجزائر مشوّهة في شكل كليشيهات وقوالب جاهزة مكرّرة، الغرض منها إرضاء ميل الإنسان الأوروبي نحو كل ما هو غريب ومثير في الأوطان البعيدة. لكن هذا الحلم المستحيل ليس حلم الكاتب نفسه ولا يمثّل حالة فنان فردي، إنما هو حلم باللذة والشهوة والشبق يمكن أن يدرج دون تحفظ فيما يسميه ادوارد سعيد ''بالإنشاء الإفريقي''. وإذا طبقنا ذلك على بلادنا قلنا ''الإنشاء الجزائري''، أي ذلك الخطاب الأدبي الذي ينطوي على تصوّرات عن البدائية والوحشية والغرابة والإثارة، والذي ميّز أغلب ما كتبه الكتّاب الفرنسيين عن بلادنا ابتداء من: ألفونس دودي، وغيستاف فلوبير، وغي دي موباسان، وأوجين فرومونتان، والكتّاب السيّاح، وصولا إلى ممثلي مدرسة الجزائر في النصف الأول من القرن العشرين. [email protected]