لمّا أمر الله إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السّلام ببناء البيت العتيق في مكةالمكرمة، أمَرَ الله خليله إبراهيم بدعوة النّاس لزيارة بيته والطواف حوله، قال إبراهيم: يا ربّ ومَن يسمع ندائي، فجاءه التّوضيح الإلهي أن يا إبراهيم ما عليك إلاّ البلاغ وعلينا الإسماع. ومن يومها والنّاس يأتون من كلّ فَجٍ عميق ليشهدوا منافع لهم ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍ عَمِيقٍ). وهاهم حجاجنا الميامين ضيوف الرّحمان ووفده، من كتب الله أسماءهم ووجّه لهم بطاقات الدعوة الرّبانية، فمنهم مَن ركب الطائرة ومنهم مَن ينتظر، وكثيرون آخرون، حبسهم العذر، ما قطع الحجّاج واديًا ولا ركبوا كبوة بمكة والمدينة إلاّ كانوا معهم، وحال بينهم وبين ما يشتهون قضاء الله وقدره. هاهي الكعبة المشرّفة، بيت الله العتيق، وقبلة المسلمين، ومركز الأرض، ومهوى الأفئدة والقلوب، مَن تَغنَّى بها الشُّعراء وبكى على عتباتها وملتزمها العباد والزُّهاد والصالحون والتائبون من ذنوبهم، حيث سكبوا عبرات النّدم والأسى.. ها هي الكعبة قد تزيّنت ولبست حِلّتها السنوية المزركشة بآيات قرآنية مصنوعة من الذهب الخالص. الحج فقهيات وإيمانيات، أمّا الأولى فقد حاولنا عبر هذه الصفحة من أيّام أن نشرَح لحجاجنا فقه الحج وبشكل مختصر ومُيَسّر، ولنا اليوم حديث عن جماليات الحج وإيمانياته، عن مدرسة الحج وفوائده وعبره وثماره الّتي ينبغي للحجاج أن يقفوا عليها فينهلوا منها. أمّا أوّل درس نتعلّمه من مدرسة الحج فهو قيمة التّوكّل على الله والاعتماد عليه سبحانه، فالحاج قد توكّل على ربِّه من أوّل يوم سجّل فيه اسمه في قائمة المقترعين على الحج ثمّ توكّل على الله في جمع المال الحلال ثمّ توكّل على الله وقد ركب الطائرة بعد أن استودعه سبحانه المال والأهل والولد. أمّا إحرامه وتجرّده من المخيط والمحيط ولبسه فقط لباس الإحرام فهو تذكير ودرس عملي يُذَكّر المسلم بلحظتين مهمّتين في حياته لحظة الميلاد ورؤية النُّور إذ لم يكن عليه إلاّ قطع من القماش قد لفّت عليه (قماطة)، وهاهو اليوم بالمال والزوجة والولد والمنصب.. ومن الميلاد إلى الموت وليس بينهما إلاّ كما بين الأذان والإقامة، أذان المولود وإقامة الجنازة، قلت: يُذَكِّرُه لباس الإحرام بالكفن الّذي لا يأخذ معه غيره ممّا حازه من كنوز الدنيا ومتعها. ممّا يزيد الحجاج في شعورهم ذلك هو حال نفرتهم من عرفات إلى مزدلفة وهم بلباسهم ذاك، شُعْثٌ غُبْرٌ وكأنّهم حقًا من قبورهم وأجداثهم سِرَاعًا إلى نَصْبٍ يُوفِضُون، لا هَمَّ لهم ولا ذِكْر ولا فكر إلاّ في الآخرة والجنّة والعِتْق من النّار، وهو نفسه شعور الحجاج يوم النَّفْرَةِ من عرفات إلى مزدلفة {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ...}. أمّا ثالث عِظة ووقفة إيمانية ينهل من فيضها الحجاج فهي يوم التاج والجائزة، يوم العتق والفوز، يوم الدعاء والبكاء، خيرُ يومٍ طَلَعَتْ فيه الشّمس، إنّه يوم عرفات وما أدراكم ما عرفات، إنّه يوم يتجمّع فيه ملايين الحجاج، لباسهم واحد وهتافهم واحد، وأملهم واحد ورجاؤهم، شُعْثًا غُبْرًا يُباهي بهم رَبُّهُم ملائكته فيقول ''انظروا إلى عبادي أتوني شُعْثًا غُبْرًا ضاجين من كلّ فجٍ عميق أشهدكم أنِّي قد غَفَرْتُ لَهُم''، إنّه مشهد إنساني إيماني لم تستطع الأنظمة ولا المنظمات ولا الهيئات العالمية أن تصنع مثله أبدًا، إنّك تنتقل بين شعابها وطرقها، وتتجوّل بين خيمها وأشجارها وجبالها، إنّك وأنتَ ترى الجموع والحشود وقد تنافست في صعود جبل الرّحمة... فاجتهدوا يا حُجّاج بيت الله الحرام.. فهذه فرصتكم وقد لا تكتب مرّة أخرى، فإنّكم لا تدرون أمِنَ الأحياء تكونون العام القادم أم مِن أهل الآخرة.