من جاكرتا ومن لوس انجليس. من كيب تاون ومن موسكو. من داكار وداكا، ومن كل فج عميق تقلع طائرات وسفن كثيرة محملة بنحو مليوني حاج، والمقصد لدى الجميع مكةالمكرمة. اسمعهم يلبون لتدرك أنهم يقولون للتاريخ: تمهل ها هنا. إبراهيم الخليل أبونا وإمامنا. ذكراه في قلوبنا. تعاليمه لم تمت. لقد جاء من بعده أنبياء كثر صدقوا ما دعا إليه وأكدوه. وكان الخاتم لهم نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الصادق الأمين، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وأزاح الظلمة، وكشف الغمة عن كل إنسان يطلب الحق وينشد الهداية. لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لبيك. إن الحمد، والنعمة، لك والملك. لا شريك لك. هكذا دعاء القادمين من شرق المعمورة وغربها، ومن شمالها وجنوبها، قلوبهم يملؤها الشوق، والمقصد أم القرى. فيها بني أول مسجد على وجه الأرض يعبد فيه الله وحده لا شريك له. وعلى ثراها مشى ابراهيم واسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، رسالتهم واحدة لبني البشر كافة: أيها الإنسان، اعرف خالقك، واعبده وحده لا شريك له، ولا تركع لسواه، وأعلم أن كرامتك أمر إلاهي لا يجوز لبشر أن ينقضه. المقصد مكة. فيها نزلت أول آية من الكتاب السماوي الخاتم الذي أنزله الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم لينذر به أم القرى ومن حولها. اقرأ. تلك هي الآية الأولى من الكتاب. أمر علم ومعرفة ونور، به يخوض الإنسان حربه على الجهل والضلال والظلمات. وهؤلاء العشاق المشتاقون، الأحرار، يطيعون فرضا من فروض الدين، بينه القرآن الكريم والهدي النبوي، ويستعدون لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام. لا أحد أجبرهم على المجيء. لا قوة في العالم بوسعها إجبارهم على المجيء. إنما جاء بهم الحب العميق والشوق الغامر. الحب لخالقهم، ولنبيهم من بعده، يلبون حامدين شاكرين أنعم ربهم عليهم، وما أكثرها. والشوق لأن يمشوا بأقدامهم في شعاب ودروب مشى فيها، وصلى فيها، ابراهيم الخليل، وابنه اسماعيل، وحفيده محمد صلى الله عليهم وسلم. تصل الطائرات إلى جدة، ويركب الحجاج سياراتهم إلى مكة. لبيك اللهم لبيك. تكاد القلوب تطير من بين الضلوع. والعيون تفيض من الحب والشوق دمعا سخيا. حتى إذا دخلوا المسجد الحرام، وبدت لهم في قلبه الكعبة المشرفة، صدقوا عندئذ أنهم وصلوا. وأن الأمل الذي راودهم سنين عديدة أصبح اللحظة حقيقة سعيدة. مثل بقية الناس، فإن لهؤلاء العشاق أهلهم وأموالهم وأعمالهم. لكنهم تركوا كل شيء وراء ظهورهم وجاؤوا على أجنحة الحب يهتفون: لبيك اللهم لبيك. الله تعالى دعاهم لزيارة بيته العتيق فسمعوا وأطاعوا وجاوؤا في الوقت المعلوم الذي بينه نبي الرحمة ومكارم الأخلاق صلى الله عليه وسلم. يا لهم من محظوظين. يا لهم من سعداء. أي شرف أعظم من أن يكون الداعي من بيده مقاليد السماوت والأرض، وأن يدخل المدعوون في عداد أجمل وصف: ضيوف الرحمن!!