لا تجد مكانا لموضع قدم. هكذا بات ميدان التحرير وسط القاهرة، في مشهد لا يمكنك عد المتظاهرين. ورصد العدد في 2أو 3 ملايين فربما يكون رقما متواضعا أمام أعداد الثائرين الموجودين في كل أنحاء الميدان والشوارع المحيطة به. الخيم الصغيرة تتوسط الميدان والهتافات لا تتوقف، بل تتزايد سخونة لحظة بعد أخرى، بينما يتزايد سقف مطالب المتظاهرين يوما بعد آخر، في ظل تعنت النظام وإصراره على عدم سماع صوت الشعب. بينما تاهت الشعارات المرسومة على الأرض، وانتشرت النكت المكتوبة على اللافتات وكذلك الرسوم الكارتونية، كما تتعالى الأغاني الوطنية وأغاني الشيخ إمام في بعض الأوقات، وفي أخرى يرتفع صوت الأذان، ليقف المتظاهرون يصلون وقوفا نظرا لعدم وجود مكان للسجود. زفاف وحفلات وقداس ومأتم، تجدها جميعا في الميدان، فعشرات الشباب والفتيات يتوافدون على الميدان لعقد قرانهم وسط الملايين دون دعوة أحد. بينما أحيا المتظاهرون، أمس الأربعاء، ذكرى الأربعين لشهداء كنيسة القديسين التي شهدت تفجير إرهابيا في أول يوم عيد الميلاد، راح ضحيته 24 قتيلا. ''متظاهر بعد مواعيد العمل الرسمية'' هذا هو حال الآلاف من المتظاهرين بميدان التحرير، حيث يذهبون صباحا إلى أعمالهم يضمنون رواتبهم نهاية الشهر، ثم يأتي وقت النضال في ميدان التحرير حتي صباح اليوم التالي. كما تحمل التظاهرات مشهدا عائليا، فهناك المئات من الأسر التي تأتي بصحبة أولادها ليقضوا اليوم في الميدان وكأنهم في نزهة، جالبين معهم بعض المؤن للمتظاهرين من مياه وأدوية أولية. صور الشهداء تحيط بأرجاء الميدان، في محاولة لتذكير المتظاهرين بأن دماء هؤلاء يجب ألا تذهب هباء، فهي دماء غالية. وعلي الرغم من دخول الثورة يومها 17 إلا أن المتظاهرين يبدون أكثر تصميما أمام تعنت النظام، حيث هددوا أمس بالدخول في عصيان مدني وتعطيل كافة مؤسسات الدولة عن العمل إذا لم يستجب الرئيس لمطلب الرحيل. ولكن من الذي يشعل وقود الثورة ومن الذي نجح في إعطاء تلك الجرعات من الحماسة والشجاعة للمواطن المصري الذي ظل لفترة طويلة رافعا لافتة ''خليني جنب الحيط''؟ سؤال تحمل إجابته أربعة أسماء، هم الرئيس مبارك واللواء عمر سليمان والفريق أحمد شفيق ووائل غنيم مدير تسويق شركة غوغل. فهذا الرباعي هو المسؤول عن تحريض المصريين على الثورة وتفعليها وإشعالها يوما بعد آخر. فعلى الرغم من أن المصريين يملون بسرعة، إلا أن ثورة 25 جانفي تزداد اشتعالا يوما بعد يوم. غنيم مهندس ثورة 25 جانفي.. وحديث ال25 دقيقة قبل يومين خرج المدون والناشط وائل غنيم، مدير تسويق شركة غوغل بالشرق الأوسط، لتوه من المعتقل، ليخرج عبر شاشات التلفزيون باكيا، يتحدث بكلمات أشعلت النيران في قلوب الآلاف من المصريين، عندما تحدث عن اعتقاله وما تعرض له، أو سبب دعوته للتظاهر يوم 25 جانفي، أو بكائه على شهداء الثورة الذين تجاوز عددهم 350 وتقديمه العزاء والاعتذار لذويهم. فعلى الرغم من ال25 دقيقة التي ظهر فيها غنيم، إلا أنها كان لها تأثير السحر على الشارع المصري، الذي خرج منه الآلاف أمس الأول للمشاركة في تظاهرات الثلاثاء والأربعاء لأول مرة منذ اندلاع الثورة، وأكد عدد منهم أن كلمات وائل هي السبب. وكان تدافع هؤلاء الآلاف نحو ميدان التحرير، خلال اليومين الماضيين، وإقدامهم على منع موظفي مجمع التحرير، أكبر المجمعات الحكومية في وسط القاهرة، من ممارسة عملهم، وكذلك محاصرة كل من مجلسي الشعب والشورى ومجلس الوزراء، وتعليق بعض لافتات عليها تقول: ''المجلس مغلق لحين رحيل مبارك''، كان بمثابة جرعة الشجاعة التي منحها وائل غنيم الأدمن المسؤول عن صفحة خالد سعيد على ''الفايس بوك''، وصاحب دعوة مظاهرات 25 جانفي. مبارك وسليمان وشفيق في المعسكر المضاد وغزوة ''الجمل'' وإذا كان وائل المحرض عفويا للمتظاهرين، فإن الرئيس مبارك ونائبه اللواء عمر سليمان ورئيس حكومته الفريق أحمد شفيق المحرضون المضادون. فمنذ اندلاع الثورة في 25 من الشهر المنصرم وخروج عشرات الآلاف من المتظاهرين للمطالبة برحيل مبارك، إلا أن الرئيس قرر معاندة شعبه فخرج عليهم بخطابه الأول، بعد يوم الجمعة الدامي الذي سقط فيه مئات القتلى والجرحى، فحمل نبرة من التعالي، رافضا الاعتذار على الأحداث الدامية وانسحاب قوات الشرطة، ومتجاهلا طلبات الشارع فخرج ليقول: ''سوف أظل''، مكتفيا بحل الحكومة وتعيين أخرى لا تختلف كثيرا عن سابقتها. لغة التعالي والتجاهل دفعت إلى خروج الكثيرين إلى الشارع والتضامن مع متظاهري حركة 25 جانفي. فبعدما كانت التظاهرة لا تتجاوز 20 ألفا في أيامها الأولي، بدأت منذ هذا الخطاب تكسر حاجز نصف المليون في مشهد لم تره مصر منذ ثورة الخبز العام .1977 3 أيام مرت ثم خرج مبارك في خطاب جديد يحمل نبرة من التواضع، مؤكدا أنه لا ينوي الترشح لولاية ثانية وكذلك تعديل الدستور. وقد لاقت نبرة مبارك حالة من التعاطف من قبل المصريين الذين ربما تراجع بعضهم بعض الشيء عن استكمال نضاله وإعطاء الرئيس مهلة من الوقت. وما هي إلا بعض السويعات حتى شهد ميدان التحرير ما يعرف بغزوة الجمل يوم الأربعاء قبل الماضي، حينما هاجم البعض ممن وصفوا، بالمأجورين من قبل رجال النظام، المحتجين بميدان التحرير وقاموا بالاعتداء عليهم بالرصاص الحي والقنابل والطوب، ما أسقط عشرات الجرحى والقتلى، وكانت تلك الأحداث كفيلة بالانقلاب على الرئيس من قبل المتعاطفين، بل ووجدت مبررا لمئات الآلاف ممن كان لا يملك شجاعة النزول، فخرج الملايين يوم جمعة الرحيل في كافة أنحاء الجمهورية، إلا أن الرئيس لم يستجب وخرج بمجموعة من القرارات لتخرج نشرات الأخبار وتؤكد أن الرئيس يمارس مهامه كما هي، فعقد اجتماعات موسعة مع نائبه والحكومة الجديدة وكذلك مقابلة وزير الخارجية الإماراتي، بل ويصدر الرئيس حزمة من القرارات بتشكيل لجنة دستورية من شيوخ القانون لتعديل الدستور وعدم المساس بالمتظاهرين، حتى أن حوار اللواء عمر سليمان مع القوى السياسية انتهى بيانه بأنه ''بناء على تعليمات وتعهدات الرئيس مبارك''، في محاولة للتأكيد على بقاء الرئيس، وهو الأمر الذي استفز عددا أكبر من الجماهير الذين يشعرون بأن الرئيس مبارك يتجاهل مطالب شعبه. ويشارك مبارك نائبه اللواء عمر سليمان، الذي حاول استخدام لغة مهادنة خلال الأيام الماضية، إلا أنها باتت مغايرة خلال اليومين الماضيين، عندما أكد سليمان خلال اجتماعه مع رؤساء الصحف المصرية ضرورة دعم مبارك خلال الفترة القادمة ودعم عدم رحيله، مشيرا إلى أن البديل هو الانقلاب، في إشارة إلى انقلاب عسكري. إهانات متتالية للشعب المصري وإصرار على ''جمعة الزحف'' كما خرجت العديد من تصريحاته الصحفية لتؤكد أن الشعب المصري غير مؤهل للديمقراطية. وهو ما اعتبره المصريون إهانة جديدة من النظام الحاكم، فخرجوا يطالبون بإسقاط عمر سليمان بجانب الرئيس مبارك. ولم يقف سليمان عند هذا الحد بل وقف بالأمس مستخدما لغة التهديد والترهيب قائلا: ''لا يمكن للتظاهرات أن تبقى أكثر من ذلك وأن الإخوان هم من يحرك شباب الثورة''. مؤكدا، وبشكل قطعي، بأن مبارك لن يرحل قبل انتهاء ولايته في أكتوبر القادم''. تلك التصريحات كانت كفيلة بهجمة من الآلاف من المتظاهرين الجدد، المشاركين لأول مرة، نحو ميدان التحرير، خلال الساعات الأخيرة من مساء أمس للمشاركة والتأكيد بأن غدا الجمعة سيكون يوما مختلفا في حياة مصر. حيث قابل الشارع تهديدات سليمان بلغته ذاتها، مؤكدا أن العصيان المدني والإضراب العام هو السبيل إذا لم يرحل مبارك، والتظاهر أمام القصر الجمهوري. كما بات الشارع يرى أن سليمان هو رجل النظام ورجل مبارك وأن تلك التصريحات قد أحرقته بعدما كاد يكون الأقرب للشارع المصري لتولي السلطة خلفا لمبارك. الفريق أحمد شفيق، رئيس الحكومة المصرية الجديد، يبدو هادئا ومهادنا، حيث خرج ليؤكد في أول تصريحاته بأن الشعب المصري يحتاج لكثير من الإصلاحات ولا يستحق سياسة التجويع التي يعيشها، ثم يخرج ليقدم اعتذارا للشارع المصري بعد أحداث الأربعاء الماضي، دون توضيح لماذا صمتت الحكومة ولم تتدخل وتصدر أوامر للجيش للتدخل خلال صراع دام أكثر من 17 ساعة بين بلطجية النظام والمتظاهرين. وتحولت كلمات شفيق لتصب الزيت على نار الغيران في الشارع المصري، فتدفع بالكثير من المتظاهرين إلى ميدان التحرير وفي الميادين العامة في مختلف المحافظات. ومن المتوقع أن شهد يوم غد الجمعة العديد من المفاجآت، حسب ما وعد به المتظاهرون الذين أطلقوا عليها ''الجمعة الأخيرة''، أو ''جمعة الزحف''.