مازال طيف الراحل توفيق ميميش لم يفارق الممثل حميد فوري الذي آثرت ''الخبر'' زيارته في بيته، فوصفه بالظل الذي كان ملازما له في يومياته على الركح. ورغم فقدانه الأمل في إيجاد غد ركحي أفضل لوقت ما، إلا أنه عاد وأضحى أكثر إصرارا على المضي قدما. وقال إن ما يحدث اليوم في العالم العربي، أظهر بأن النخبة بعيدة كل البعد عن الشعب، داعيا السلطة لتكون أسرع من ''الفايسبوك'' في رأب الصدع. لم يتوان الممثل حميد فوري قط عن استقبالنا، عندما اتصلنا به وأعربنا له عن نيتنا في زيارته ببيته.. اتجهنا صوب مسكنه المتواجد في منطقة غير بعيدة عن ميناء الصيد البحري بعنابة، فأطل علينا والفرحة بادية جليا على محياه. دعانا إلى ولوج البيت، وخصنا بحفاوة الترحاب وأدخلنا قاعة الضيوف، فوجدنا زوجته وأبناءه بشرى، مسيليا، لميس وطارق، وكذا حماته، بانتظارنا والفرحة تعتريهم، فجلسنا وإياهم، ارتشفنا فنجان قهوة، وتذوقنا ما لذ وطاب من حلويات أكرمتنا بها العائلة.. تجاذبنا أطراف الحديث واسترقنا سويا وقتا مستقطعا من الزمن، اتسم بالدفء العائلي المتميز، أعدنا خلاله ذكريات حميد مع الخشبة، وتوقفنا عند أهم محطات حياته. كانت البداية ب''سانت أغسطين'' وتشجيعات سليمان بن عيسى انطلقت حكاية العشق الأزلي التي تجمع الممثل حميد فوري بالخشبة، سنة 1986، بثانوية ''سانت أغسطين'' بعنابة وقاعة الشباب عبدالقادر صاولي، بتشجيع من المسرحي القدير سليمان بن عيسى، الذي يقول عنه حميد فوري ''زرع في الفنان بن عيسى حب وعشق المسرح، وجعلني أتعلق بالخشبة حد النخاع، مذ كنت أشارك في العروض المسرحية المقامة في الثانوية التي كنت أدرس بها، وكانت مفاجأتي كبيرة جدا يوم التقيت به في مهرجان أفنيون العام .''1989 لم يمنع تعلق حميد فوري الكبير ببن عيسى، ذاكرته التي تحمل الكثير من الذكريات من استعادة لقاءات جمعته بأعلام المسرح الجزائري، فضلا عن لقائه بفقيد أب الفنون، الذي اغتالته أيادي الغدر عبدالقادر علولة، فأردف قائلا ''التقيت علولة لدى مشاركتي في أحد المهرجانات بمسرحية ''الطاووس''، المقتبسة عن رواية ''الخبز الحافي'' للمغربي محمد شكري، وهناك تحصلت على أول جائزة في المهرجانات المسرحية. كما أنني نهلت الكثير من ثقافة المخرجة المسرحية فوزية آيت الحاج، والتي شاركت في أحد أعمالها ''لعشيق عويشة والحراز''، وبصراحة هي إنسانة أكاديمية بامتياز، تعلمت منها معنى الاحترافية المتناهية بعيدا عن المبالغة، وكيف يمكن لبطل العمل المسرحي تجسيدها فعليا على الخشبة. وبنبرة لفها حزن عميق، وحرقة ما بعدها حرقة، تذكر حميد المرحوم عز الدين مجوبي، متوقفا عند أعمال الرجل المتميزة، وتأسف مليا لعدم لقائه. أحسسنا من حديث الرجل، أنه من النوع الذي يحمل وفاء خاصا وخالصا لمن تعامل معهم في مسيرته التمثيلية التلفزيونية تارة والركحية تارة أخرى، إذ ظل يتنقل بين الأسماء محاولا عدم نسيان أي واحد منها، فكان الدور على الممثل الراحل العربي زكال الذي تعامل معه في الفيلم التلفزيوني ''فنطازيا''، وكذا الممثلة شافية بوذراع التي تعامل معها في السلسلة التلفزيونية الفكاهية ''عيسى سطورى ''4، والمسرحي امحمد بن فطاف والممثلة والمخرجة جميلة عراس في ''دوار الشاوية''، هذه الأخيرة التي يقول إنها تمكنت من جعل الكاميرا، تستنطق الأشياء الصامتة في لغة خفية، وتكشف عن التراث الأصيل لمنطقة الأوراس الأشم. ويضيف فوري لتلك الأسماء التي ظلت راسخة بذاكرته، رغم رحيل بعضها عن وجه البسيطة، اسم الروائي واسيني لعرج، يقول: ''كتبت مسرحيتي (مزغنة 95) اقتباسا عن رواية واسيني الموسومة ''حارسة الظلال''، وكانت بيننا الكثير من المراسلات، تطرقنا فيها للأفعال المنبوذة والانتهاكات الخطيرة التي قامت بها الجماعات المسلحة منتصف التسعينيات، ولكن نحمد الله اليوم، أننا مازلنا في الجزائر. توفيق ميميش.. ظلي في المسرح عندما فكرت في الحديث مع الممثل حميد فوري، عن محطات حياته الفنية، لم تبرح صورة المرحوم توفيق ميميش مخيلتي، وأنا التي لم أكن، وعلى مدار قرابة العقدين من الزمن، أرى حميد في المسرح الجهوي لعنابة، إلا وأجده رفقته توفيق، إذ كانا متلازمين ومترافقين إلى درجة كبيرة. فكانت رغبتي في الغوص إلى قلب تلك العلاقة التي جمعت بينهما طويلا، دافعي للتطرق إلى الموضوع، وما إن ذكرت ميميش رحمة الله عليه، حتى ارتسمت علامات الحزن على الفراق الجسدي على وجه حميد، ولكن بانبعاث كلمات هذا الأخير من بين شفتيه. أدركت أن الرابط الروحي بينهما مازال موجودا، رغم مغادرة توفيق إلى رفيقه الأعلى. يقول حميد: ''توفيق كان ظلي في المسرح، همنا بأحلامنا مع بعض، وكانت أهدافنا في التعامل مع أب الفنون مشتركة ومتماثلة.. كنا شابين يافعين، وطموحنا كان أكبر من مسرح عنابة، ولكن ماذا يمكن للإنسان أن يفعل، عندما يصبح أسير ظروفه القاسية والقاهرة؟. ستتقلص معنوياته تدريجيا لا محالة، وهو ما حدث لتوفيق الذي كان حلمه أكبر من ظروفه أيضا، وأكبر من القردة الخاسئين؛ لكنه مات ميتة شرف فوق خشبة المسرح ذاته، الذي مازال يشهد له وقع نعله عليه، ومازالت أركانه تردد صدى نبرات صوته التي كانت تبعث كلماته وجمله الباحثة عن أفق مسرحي، سقط على ذلك الركح شهر ماي من العام الماضي، وهو يؤدي دوره في مسرحية حملت عنوان ''حياة مؤجلة''''. صمت حميد هنيهة، وكأني به يحاول استعادة خيوط مواقف نسجها بمعية رفيقه الذي جمعتهما معا ذكريات ليس بإمكان الزمن أن يمحوها، كما ليس بإمكان ذاكرته إدراجها طي النسيان، ثم استرسل في حديثه ''قدمنا مع بعض أشياء رائعة، فقد كان منافسي في العمل المسرحي دون غيره، وكان بيننا صراع جميل، لا مثيل له في المسارح الأخرى. عملنا مع بعض المسرح التجريبي في مسرحية ''الهربة''، وكنا وقتذاك شابين في مقتبل العمر، وأستغل الفرصة لكي أدعو المسارح إلى أن تفتح أبوابها أمام الطاقات الشابة.. بصراحة، لا يوجد لدي الآن من أتقاسم معه الطموح نفسه ''. ''غلب النساء'' صرخة رفض للواقع المر يتذكر فوري كيف تمكن من افتكاك تأشيرة المشاركة في فعاليات تظاهرة ''سنة الجزائر بفرنسا ''2003، عندما ثار ضد سياسة المحسوبية والمحاباة، في وجه من كان بأيديهم قرار المشاركة في تلك التظاهرة، حيث قدم مسرحية ''الأحلام القذرة'' للمخرج كمال كربوز، رفقة توفيق ميميش وريم حميدة، وهي مسرحية من إنتاج المسرح الجهوي عز الدين مجوبي بعنابة. وشدد المتحدث على ضرورة أن يكون الفنانون الجزائريون في مستوى الطموحات والإمكانات التي سخرتها الدولة في تفعيل الأعمال الفنية والإبداعية، وجعلها بحق رسالة نابعة من عمق هوية المجتمع. واستطرد قائلا: ''كنت خلال الأيام القليلة الماضية في تلمسان، واطلعت على ترميم قصر الزيانيين، الذي سيكون مقصد ضيوف فعاليات ''تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية ''2011، الذين سيحطون من كل حدب وصوب، وهي تظاهرة مخصصة بالأساس لإثراء الثقافة الجزائرية التي يجب أن نعطيها حقها، مثلما كان عليه الأمر بالنسبة لتظاهرة ''الجزائر عاصمة الثقافة العربية .''2007 أدركت عندما وقفت عند قصر الزيانيين، أن إمكانات مادية كبيرة سخرت للتظاهرة، وهو ما يجبرنا أن نكون في مستوى الطموحات والتحديات المفروضة''. كما تحدث فوري عن تجربته الأخيرة، المتمثلة في تقديمه مونولوجه الموسوم ''غلب النساء'' بالمراكز الثقافية الفرنسية، في عدة ولايات جزائرية، فقال ''اللغة الفرنسية لغة ثانية، وفضاء يفتح الأبواب على مصراعيها، سواء شئنا الاعتراف بذلك أم أبينا، و هو أمر لا يقتصر على فوري فقط ، فوزارة الثقافة تتعامل مع شركات فرنسية، كما هو الحال بالنسبة للفيلم السينمائي ''الخارجون عن القانون'' للمخرج رشيد بوشارب. وأصدقك القول أنني عندما تعاملت مع المركز الثقافي الفرنسي، لاحظت الفرق الشاسع في التعامل، من حيث تكريم الفنان وتوفير جميع الظروف المساعدة على تقديم عرضه في أحسن صورة، وهو ما نفتقد إليه. أتدرين، لقد عاد لي حلم الفنان الذي كنت أحلم به، وكدت أطوي صفحته، أعاد لي التعامل مع مسؤولي المركز أيام شبابي، وأيام ثانوية ''القديس أغسطين''، حينما التقيت ذات يوم بالفنان سليمان بن عيسى''. ويعتبر مونولوج ''غلب النساء''، صرخة داخلية لبطل العمل، الذي يرفض الواقع المرير الذي فرض عليه، فيهرب إلى الماضي، كونه ملاذه الوحيد. لكن الهروب لم يحجبه عن واقع مجتمعه، فيحاول التنديد به، ومحاربة كل مظاهر الظلم والانهيار، وما يعانيه من مظاهر اجتماعية سلبية كالحفقة، العنف والتفكك الأسري وتسريح العمال، داعيا إلى تثمين عزيمة الجزائري الذي رفض ويرفض هذا الواقع، وأنه كفيل بتغييره وتجاوز المحن، بمشاركة الآخرين من أبناء بلده. الجزائر ليست تونس ومصر.. وعلى المسؤولين تدارك الأمر قبل فوات الأوان قادنا حديثنا الشيق مع حميد فوري للتطرق إلى ما يجري اليوم في العالم العربي من ثورات، فأشار مضيفنا إلى أن ما يحدث اليوم في العالم العربي، أبرز وأبان بأن النخبة بعيدة كل البعد عن الشعب وأن المواطن هو الذي بيده أداة التغيير، باعتباره حتمية لابد منها. وأضاف ''الجزائر بالفعل تختلف عن بقية الدول العربية، من حيث مدى تعلق شعبها بالحرية، فهي ليست تونس أو مصر أو ليبيا. الشعب الجزائري ظل منذ ماضيه البعيد يحارب القوى الاستعمارية، ما إن مرت على أرضه، ناهيك عما حدث بعد أحداث الخامس من أكتوبر 1988، حيث عانى الجزائريون الأمرين، خلال العشرية السوداء التي مازلنا رهائن لها في مختلف ميادين الحياة، خاصة تلك التي لها علاقة مباشرة بالحياة اليومية للمواطن، لذا على المسؤولين تدارك الأمر قبل فوات الأوان، وأن تكون سرعة السلطة إلى التغيير، أسرع من سرعة ''الفايس بوك''، وأن يتسم بالصدق؛ على اعتبار أن هذا الأخير أسرع من كل شيء''. وأضاف فوري ''يجب أن تكون الانتفاضة من قبل السلطة والشعب على حد سواء، من أجل الخير للجزائر، بالقضاء على الانتهازية والجهل، وتجسيد مفهوم الحياة الحرة والكريمة لكافة الجزائريين، دون أيّ تفرقة أو تمييز، وجعل الرجل المناسب في المكان المناسب، باستثمار إمكانات ومؤهلات الشباب، من حملة الشهادات الجامعية. أتدرين كان كل شيء ورديا في بلدنا، حقيقة كانت هناك صراعات؛ لكنها كانت ذات قيمة. أما اليوم هناك خلط في المفاهيم، فالقيم ذهبت وأصبحنا نعيش أزمة مفاهيم، والوضع الحالي يدعو إلى إعادة النظر في كل شيء، له صلة بواقع جديد مملوء ب''الهراء''، وليس فيه مكان لكل ما هو جدي ونافع. هناك مشروع لبناء 48 مسرحا في الجزائر، ولكن أتوقف عند هذه النقطة بالذات، لأتساءل عن كيفية انتقاء الأشخاص الذين يجسدون تلك المشاريع، فكيف تسخر أموال طائلة لتجسيد مشاريع تنمية فكرية وثقافية، ثم يؤتى بأشخاص عاجزين فكريا لتحقيقها؟ ومن بينهم من لا يحسن القراءة، وتمنح لهم مناصب مسؤولية بهذه المؤسسات؟ لذا أستغل الفرصة لأقولها بصوت واضح إني ضد كل ما يوحي بالانتهازية''. ودّعنا مضيفنا وأفراد عائلته، على أمل غد أفضل.. غد يجد فيه حميد فوري رفيقا مبدعا يقاسمه طموحاته بعد أن تركه توفيق ميميش وحيدا، يصارع مشاكل الركح، باحثا عن أفق أرحب يحتضن أب الفنون.