لا يمكن تجنّب إعادة فتح ملفات التاريخ أثناء زيارة المجاهدة لويزة إيغيل أحريز، والحديث معها. ومن الصعب الفصل بين تجربتها التاريخية ونضالها ضد الاستعمار، وبين ما يجري حاليا في العالم العربي من ثورات ديمقراطية تنظر إليها بفخر، وتعتبرها بمثابة لحظات حاسمة في تاريخ الشعوب العربية. تنظر المجاهدة لويزة إيغيل أحريز للواقع من زاوية التاريخ، وبالضبط من رحم تجربتها النضالية ضد الاستعمار. فهي تعتقد أن الغرب يشكل ثقافة مركزية تقوم على عنصرية مقيتة، لا مجال فيها للنظر للشعوب وفق نظرة متفهمة. وبحكم هذه التجربة، تتابع إيغيل أحريز الثورات العربية بكثير من الإعجاب منذ أن انطلقت شرارتها في تونس، وانتقلت إلى مصر، وهي تتابع أدق تفاصيلها، وتنتظر لحظات الحسم في هذا البلد أو ذاك. ما أن تنهض باكرا، حتى تبحث عمّا آل إليه الوضع في ليبيا واليمن، وتتمنى رحيل حكام عمّروا في الحكم لأكثر من ثلاثين عاما، حتى تدخل الشعوب العربية زمن الديمقراطية. اللحظة الديمقراطية تدق أبواب الشعوب تقول إيغيل أحريز إن ثورات العالم العربي الجديدة تعدّ بمثابة مفخرة بالنسبة إليها. تشع السعادة من عينيها، وتضيف: ''ما يحدث عبارة عن شيء مذهل. إنها لحظات مجنونة في تاريخ الشعوب العربية. وإنه لشرف عظيم للعرب، وهم يسيرون نحو المسك بزمام أمورهم وصنع مصيرهم، دون وصاية حكام يخضعون لإملاءات أجنبية''. لكنها أردفت مستنكرة وقالت بغضب: ''ليست الديمقراطية حكرا على الغرب. إنها عبارة عن إرث إنساني. كل الشعوب لها الحق في تجريب حكم الشعب. أعتقد أن اللحظة الديمقراطية تدق أبواب الشعوب''. وبروح المرأة التي خاضت حرب التحرير، والتي تعرف جيدا مغزى تحرك الشعوب العربية في اتجاه صنع الأمجاد، أضافت: ''نحن بصدد إعطاء الغرب دروسا في التاريخ. الغرب، هذا التلميذ الغبي الذي لا يفهم دروس الشعوب إلا متأخرا، لأنه حبيس نظرة سلبية تجاه العرب. لقد آن أوان تغيير النظرة القائمة على الدونية والعنصرية، عليه أن ينظر إلينا كشعوب قادرة على صنع التاريخ''. ينظر الغرب للشعوب العربية، حسب إيغيل أحريز، نظرة تشوبها السلبية والابتعاد عن الموضوعية، لكنها تملك ثقة كبيرة في هذه الشعوب، حيث قالت: ''لكن التاريخ لا يسير وفق ما يريده الغرب. فبالأمس، أعطيناهم دروسا في الاستقلال، واليوم نحن بصدد إعطائهم دروسا في الديمقراطية''. وأضافت بحزن: ''الغرب يحمي مصالحه. أما مصالح الشعوب، فلا مكانة لها في حساباته''. يتبيّن لمن يحاور السيدة لويزة إيغيل أحريز أنها لا تزال تحتفظ بعنفوان شبابها، رغم آلام الماضي التي لا تزال تسكنها. فالابتسامة لا تفارقها، وهي صاحبة نظرة نقدية تجاه الحكومات الغربية التي قالت عنها: ''الغرب هو من صنع التسلط العربي. والحكومات الغربية تعتقد، للأسف، أن العرب لا يحكمون إلا بواسطة الطغاة الذين يخدمون مصالحها. وها هو الواقع يثبت زيف هذا الحكم العنصري الخاضع لحسابات المصلحة، والذي يستند لدراسات إثنولوجية درست الشعوب العربية من زاوية الرغبة في فرض السيطرة، بعد الترويج لفكرة القابلية للخضوع للأقوى''. كنت أعرف أن لويزة إيغيل أحريز درست علم النفس بالجامعة الجزائرية مباشرة بعد الحصول على الاستقلال، فسألتها عن نفسية الزعيم الليبي معمر القذافي، فردت: ''أعود مرة أخرى إلى الحكومات الغربية، فهي المسؤولة عن ذيوع صيته، لقد وضعته في القمة، رفعته عاليا إلى السماء، فبقي معلقا في السحب، وانعزل عن تطلعات شعبه، وانفصل انفصالا كليا ونهائيا عن الواقع الذي لم يعد يعني بالنسبة إليه سوى تصفيقات الجماهير، ولحظة التهليل بشخصه''. وأضافت: ''أتمنى أن ينعم العالم العربي بالديمقراطية، وأنا متأكدة أنه يملك ما يكفي من الوعي الضروري والثقافة التي تمنحه القدرة على صنع التاريخ، والتخلص من الخضوع للطاغية''. التاريخ مدرسة، تقول لويزة إيغيل أحريز، والخبرة الإنسانية على مدار السنوات تستمد مرجعيتها من لحظات البداية. فالثورة هي التي صقلتها، منحتها لحظات مأساوية، ومجدا تحقق بعد الحصول على الاستقلال. لما قامت الثورة، اجتمع والدها سعيد إيغيل أحريز بأفراد عائلته، وأخبرهم أن وقت الثورة قد حان. وحث الجميع على تحمل مسؤولياته. تحوّلت مخبزته بالقصبة إلى مكان لعقد اجتماعات الفدائيين. كان عمر لويزة آنذاك ثمانية عشر عاما. كلفت بمهمة نقل الرسائل وجمع التبرعات. وفي جانفي 1957 ألقت الشرطة الاستعمارية القبض على سعيد إيغيل أحريز. وفي شهر أوت، علمت لويزة أنها محل بحث، فقرّرت الفرار إلى الجبل بالولاية الرابعة. وفي يوم 28 سبتمبر، وقعت رفقة تسعة فدائيين في اشتباك مع الجيش الفرنسي بمنطقة الشبلي، فأصيبت بجروح بليغة، نقلت على إثرها إلى مستشفى مصطفى باشا، ومنه إلى مقر قيادة الجنرال ماسو للاستنطاق والتعذيب من قبل عسكري برتبة نقيب يدعى غرازياني، بحضور ماسو شخصيا. كان وقع التعذيب فظيعا، فصرّحت لويزة في وجه جلاّديها قائلة: ''أنتم لستم رجالا إن لم تجهزوا عليّ''. واستمر النقيب غرازياني في تعذيبها، ولم تنج من الموت إلا بعد تدخل طبيب يدعى الدكتور ريشو، الذي عالج جراحها وعاملها بإنسانية. وبعد الاستقلال، بحثت عنه طيلة سنوات لتعبّر له عن امتنانها. لكن الدكتور ريشو توفي سنة 1997 ولم تلتق به لويزة. ضد ماسو وبيجار.. سنوات الكشف عن المستور برز اسم لويزة إيغيل أحرير سنة .2000 من هذه الذكريات الفظيعة التي ظلت منغرسة في تلابيب ذاكرتها. وعقب المقال الذي نشرته الصحفية الفرنسية فلورانس بوجي بيومية ''لوموند'' حول التعذيب الذي مارسه الجيش الفرنسي على الفدائيين الجزائريين خلال حرب التحرير، استنادا إلى اعترافات لويزة، تحولت إلى رمز يناضل من أجل كشف جرائم الاستعمار. مقال فلورانس بوجي كان له وقع قوي على الرأي العام الفرنسي، الذي اكتشف لأول مرة فضائع الجيش الفرنسي في المستعمرات. واتهمت بوجي في مقالها شخصيتين بارزتين في الجيش الفرنسي، وهما الجنرالان ماسو وبيجار، حتى أن مدير ''لوموند'' آنذاك، ايدوي بلانيل، ساوره بعض الذعر بعد صدور المقال يوم 19 جوان .2000 فقد تحرّك الجنرال ماسو، وطالب بتوضيحات بخصوص الاتهامات الموجهة ضده، دون نشر رأيه في المسألة. ولأول مرة، أخبرتني لويزة إيغيل أحريز أنها ليست هي الوحيدة التي تعبت وعانت خلال سنوات الكشف عن التعذيب. فالصحفية فلورانس بوجي التي أصبحت صديقة لها، تعرّضت لعدة مضايقات وتهديدات بالقتل، ووصل الأمر بزوجها أنه أراد تطليقها، بعد أن أدرك أن زوجته التزمت بالقضية التزاما كاملا، وكان ذلك على حساب نفسها وأسرتها. وبعد مقال ''لوموند''، نشرت لويزة إيغيل أحريز سنة 2001 كتابا بعنوان ''جزائرية''، عادت من خلاله إلى تفاصيل تعرّضها للتعذيب. وكشفت هذه المرة عن اسم الجنرال شميت، قائد القوات الفرنسية خلال حرب الخليج، فقرّرت رفع دعوى قضائية ضده. هل نسيت إيغيل أحريز التعذيب الذي مارسه عليها النقيب غرازياني بحضور الجنرال ماسو؟ ما أن سألتها هذا السؤال، حتى اغرورقت عيناها بالدموع. بكت مثلما بكت أمامي عام 2000 بينما كنت أحاورها لأول مرة، عقب تفجير قضية التعذيب بيومية ''لوموند''. تلمست حينها حجم الجرح الذي انغرس في نفسيتها وبقي ساكنا في عمقها، لكن السنوات التي مرت، وما حققته من نصر على جلاّديها، وحجم المساندة التي لقيتها، كلها عوامل جعلتها تبدو أكثر صلابة ومقاومة. فالمقال المنشور بيومية ''لوموند''، والكتاب الصادر لاحقا، مكّنها من ممارسة البوح، والإفضاء بما ترسّب في تلابيب ذاكرتها لسنوات طويلة. واجهت سؤالي ببأس شديد، رغم الدموع المنهمرة من عينيها، فقالت: ''لم أنس، وليس بإمكاني نسيان ما حدث لي. لا يمر يوم إلا وتذكرت لحظات التعذيب القاسية. كان أمرا فظيعا. لكنني قاومت كل الوساوس. قاومت الذكريات السيئة، وخرجت منتصرة. غادرت السجن سنة .1962 تزوجت سنة 1963 ثم درست علم النفس حتى أتمكن من فهم نفسي جيدا. توجهت لعلم النفس بعد أن كنت أنوي دراسة الطب. لكن المرحوم محفوظ بوسبسي نصحني بدراسة الأول حتى أساعد نفسي على تجاوز محنتي. وبالفعل، تمكنت من الوصول إلى نتائج مرضية بخصوص أشباح الماضي. لكن بعد مرور سنوات، طفا كل شيء على السطح مجدّدا، فاللحظات الأكثر سوءا وقسوة ظلت تراودني. وفي هذه الأثناء أقول مع نفسي: لقد حطموني. لكنني سرعان ما أستعيد رباطة جأشي وعزيمتي، فأحدث نفسي مجدّدا قائلة: لن أغفر لهم ما اقترفوه في حقي.. هذه هي حياتي، تخلصت من كوابيسي مدة سنتين عقب الاستقلال، أثناء نشوة الاحتفالات بالنصر. نسيت حينها مأساتي لمدة سنتين فقط، لأن الأشباح سرعان ما عادت مجدّدا. لقد حطموني. وهذا ما جعلني أتمسك بضرورة تقديم الاعتذار، كحق أساسي سأبقى أناضل من أجله''. استعادت إيغيل أحريز أنفاسها، تركت أشباح التاريخ جانبا، وقالت: ''أراهم يطالبون اليوم بمعاقبة الزعيم الليبي في المحكمة الجنائية الدولية، وأنا أطالب بأن يحاكموا هم كذلك جرّاء الجرائم التي ارتكبوها ضدنا. لا بد من تصحيح مسار التاريخ، وإعادة الأمور إلى نصابها ووضعها الطبيعي، وهذه مسألة لن تتحقق إلا إذا جرت محاكمة دولية لجرائم الاستعمار''. وعن سؤال حول مدى عزمها على مواصلة تقديم شكواها أمام الهيئات الدولية، قالت إيغيل أحريز إنها في حالة انتظار صدور قانون تجريم الاستعمار، حتى تتابع ملاحقاتها القضائية ضد الأشخاص الذين مارسوا عليها التعذيب. العيش بين البسطاء والإنصات لنبض الشارع تعتبر لويزة إيغيل أحريز شخصية عمومية، لكنها لم تنفصل يوما عن الناس البسطاء، فهي واحدة منهم، وتختلف عن كثير من الشخصيات التاريخية الأخرى التي كفّت عن النزول إلى أزقة الشوارع لتحسس نبض الشارع، كما تفعل هي أكثر من مرة في الأسبوع، بحيث تزور القصبة التي قضت فيها طفولتها مرة في الأسبوع، كما تمرّ بالأحياء الشعبية، وتصل إلى غاية ثانوية فرانز فانون (لزيرج سابقا) حيث درست، وشاركت في إضراب الطلبة في ماي 1956 استجابة لنداء جبهة التحرير الوطني. وتعرّج على سيدي عبد الرحمان، وتمرّ على جامع اليهود، وأزقة القصبة السفلى. سألتها: ''عن ماذا تبحثين في القصبة وما جاورها؟''. ابتسمت ثم ردت: ''أبحث عن شبابي، وأستعيد أيام طفولتي التي قضيتها في القصبة. تسير حياتي في صلة مع الماضي، وأرفض أن يحدث لي أي انقطاع مع أمكنة زمان. وأنا أمشي في القصبة، تعود الذكريات كلها، أستعيد صور والدي ووالدتي، ويعود الكفاح المسلح، وكيف وجدت عائلتي نفسها سائرة نحو الالتزام بالقضية الثورية كنهاية حتمية لمسار يقوم على التمرد ورفض الوضعية الاستعمارية''. اقتراب إيغيل أحريز من عامة الناس جعلها جد متفهمة تجاه الشباب، فهي تقضي جلّ وقتها بينهم. كلما مرّت من مكان عمومي، إلا واستوقفها أحدهم، ليبدي إعجابه بمسارها، وينضم للحديث شاب آخر، وتتكون حلقة، فتخبرهم أن حياتها لم تكن سهلة، فقد قاست وناضلت وعملت بمشقة. وتقول لويزة باعتزاز: ''عند الاستقلال، لم تكن أوضاع عائلتي على ما يرام. فقدنا كل شيء أثناء الثورة. وجدت نفسي مجبرة على البحث عن وظيفة، وما وصلت إليه اليوم جاء بعد نضال كبير. لكن الشباب يعتقدون، للأسف، أن كل شيء يأتي بسهولة، فلا يدركون مغزى التضحية''.