تواجه الطبقة السياسية هذه الأيام أزمة حقيقية. فمن جهة اكتشفت فقرها لأفكار جريئة وجديدة تتفق على سقف مطالب التغيير الذي أصبح عاجلا، ومن جهة أخرى غياب محاور جاد من داخل النظام له صلاحيات الرأي والقرار. من المفروض أن الراغبين في التغيير يعرفون جيدا هذا النظام بأنه عسكري صعب، يفتقد للغة الحوار والتشاور، ويتعامل مع الآخرين بمنطق القرار والتنفيذ، وليس بمنطق الحوار والإصغاء ومصالح الشعب. وبالتالي لا داعي لوضع شروط من نوع ''الشراكة معه'' والتغيير السلمي والبطيء'' و''ندوة وطنية'' وغيرها من المقولات التي يتم تداولها هذه الأيام، لأن ذلك في رأيي مجرد مضيعة للوقت والجهد. كما أن الحد الأدنى للتغيير متفق عليه من طرف أغلب الجزائريين، وهو تغيير هذا النظام جذريا وليس استبدال القطع الهرمة فيه. فلا داعي لاختراع وصفات من نوع ''التغيير بشراكة معه'' أو ''إعطاء الوقت للتغيير السلمي'' أو حتى التفاوض التقليدي حول الحد الأدنى من الحريات والأجور وتوفير الخبز والحليب والسكر بأسعار معقولة. حدث ذلك منذ 23 سنة وقد قام النظام بتجنيد كذابين من طراز رفيع للالتفاف على مطالب الجزائريين، وقدم لهم طعما مسموما من نوع معارضة صورية، وحرية تعبير في حدود فكر المخابرات، وخمس عشرة سنة من الإرهاب والتقتيل وقانون الطوارئ. وكان ذلك أعلى ما يستطيع التنازل عنه رجال الحكم، أي بقاءهم ''مقرزحين'' على جثث مائتي ألف قتيل معلن وعشرات المليارات من تخريب مستقبل الجزائريين. من هنا على المؤمن بالتغيير ألا يلدغ من جحر مرتين وإلا يصبح مجرد أضحوكة في أشداق أهل النظام. وأعتقد أن الحد الأدنى للتغيير لا يمكن أن يكون أقل من ذهاب النظام السياسي جذريا، والشروع في إعداد نظام مدني ديمقراطي يتداول فيه المؤهلون السلطة، وتتنافس الأحزاب ببرامجها وليس بثرثرتها، ويعيش فيه الجزائريون كمواطنين وليس كملفات في أدراج المخابرات المظلمة. هل يحتاج الجزائريون فعلا إلى دستور غير قادر على حمايتهم بل غير قادر على حماية نفسه من نزوات الرئيس؟ هل يحتاج الجزائريون فعلا إلى برلمان بعضه أمي وبعضه الآخر اشترى مقاعده من الأسواق الشعبية؟ هل يحتاج الجزائريون إلى أحزاب تتنافس على التقرب والائتلاف مع النظام بدل منافسته واقتراح بديل أفضل لاستغلال ثروات الجزائريين وكفاءاتهم لرفع مستوى حياتهم الرديئة التي يعيشونها ركضا وراء الخبز والحليب والسكر والغاز والماء؟ هل يحتاج الجزائريون إلى حكومة فاشلة في إدارة شؤون شعبها؟ والدليل هذا العدد الهائل من الاضطرابات والاعتصامات والاحتجاجات الدامية التي يشهدها البلد. هل الجزائر في حاجة إلى حرية تعبير بذيئة سقفها لا يتجاوز صفحات الإشهار التي تنعم بها المخابرات على الصحف الذليلة؟ هل الجزائر في حاجة إلى نظام بوليسي لا تتجاوز في رأيه حرية المواطن ثقب القيد الذي يوضع في معصمه؟ وأخيرا.. هل تحتاج الجزائر فعلا إلى هذا النوع من الحكام الذين لا تتجاوز وطنيتهم حدود أرصدتهم في البنوك؟ ها هو ما يحتاج إلى تغيير ضروري وحاسم، وهو تغيير لا يسمح بالتفاوض عليه، ولا البيع والشراء فيه مع الأحزاب الذليلة. قد يحتاج إلى وقت لوجستيكي لإقراره وتنفيذه، ولكنه لا يحتاج إلى وقت سياسي للالتفاف عليه والإبقاء على الجزائر، مثل ليبيا واليمن، في زمن القرون الوسطى.