تمكنت مسرحية ''وراء البحر''، شد انتباه الجمهور أثناء عرضها أول أمس، بالمسرح الوطني محي الدين بشطارزي بالجزائر العاصمة، ضمن فعاليات المهرجان الوطني للمسرح المحترف. وجاءت على شكل توليفة ناجحة بين الفن المسرحي والموسيقى، فاستطاعت نقل مأساة الهجرة وقسوة المنفى على مدى جيلين، من بداية الظاهرة في الأربعينات إلى غاية تحولها إلى ''الحراقة''. وضع مخرج المسرحية بازو شخوصه على ركح تحركه أغاني المنفى، التي تصور معاناة المهاجرين الجزائريين الأوائل، وتصل إلى ظاهرة ''الحرقة''. وعلى وتيرة الموسيقى، التي تعد بمثابة البطل الرئيسي في هذا العمل، يجسد الممثلين عمق هذه المأساة، التي تبدأ بهجرة البطل الرئيسي (تمثيل بلقاسم كعوان) تاركا زوجته حامل، فيودّعها على وقع أغنية ''الجزائر ثتهول'' التي أداها المرحوم الشيخ الحسناوي. يحمل حقيبته ويتوجه إلى باريس، ليلقى الغربة بفظاعتها وبؤسها. نقل الديكور الذي صممه زهير بوعزيز، أجواء الهجرة بشكل ذكي، وكان بمثابة القوة الإبداعية والفنية التي تجسدت بواسطة ستار يفصل بين مكانين خلال العرض، إذ يحيل أحيانا إلى شوارع باريس بالأبيض والأسود، وأحيانا أخرى يعيد المشاهد إلى مأساة المرأة، التي تركها زوجها المهاجر. ثم يتغير وفق التسلسل الزمني، ويصبح بمثابة بطل رئيسي يؤدي دورا مؤثرا، خصوصا أن المسرحية تعتمد على الإيحاءات والتمثيل الصامت، تاركة المجال للغناء للتعبير على ما يختلج في صدور الممثلين. تتوالى الأغاني التي يؤديها المغنيان مونية آيت مدور، وقاسي قاسي ببراعة، بدءا بأغاني إيديت بياف التي تصوّر الحياة الباريسية، وتصل عند أغنية ''تعالي ميلور واجلسي إلى طاولتي''، ثم تتوقف عند لحظة تيه البطل الرئيسي في حانة باريسية، وهو يتلقى رسالتين، واحدة من والده وأخرى من والد زوجته، وكل واحد يشتكي من الآخر، فتتعاظم المأساة، ويزيد ضياعه في بلاد الغربة، على وقع أغاني الشيخ الحسناوي وعلاوة زروقي، ثم أغنية سليمان عازم. تتعاظم المأساة، ويصبح الركح مجالا لاستعادة تاريخ الغربة، وقد تحول إلى فضاء موسيقي غنائي، ويصل إلى قيام الثورة، والتزام البطل الرئيسي، ثم بيان ال 121 الشهير، ومتابعات شرطة موريس بابون، فتنتهي مرحلة وتبدأ مرحلة أخرى هي الاستقلال دون أن يعود البطل إلى مسقط رأسه، وقد أصابته لعنة الغربة في الصميم، فأصبح ''ذا مجاح''، وهي التسمية التي يطلقها البربر على المغترب. وتتجاوز المسرحية مرحلة المهاجرين الأوائل، وتقترب من ظاهرة الحرقة، عبر شخصية شاب يتعرض للحقرة في موطنه، فيركب قوارب الموت بعد أن عجز عن الحصول على التأشيرة. واستجاب الجمهور الذي حضر العرض بأعداد غفيرة لأداء المغنين والممثلين على حد سواء. وبالفعل كان التمثيل المنسجم بمثابة قوة أخرى حققت نجاح المسرحية التي أنتجها المسرح الجهوي لبجاية، وأشرف عليها فنيا عمر فطموش، ودامت أكثر من ساعة ونصف.