مصالح الصحة تجهل أسباب تفشي الأوبئة محاجر تحول أراضي خصبة إلى مساحات جرداء كثيرا ما تساءل مواطنو باتنة عن سبب الإرتفاع المتزايد لعدد المصابين بأمراض السرطان والأمراض الوبائية العديدة كالتيفوئيد والليشمانيوز والسيليكوز والحمى المالطية والتهاب السحايا، خاصة لدى الأطفال الرضع، وكذا التهاب الكبد الفيروسي. وقد حصدت هذه الأمراض الخطيرة الكثير من الأرواح في صمت دون أن يسأل أحد عن مصادرها وأسبابها، وعن إمكانية الوقاية منها، وهي التي تفتك بالأرواح في المدن والأرياف. حملنا هذا التساؤل إلى أكثر من جهة طبية ووقائية، لكننا لم نجد الجواب الشافي والصريح، خاصة وأن هذه الأمراض الخطيرة لم تكن محصورة ضمن فئة اجتماعية أو ضمن نطاق جغرافي معين، بل شملت كل الفضاء المحلي وإن اختصت بعض المناطق بأمراض معينة، في غياب كلي لأية دراسة بيئية وصحية حول مستويات التلوث بالمناطق الموبوءة وآثارها الخطيرة على الصحة العمومية. باتنة عاصمة الناموس بعاصمة الولاية لا يزال واد شيخي الذي يشق وسط المدينة يحتفظ بديكوره المميز كمصدر بل كمزرعة نموذجية لتربية أسراب الناموس والحشرات، بعد أن تحول مجراه إلى برك ومستنقعات للمياه الأكثر تلوثا بشتى الجراثيم والميكروبات والمواد السامة على امتداد أحياء الزمالة وشيخي، بعد أن أصبح فضاء للفضلات المنزلية والمواد الكيماوية والبلاستيكية التي يرمي بها السكان وأصحاب المحلات التجارية القريبة وسط برك من المياه الملوثة الراكدة، التي تجمعت بفعل الأمطار والسيول لتشكل وسطا موبوء بأعلى الدرجات. وأوضح عدد من السكان المحاذين لمجرى الوادي أنهم أصبحوا أكثر عرضة من غيرهم لأمراض عديدة وخطيرة تنقلها أسراب الناموس، وكذا الجرذان التي ظهرت في الفترة الأخيرة بأعداد كبيرة من بين ركام الأشغال الجارية لبناء عدد من المرافق الإدارية، مما أثار مخاوف المواطنين من أن تنقل لهم بعض الأمراض المعدية والخطيرة. وقد بلغ الأمر بالكثير منهم إلى عرض أملاكهم السكنية للبيع وبأسعار متواضعة هربا من الأمراض التي تلاحقهم، في حين يفضل بعضهم الرحيل مؤقتا عن مساكنهم وعرضها للكراء للعائلات القادمة من بسكرة لقضاء فصل الصيف، حينما تزداد خطورة الإصابة بلسعات الناموس الناقل لشتى الأمراض الوبائية. بريكة بؤرة ل ''حبة بسكرة'' والتهاب الكبد الفيروسي وبانتقالنا إلى ثاني مدينة بالولاية من حيث عدد السكان، نجد مدينة بريكة التي أصبحت مصنفة لدى المصالح الصحية بأنها بؤرة لأخطر مرضين ضمن قائمة الأمراض المنتشرة بالولاية. فداء ''الليشمنيوز'' وهو ما يعرف محليا ب ''حبة بسكرة'' لازال يشوه أجساد الكثير من سكان المدينة ليترك بصماته التي لا تعرف الإندثار، حتى بعد شفائها، بعد الإصابة بلسعات ناموس ينقل المرض من الجرذان التي تتخد من الحقول والأراضي الجرداء المحيطة بالمدينة مستوطنات لها. ولم تفلح أعمال الحرث ولا عمليات الرش التي تقوم بها مصالح البلدية في كل موسم في القضاء عى الحشرة الناقلة لهذا المرض، الذي أصبح يخيف نساء وبنات المنطقة لكونه يترك، حسب عدد من الأطباء في المدينة، تشوهات جلدية لا يمكن التخلص منها. ومما يساعد على انتشار وتكاثر هذا الناموس وجود برك ومستنقعات عبر مجرى واد بريكة الذي يشق المدينة في اتجاه الجنوب، بعد أن تحول إلى مصب للمياه المنزلية الملوثة في العديد من الأحياء المطلة على الوادي، لتتحول تلك البرك إلى مسابح مفتوحة لأطفال المدينة خلال فصول الصيف، رغم ما تحمله من مياه ملوثة تنتهي ببعضهم إلى الإصابة بأمراض خطيرة حسب الأطباء منها التهاب السحايا والأمراض الجلدية المختلفة. ويضاف إلى هذا إحصاء المئات من المصابين بمرض التهاب الكبد الفيروسي، حيث تعد مدينة بريكة من بين أكثر المدن في الجزائر إصابة بهذا المرض، الذي أكدت بشأنه المصالح الطبية بمستشفى المدينة بأنه ناجم أساسا عن قلة النظافة لدى حلاقي المدينة وأطباء الأسنان، إضافة إلى تلوث المياه، وهم ما أشار إليه الرئيس السابق لجمعية أمراض الكبد السيد خميسي عبد الوهاب الذي لم يتوقف عن دق ناقوس الخطر لتشديد الرقابة على مصادر هذا الداء القاتل. وادي أريس الأبيض أصبح أسودا وإذا انتقلنا إلى جنوب الولاية، فإن تلوث الوادي الأبيض الذي يشق طريقه بمحاذاة مدينة أريس انطلاقا من أعالي جبال شلية، أصبح يوصف بالوادي الأسود، حسب رئيس بلدية أريس، بعد أن تحول إلى مصب دائم لمياه الصرف الصحي لسكان المدينة. لتختلط بمياه الثلوج والينابيع الطبيعية التي تسقى بها البساتين والخضروات والأشجار المثمرة المقامة على امتداد مجرى الوادي المتجه جنوبا عبر العديد من البلديات. ليشكل هذا التلوث مصدرا لأمراض تصيب سكان المنطقة من خلال استهلاكهم لخضروات ملوثة أو لمياه مستخرجة من أبار أقيمت قرب مجرى الوادي. وهو ما أكدته مصالح الوقاية الصحية وأطباء المنطقة. وهكذا تبقى قائمة المصابين بالأمراض الناجمة عن هذا التلوث مفتوحة، في انتظار تنفيذ مشروع أقامة محطة لتطهير المياه الملوثة التي أصبحت مطلبا ملحا، حسب رئيس البلدية. وفي البلديات الشمالية للولاية تنتشر ظاهرة تربية المواشي في المساكن داخل القرى والمدن منها بلديات الشمرة، بولهيلات، الكوشية وعين ياقوت، مما أدى إلى ظهور بعض الأمراض التي تنتقل إلى الإنسان عبر المواشي التي قد تكون مصابة بأمراض كالحمى المالطية، نتيجة الإحتكاك الدائم بها أو تناول حلبيها، حيث وقفنا على عدة حالات لمصابين بالحمى المالطية بمستشفى الأمراض المعدية بباتنة، ينتمي أصحابها إلى البلديات المذكورة، مصدرها أبقار ومواشي مصابة بهذا الداء الخطير . وقد تعالت أصوات المواطنين بتلك للمطالبة بوضع حد لظاهرة تربية المواشي بالوسط العمراني، حيث تنتشر المزابل الفوضوية لفضلات الأغنام والأبقار عبر الأحياء السكنية بشكل خطير على الصحة العامة كونها مصدرا للعديد من الأمراض والروائح الكريهة، ومرتعا للحيوانات الشاردة كالكلاب والقطط والدواب التي تعد ناقلا لأمراض خطيرة منها داء الكلب. عشرون محجرة أهلكت الزرع وأشاعت الأمراض أما سكان بلدية واد الشعبة خاصة القاطنون بقريتي لامبريدي والغجاتي الواقعتين على مستوى الطريق المزدوج الرابط بين باتنة وعين التوتة، فإن معاناتهم الصحية تزداد خطورة مع ما تنفثه أكثر من 20 محجرة من سحب الغبار السام، والتي أقيمت بمحاذاة السفوح الصخرية الممتدة على مقربة من هاتين القريتين. وأكد رئيس جمعية حماية البيئة بقرية لمبريدي بأن عدد المصابين بالأمراض التنفسية والربو في ازدياد بين سكان القريتين، بسبب سحب الغبار القادم من المحاجر نحو التجمعات السكنية على مدار أيام السنة رغم الإحتجاجات والشكاوى المقدمة للسلطات المحلية لوقف نشاط المحاجر الأكثر قربا من السكان. كما تحولت الأراضي الزراعية الخصبة القريبة من هذه المحاجر إلى مساحات جرداء وغير منتجة رغم المحاولات العديدة للفلاحين لاستغلال أراضيهم بهذه المنطقة، التي أصبحت ملوثة تغطيها طبقة من ذرات الأتربة التي تنثرها الرياح انطلاقا من عمليات طحن الحجارة، وما ينجر عنها من غبار يغطي سماء المنطقة بصورة دائمة، لذلك يطالب سكان المنطقة من خبراء البيئة إجراء دراسات علمية لكشف مدى خطورة نشاط المحاجر على السكان والمصادر الزراعية. الأسمدة والمياه الصناعية مصدر آخر للأمراض كما تبرز ظاهرة الإستعمال الواسع والمفرط للكثير من المواد الكيماوية في الأعمال الزراعية، حيث يلجا الكثير من الفلاحين إلى استخدامها كسماد زراعي، سواء في انتاج البطاطا أو البقول والخضروات أو كأدوية للعديد من الأمراض والطفيليات التي تصيب الإنتاج الزراعي بما في ذلك الأشجار المثمرة، رغم أن بعض المواد الكيماوية أصبحت ممنوعة الإستعمال بعد التأكد من خطورتها الصحية على المستهلكين. إلا أن الفلاحين لم يتوقفوا عن استعمالها لجهلهم بخطورها، أو لعدم توفر البدائل من الأدوية التي تحمي محاصيلهم الزراعية. ورغم غياب الدراسات البيئية والطبية التي من شأنها أن تحدد درجة خطورة الأدوية والأسمدة الزراعية المستعملة ونوعيتها، إلا أن الأطباء يؤكدون أنها تشكل خطرا على الصحة العامة عند تناول تلك الخضروات والفواكه التي تلقت كميات من الأسمدة الصناعية أو المبيدات التي تخلف أمراضا مختلفة من بينها السرطان بأنواعه المختلفة. وأخطر نموذج على هذه الظاهرة المساحات الزراعية المغروسة بالخضروات على مستوى سهل فيسديس والمعذر، والتي تسقى بمياه واد الفرزي الذي تتجمع به كميات كبيرة من المياه الصناعية القادمة من المصانع العديدة المقامة في المنطقة الصناعية بمدينة باتنة، بما تحمله من مواد كيماوية جد خطيرة وسامة.