لم تكن قاعة ''السينماتيك'' بالجزائر العاصمة، بائسة ومهجورة مثلما هي عليه اليوم. كانت قبلة الكتّاب والمثقفين. كان لها جمهور واسع، وشكلت لوحدها مؤسسة ثقافية. كان روّادها من النخبة المثقفة اليسارية التي كانت تعج بها البلاد، خلال ذلك الزمن المليء بالأحلام. تلك الأحلام التي تمنح الإنسان قدرة على مواجهة التيه، أو كما يقول الكاتب الياباني هاروكي موراكامي في روايته ''سبوتنيك الحبيبة'': ''الحلم كخلاص''، كمنقذ من الظلال. والذهاب إلى ''السينماتيك'' خلال ذلك الزمن البعيد والبهي، كان يعادل الذهاب إلى أي قاعة سينما في نيويورك أو روما، أو القاهرة. كانت تعرض أفلاما طلائعية، وملتزمة. وكانت أصداؤها تصلني وأنا تلميذ بمتوسطة أثير الدين محمد الغرناطي بمدينة ''غيوت فيل''، خلال ذلك العام الذي شاهد رحيل الرئيس هواري بومدين. والحقيقة أننا كنا نقلد الذين كانوا يكبروننا سنا. إن سمعنا أنهم ذهبوا إلى السينما، ذهبنا. وإن قرأوا رواية، قرأناها بدورنا. كان من حسن حظي أنني كنت مقرّبا جدا من جيل الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وهو الجيل الذهبي الذي أنتج تقاليد وسلوكيات تمجد الكتاب والسينما والأغاني الجميلة. وشكل ذلك الجيل بالنسبة لنا، نحن من ولد خلال السنوات الأولى من الاستقلال، مرجعية كنا نتقدي بها. كان جيلا ''جنتلمانيا'' بامتياز. وكنا نحن من ورثته. كانوا يسمحون لنا، ونحن صغار، بالتقرب من مجالسهم وسط الحي، نتابع نقاشاتهم حول الأفلام التي شاهدوها، والروايات التي قرأوها. وهكذا تكونت تنشئتنا الثقافية. عرفتُ بواسطة ذلك الجيل الذهبي من يكون ألفريد هتشكوك، وأورسن ويلس، وهنري هاتواي (أحد أشهر مخرجي أفلام الوسترن) وجيمس هادلي شيز، وجون شتاينبك، وهنري شاريير(السجين الذي ألف رواية ''بابيون'' والتي ظلت تتداول في حيّنا مدة تفوق الثلاث سنوات) وغيرهم من الروائيين الذين كانت كُتبهم تنتقل من فرد إلى آخر، وتناقش في مجالس تدوم إلى ساعات متأخرة من الليل خلال فترة الصيف. وإن كانت قاعة ''السينماتيك'' مؤسسة ثقافية، فالشارع كان كذلك. وبالعودة إلى ''السينماتيك''، أذكر أنني شاهدت فيها عددا كبيرا من الأفلام الإيطالية المحببة إليّ كثيرا. كنت أجد فيها متعة لا توصف. هناك شاهدت رائعة ''سارق الدراجة'' للمخرج والممثل البارع فيتوريو دي سيكا، الذي نقل أجواء إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية عبر قصة تراجيدية وبممثلين من الشارع، لم يسبق لهم أن وقفوا أمام الكاميرا. فالناس العاديون هم الممثلون في أفلام دي سيكا وروسيليني، وغيرهما. لكن، من كان يقف خلف الكاميرا هو ''دي سيكا'' العظيم، الذي كان يمثل تيار الواقعية الجديدة. لقد أدهشني فيلم ''سارق الدراجة''. كان قريبا إلى الواقع بشكل كبير. لكنه تحفة فنية كبيرة كذلك. وإلى اليوم، ماتزال عالقة في ذاكرتي تلك اللقطة التي تصور ''سارق الدراجة'' المسكين المغلوب على أمره، وهو محاصر من قبل مواطنين التفوا حوله بعد أن سرق دراجة للتعويض عن تلك التي سرقت منه، والتي اشتراها بشق النفس بعد أن عثر على عمل بواسطة وكالة الشغل. بعد ذلك بسنوات، سمعت وودي آلان يقول عن ''سارق الدراجة'': ''إنه أعظم فيلم في تاريخ السينما''. كان فيلم ''سارق الدراجة'' مليئا بالأحاسيس. وبفضله، أصبحت وفيا للسينما الإيطالية. شاهدت أفلام دينو روسي، وفيديريكو فيلليني، وأعجبت كثيرا بفيلم ''لاسترادا'' الذي انحرف عن الواقعية الجديدة، وخان مبادئها، واعتبره اليسار الإيطالي فيلما مُتدينا. ويروي قصة رجل يدعى ''زمبوني'' (تمثيل أنطوني كوين)، يبكي مرة واحدة في حياته. وبالمناسبة، يعتبر فيلم ''لاسترادا''، بالنسبة إلي، من الأفلام التي تدفعك إلى كتابة القصة أو الرواية، فهو فيلم ملهم. وهناك في الإبداع أعمال ملهمة، مثل رواية ''المعطف'' للروسي نيكولاي غوغول، التي جعلتني أكتب قصة قصيرة بعنوان ''المسكن''، مباشرة بعد أن فرغت من قراءتها. ''لاسترادا'' فيلم ملهم بدوره، وكذلك فيلم ''كم كان عشقنا كبيرا'' للمخرج ايتوري سكولا الذي ينتمي إلى جيل جديد من المخرجين الإيطاليين، أراد بعث الواقعية الجديدة خلال مرحلة السبعينيات. لهذا، ليس من العبث أن يُمجد أحد أبطاله فيلم ''سارق الدراجة''. من شاهد ''كم كان عشقنا كبيرا''، يخرج بانطباع غريب، بل يراوده إحساس بأن القصة وأبطالها خرجوا من واقع قريب منه. وهو يصور مسار المثقفين الإيطاليين، من مرحلة الحرب العالمية الثانية إلى غاية السبعينيات، عبر ما يحدث لثلاثة أصدقاء، هم نيكولا بالومبو، جياني بيريغو، وأنطونيو. شاركوا في الحرب ضد الفاشية، وتشبعوا بالفكر اليساري، لكن مصائرهم ودُروبهم تختلف بعد الحرب. يبقى ''نيكولا بالومبو'' (لا أذكر من مثل هذا الدور) وفيا للفكر اليساري، فيلحق به الهلاك ويهجر عائلته. أما ''جياني بيريغو'' (تمثيل فيتوريو غاسمان الرائع)، فيصبح انتهازيا، ويتزوج من ابنة أحد المقاولين الكبار. بينما يبقى ''أنطونيو (تمثيل نينو مونفريدي) على سذاجته، فلا يظفر بأي شيء. والوحيد الذي ظفر وربح وعاش حياة سعيدة، هو ذلك الانتهازي. شاهدت هذا الفيلم في قاعة ''السينيماتيك''، في ذلك الزمن البهي. ولن أنسى تلك الجملة التي رددها ''نينو مونفردي'': ''أردنا أن نُغير العالم، وإذا بالعالم هو من يغيرنا''.