رحلة الإسراء والمعراج هي ثمار صبر السنين، وفيض عطاء الله ربّ العالمين لرسوله الكريم سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وذلك مصداقاً لقول الله عزّ وجلّ: {إنّما يُوَفَّى الصّابرون أجْرَهُم بغيرِ حساب} الزمر: .10 لقد أمر الله عزّ وجلّ نبيّه الكريم محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم، منذ فجر الدعوة، أن يتسلّح بالصبر وأن يهجر المشركين المعاندين لدعوته هجراً جميلاً. قال تعالى في سورة المزمل، وهي من أوائل السور التي نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: {فاصْبِر على ما يقولون واهْجُرهم هجْراً جميلاً} المزمل: 10، فامتثل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأمر ربّه فصبر على إغراءات المشركين ورؤوس الوثنية، الذين جاؤوا يعرضون عليه متاع الحياة الدنيا، مقابل أن يكفّ عن دعوته، وأن يعرض عن سبّ آلهتهم وتسفيه أحلامهم، فقد عرضوا عليه المال والسيادة والمُلك والقيادة، فردّهم ردًّا جميلاً، كما أمره الله عز وجلّ قائلاً لهم: ''ما جِئتُكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشّرف فيكم ولا المُلك والسِّيادة عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فإن تقبلوا منّي ما جئتكم به فهو حظّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردُّوه عليّ أصبر لأمره حتّى يحكم الله بيني وبينكم''. كما امتثل صلّى الله عليه وآله وسلّم لأمر ربّه فصبر على أذى المشركين واستهزائهم به وجهلهم عليه ورميهم له بالكذب والجنون والسّحر والكهانة، وتعدّى الإيذاء من القول إلى الفعل، فهذا أبو جهل يحرّض القوم على إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلا: ''ألا رجل يقوم إلى فرث جزور بني فلان أحشاؤها وأمعاؤها فيلقيه على محمّد وهو ساجد، فيقوم عقبة بن معيط إلى ذلك الفرث، فيأتي به ويلقيه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ساجد، فلم يقدر أحد من المسلمين الذين كانوا في المسجد على إلقائه عنه لضعفهم عن مقاومة عدوهم، ولم يزل صلّى الله عليه وسلّم ساجداً، حتّى جاءت فاطمة بنته، فأخذت القذر ورمته عنه، فلمّا قام دعا على مَن صنع هذا الصنع القبيح قائلاً: ''اللّهمّ عليك بالملأ من قريش، وسمّى أقواماً''، يقول ابن مسعود ''فرأيتهم قتلوا جميعاً يوم بدر''. وكانت المقاطعة التي حاك المشركون بنودها فيما بينهم، والتي تضمّنت محاصرة المسلمين ومَن يقوم بحمايتهم في شِعَب أبي طالب، فلا يبايعونهم ولا يبتاعون منهم، ولا يناكحونهم ولا يُنكِحون إليهم، وسيلة أخرى من وسائل التضييق على المسلمين والحدّ من نشر الدعوة الإسلامية، حيث استمرت المقاطعة واشتدّ البلاء والجَهد بالمسلمين، حتّى أكل المسلمون أوراق الأشجار وجلود الحيوانات. وجزاء لصبر مولانا وسيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أعطاه الله عزّ وجلّ معجزة الإسراء والمعراج، فقد أسرى به سبحانه وتعالى من بيت الله الحرام في مكةالمكرمة إلى بيت المقدس في أرض الشام، وجمع له جميع الأنبياء السابقين فصلّى بهم عليه الصّلاة والسّلام إماماً تشريفاً له وتكريماً، ثمّ عرج به حتّى وصل إلى السّماء السابعة، وشاهد في معراجه من آيات ربِّه الكبرى، ما يعجز الفهم عن إدراكه، فقد أطلعه الله سبحانه وتعالى على كنوز وأسرار العالم العُلوي، كما رأى صلّى الله عليه وسلّم صور الخير وثواب فاعليه، وصور الشرّ وعقاب مقترفيه، كما أعطاه المولى عزّ وجلّ في هذه الرحلة المباركة الصّلاة التي هي عماد الدّين، حيث يأخذ في مُناجاة ربِّه مناجاة روحية خمس مرّات في اليوم واللّيلة، فتطهر نفسه وتصفو وتزكو ويزول عنها همّها وغمّها. كان الإسراء والمعراج تكريماً من الله العليّ القدير وتثبيتاً لرسوله الكريم صلّى الله عليه وسلّم على طريق الصمود والعمل وتتويجاً لهذه السنين الصّعبة، حتّى يطيب نَفساً ويطمئن قلباً إلى وعيد الله عزّ وجلّ، بعقاب الكافرين المعاندين لدعوة الإسلام، ووعده سبحانه بنصر المؤمنين الصّابرين المنافحين عن دين الله عزّ وجلّ.