رحل رمضان بعد أن قضى المسلمون أيّامه بالصّيام، وأحيا الصّالحون ليله بالقيام، رحل شهر الغفران والعتق من النِّيران، رحل شهر رمضان الّذي تُفتَح فيه أبواب الجنان وتُغلَق فيه أبواب النِّيران، رحل شهر القرآن، شهر ليلة القدر الّتي هي خيرٌ وأفضلٌ من ألف شهر، رحل بعدما سكنت فيه النُّفوس واطمأنت فيه القلوب. انقضى رمضان وذهب ليعود في عام قادم، انقضى رمضان، فماذا بعد رمضان؟ وقد كان السّلف الصّالح يعيشون بين الخوف والرجاء، كانوا يجتهدون في العمل فإذا ما انقضى وقع الهمُّ على أحدهم: أقَبَل الله منه ذلك أم ردّهُ عليه؟! فبعد رحيل رمضان، أتساءل: كيف يكون حال المسلم بعد رمضان؟ وكيف يستغل وقته؟ وبماذا يتقرّب إلى ربّه؟ وإن كان شهر الصّيام قد رحل، فقد شرع الله عزّ وجلّ العديد من العبادات الّتي يتقرّب بها المسلمون إلى ربّهم سبحانه. وقفة محاسبة جدير بكلّ مسلم يخاف الله تعالى أن يقف مع نفسه بعد هذا الشّهر الكريم ليحاسبها، فمحاسبة النّفس من أنجع الأدوية لإصلاح القلوب وحثّها على الخير، فهل خرجنا من هذا الشّهر العظيم بوسام التّقوى؟ وهل عوّدنا أنفسنا على الصبر والمصابرة، ومجاهدة النّفس على فعل الطاعة وترك المعصية ابتغاء رضوان الله؟ وهل رحمنا الفقير وواسيناه؟ وهل جاهدنا أنفسنا وشهواتنا وانتصرنا عليها؟... واعبُد ربَّك حتّى يأتيك اليقين يجب أن يكون العبد مستمرًا على طاعة الله، ثابتًا على شرعه، مستقيمًا على دينه، ويجب عليه أن يعلم أنّ ربَّ رمضان هو ربّ بقية الشّهور والأيّام، وأنّه ربّ الأزمنة والأماكن كلّها، فيستقيم على شرع الله حتّى يلقى ربَّه وهو عنه راضٍ.. قال تعالى: ''فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ'' هود112. وقال عزّ وجلّ: ''فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ'' فصلت,6 وقال: ''قل آمنت بالله ثمّ استقم''. فلئن انتهى صيام رمضان، فهناك صيام النّوافل كالست من شوال والإثنين والخميس والأيّام البيض وعاشوراء وعرفة وغيرها. ولئن انتهى قيام رمضان، فقيام اللّيل مشروع في كلّ ليلة ''كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ'' الذاريات.17 ولئن انتهت صدقة وزكاة الفطر، فهناك الزّكاة المفروضة، وهناك أبواب للصّدقة والتطوّع. وقراءة القرآن وتدبّره ليست خاصة برمضان بل هي في كلّ وقت. وهكذا فالأعمال الصّالحة في كلّ وقت وكلّ زمان، فاجتهد في الطاعات، وإيّاك والكسل والفتور، فإن لم تستطع العمل بالنّوافل، فلا يجوز لك أبدًا أن تترك الواجبات وتضيّعها كالصّلوات الخمس في أوقاتها ومع الجماعة وغيرها، ولا أن تقع في المحرّمات من قول الحرام أو أكله أو شربه أو النّظر إليه واستماعه. وإيّاك أن تنكث توبتك وتخلف عهدك مع الله تعالى، وتهدم بناء التّقوى الّذي بنيته بلبنات الطّاعة في هذا الشهر الكريم بمعول المعصية والذنب، وإيّاك أن تستبدل تلاوة القرآن الكريم وسماعه بسماع صوت الغناء، ومشاهدة الأفلام والمسلسلات الساقطة، وإيّاك وهجر القرآن بعد أن جعلته صاحبًا لك في هذا الشّهر العظيم. وإيّاك ونسيان ربّك بعد أن فتح لك أبواب رحمته في هذا الشّهر الكريم. علامة القبول واعلم يرعاك الله أنّ من علامة قبول الطاعة، الطاعة بعدها، ومن علامة ردّها، المعصية والإعراض بعدها، قال الله تعالى: ''وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ'' فصلت.35