لم يكن الروائي الأمريكي جاك لندن يعني أي شيء بالنسبة لي، وأنا في ريعان الشباب. كنت أعتبره كاتبا عاديا، أو كاتب مغامرات. كانت كتبه تملأ المكتبات مع نهاية السبعينات، وتباع حتى لدى باعة الجرائد، لكن لم تكن لي أي رغبة في قراءتها، فأعماله بدءا برواية ''ذئب البحار'' إلى ''العقب الحديدة'' شاهدناها أفلاما في السينما والتلفزيون، وكانت عبارة عن مغامرات عادية. لكن بعد سنوات اكتشفت رواية ''مارتن إيدن''، فتغيرت نظرتي إليه. والمؤسف أنني لم أكتشف ''مارتن إيدن'' إلا بعد عشرين عاما، وتطلّب أمر الحصول عليها عشر سنوات. لما قرأت ''مارتن إيدن''، أدركت حجم الخطأ الذي وقعت فيه، اكتشف روائيا متمكنا، عميقا. ولم يخطئ هنري ميلر عندما تحدث عنه في كتابه الممتع ''كتب حياتي'' بكثير من الإحترام، فقال إنه كان يقشعر بالقشعريرة بمجرد سماع اسمه وهو في سن الرابعة عشر. وبالعودة إلى هنري ميلر دائما، فإن جاك لندن اعتبر الكتابة بمثابة ''لحظة للعيش''. بل إنها تجربة. وبخصوص التجربة أجد أن الروائيين الأمريكيين أصيبوا بهوس بالتجربة، وهذا ما دفع أرسكين كالدويل إلى وضع العنوان التالي على مذكراته ''اسمها تجربة''. من قرأ كتاب كالدوين، ثم رواية ''مارتن إيدن'' يدرك حجم المعاناة التي يكابدها الروائي قبل أن يصبح كاتبا ذو قيمة. كالدويل يصف في ''اسمها تجربة'' لحظات العوز والفاقة التي كان يعانيها وهو يكتب قصصه القصيرة، في أمكنة باردة، منعزلة، تكاد تكون مقفرة، فيعيش لحظات من التوتر والنكد طيلة النهار والليل، فتحمّل أقصى ما يمكن لإنسان أن يتحمله من المشقة والمعاناة. هذا ما يعانيه مارتن إيدن في رواية جاك لندن. لندن الذي كتب عن شبيهه (نفس البديل نعثر عليه عند فرناندو بيسوا) فأطلق عليه تسمية مارتن إيدن. فكتب عن شاب مغمور أراد أن يصبح كاتبا. وفي الحقيقة كتب عن حياته هو شخصيا، فتحدث عن بؤسه وشقائه بين سنوات 1895 و1900، قبل أن يتذوق طعم النجاح. وفعل ذلك بعد أن ابتسم له الحظ الأدبي، واشترى لنفسه ''يختا'' انتقل به للعيش بجزيرة هونولولو. بمعنى أنه نظر إلى نفسه ومعاناته بعد أن حقق النجاح الأدبي والمالي. في البداية أراد لندن أن تكون روايته بمثابة موقف ضد البرجوازية الأمريكية وأفكارها، بحكم أنه ينتمي إلى الحزب الاشتراكي العمالي (كما يخبرنا ميلر في ''كتب حياته'') وكان أول روائي أمريكي يحقق الثروة بفضل كتبه. وكتب لصديقه ابتن سنكلير أن رواية ''مارتن إيدن'' عبارة عن رواية ضد الفردانية (مجسدة في بطله). لكن النقد ترك كل هذه الأفكار التي أرادها لندن لكتابه، وفضل التركيز على فكرة شقاء الكاتب، ومعاناته لكي يصبح كاتبا. واعتقد أنه من المجدي فعلا أن تقرأ هذه الرواية من قبل كل روائي شاب، يريد الخوض في الكتابة. فمنها يتعلم كيف يواجه طواحين الإهمال، وجحود الناس من حوله. لكنه يتعلم كذلك كيف يتجنب الغرور. رواية ''مارتن ايدن'' تعبر عن تكوين الكاتب، وإصراره على تقديم إبداع ذا قيمة، بعد أن أدرك أن الكتابة تعد كضرورة مطلقة، وقد أدرك أنه لا يجيد غيرها على حد تعبير صمويل بيكيت. جاء مارتن ايدن، من أقبية المجتمع، وأراد أن يصبح كاتبا. يتعرف على فتاة بورجوازية تدعى ''روث مورز''، فاتها قطار الزواج، فقبلت التعرف عليه لكن على مضض. تسعى لتقريبه من روحها البرجوازية، فيرضى مارتن بذلك، وقد وقع في الخطأ الثاني بعد أن كان يعتقد أن الأدب مقرون بصالونات البرجوازية، وبالربح المادي. وتعودني الآن مقولة هرمان ملفيل (صاحب رائعة ''موبي ديك'') الذي تصرف عكس مارتن ايدين تماما، عندما كتب في رسالة لناثنيال هوثورن: ''الدولارات تأسرني. ما أتمنى أن أكتبه لا يحقق لي أي ربح. ورغم ذلك ليس بإمكاني كتابة غيره''. كتب مارتن ايدن نصوصا كثيرة. رفضها الناشرون. فتخلت عنه روث. أصر هو على الكتابة. ولما حقق النجاح، بعد أن كابد عزلة طويلة، حاولت روث التودد إليه (وكذلك فعلت البرجوازية التي لفظته) لكنه أبعدها عنه. لا أريد الكشف عن نهاية الرواية، تجنبا لإفساد متعة القراءة لمن أراد ذلك، لكن مارتن ايدن'' عبارة عن رواية حول الغرور. غرور كاتب حقق نجاحا أدبيا، ثم قرر الابتعاد عن الناس، والتخلي عن الحياة، والإبحار في اتجاه الموت.