مختصون وباحثون جامعيون يؤكدون أهمية رقمنة المخطوطات في الحفاظ على الذاكرة الوطنية    المسابقة الوطنية للمحاماةتخضع لحاجة الجهات القضائية    مجلس السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات : اجتماع لدراسة جملة من المواضيع    الموافقة على تعيين سفيري الجزائر بتنزانيا والموزمبيق    النص الكامل لبيان اجتماع مجلس الوزراء    بلوغ 30 مليار دولار صادرات خارج المحروقات بحلول 2030    تبادل الرؤى حول الرهانات الاقتصادية الإقليمية    الخط الجوي الجزائر-أبوجا.. دفع جديد للعلاقات الاقتصادية    رقمنة: رئيس الجمهورية يحدد نهاية 2025 آخر أجل للإحصاء التام لأملاك الدولة    طرد سفير الكيان الصهيوني بإثيوبيا من مقر الاتحاد الإفريقي    صرخة المغاربة ضد خيانة المخزن لفلسطين    الاحتلال الصهيوني يحرق الصحافيين في غزة    إسبانيا: منح جائزة السلام والتضامن الدولية للأمينة العامة للإتحاد الوطني للمرأة الصحراوية    اختيار 22 جزائرية ضمن الوسيطات لحل النّزاعات    صناعة صيدلانية: تنظيم ورشة للتقييم الذاتي للنظام المعمول به في مجال الأدوية و اللقاحات    شياخة سعيد بأول أهدافه في البطولة الدنماركية    مطاردة.. تنمُّر وتحرش تستهدف المؤثرين الاجتماعيّين    هكذا تمكنتُ من التغلب على السرطان    "الفندق الكبير" بوهران تحفة تاريخية تعود للحياة    موناكو وليل الفرنسيّان يطلبان خدمات ريان قلي    إشعاع ثقافي وتنافس إبداعي بجامعة قسنطينة 3    التشكيل والنحت بين "الحلم والأمل"    الدراما الجزائرية.. إلى أين؟    أنصار ولفرهامبتون ينتقدون آيت نوري بسبب الدفاع    من الشارع إلى المدارس: صرخة المغاربة تعلو ضد خيانة المخزن لفلسطين    المرصد الوطني للمجتمع المدني: استحداث ''قريبا'' مندوبيات ولائية للمجتمع المدني    تنصيب لجنة التحكيم الخاصة بمسابقة أفضل الأعمال المدرسية حول موضوع "الجزائر والقضايا العادلة"    أعمال المؤرخ الجزائري الراحل عمر كارلييه محور ملتقى بوهران    الجزائر تقرر غلق المجال الجوي أمام مالي    مناجم: سونارام تبحث مع خبير جزائري دولي تثمين المعادن الاستراتيجية محليا و تطوير شعبة الليثيوم    ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 50695 شهيدا و115338 جريحا    نسعى للتأسيس "لشراكة بناءة" مع جمعية البنوك والمؤسسات المالية    مصرع 3 أشخاص وإصابة 246 آخرين في حوادث المرور    فرنسا : توقيف مهرب مغربي و بحوزته 120 كيلوغراما من المخدرات    اليوم العالمي للصحة: الجزائر ملتزمة بتحقيق أهداف التنمية المستدامة    وهران: انطلاق فعاليات الأيام الإعلامية حول نشاطات المديرية المركزية للوقود للجيش الوطني الشعبي    افتتاح الخط الجوي الجزائر-أبوجا : إنجاز جديد لتعزيز روابط الجزائر بعمقها الإفريقي    المدية: إصابة 14 شخصا بجروح إثر إنقلاب حافلة بالسواقي    مواي طاي (بطولة افريقيا- 2025- أكابر): مشاركة 12 مصارعا في موعد ليبيا المؤهل إلى الألعاب العالمية- 2025 بالصين    خطر الموت يُهدّد مليون طفل في غزّة    تنظيم الطبعة الأولى من 12 إلى 15 أفريل    تخصيص 100 هكتار لزراعة دوار الشمس    الشباب يستعيد الوصافة    كأس الكونفدرالية/ربع نهائي إياب: شباب قسنطينة يتنقل هذا المساء إلى الجزائر العاصمة    فيلم الأمير.. ورهان الجودة    زعلاني: فرنسا ملزمة بتنفيذ قرار مجلس حقوق الإنسان    تصفيات مونديال سيدات 2026 (أقل من 20 عاما): المنتخب الجزائري يجري تربصا تحضيريا بسيدي موسى    الخارجية الفلسطينية تطالب باتخاذ تدابير فورية لوقف حرب الإبادة وجرائم قوات الاحتلال الصهيوني    الشبيبة تقفز إلى الوصافة    الجزائر ومنظمة الصحة تتفقان    بحثنا سبل تنفيذ القرارات الخاصة بتطوير المنظومات الصحية    تعاون متزايد بين الجزائر ومنظمة الصحة العالمية لتعزيز القطاع الصحي    برمجة فتح الرحلات عبر "بوابة الحج" و تطبيق "ركب الحجيج"    فتاوى : الجمع بين نية القضاء وصيام ست من شوال    اللهم نسألك الثبات بعد رمضان    لقد كان وما زال لكل زمان عادُها..    أعيادنا بين العادة والعبادة    عيد الفطر: ليلة ترقب هلال شهر شوال غدا السبت (وزارة)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حضور التراث في مذكّرات الشاذلي بن جديد

ما إن بدأتُ بقراءة مذكّرات الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد (الجزء الأول) حتى وجدت نفسي تتبع الصفحات وتلاحق حكايات الرجل وتاريخه وتاريخ عائلته بالطارف، وقد اتّضح للقراء الحضور الكبير للتراث الثقافي الجزائري في المذكّرات.
لكن من أي أبواب المناهج النقدية نقترب؟ وماذا عن تأثير السياق السياسي في فعل القراءة، بل هل يمكن للناقد أن يقرأ خطابا فنيا للسياسي، دون أن يقع في فخ المدح؟ لماذا يبقى البحث الأكاديمي الأدبي بعيدا عن أدب المذكّرات، رغم ما فيها من أسرار التاريخ وجمال التعبير ووهج التراث والأساطير وفيض المشاعر وخصوصيات الهوية...؟
لا أريد أن تمتد السطور إلى متاهات من الأسئلة النقدية الممتدة في السياسة والاجتماع، لكن أريد أن أكشف هوية نصية وجدتها في مذكّرات الشاذلي، فهي خافقة بالحضور التراثي، خاصة في الفصل الخاص بالأصول والطفولة، حيث يتوقّف الكاتب عند الكثير من علامات الذاكرة والأرض، ويرحل بالقارئ في عمق تراب الطارف (وتحديدا قرية السبعة)، فنكتشف حنين الرجل إلى ماء القرية ورائحة الأجداد وأصوات الفروسية، بل ينطلق انطلاقة المعتز بالهوية، حين يقول''أنا أمازيغي عرّبني الإسلام. هذه المقولة لعبد الحميد ابن باديس تمثّل بالنسبة إليّ حقيقة آمنت بها، وحدّدت هويتي وانتمائي، وحتى مكانتي كجزائري في هذا العالم''. وتبدأ متعة القارىء في تتبّع العوالم التراثية للكاتب-الرئيس منذ زمن الطفولة، فتقدّم المذكّرات تاريخ عرش الجدايدية، بالإضافة إلى هجرات متتالية لعشيرة الكاتب من اليمن إلى ليبيا وتونس والجزائر، ويلتفت الشاذلي إلى تراث ابن خلدون وحديثه عن رحلات القبائل العربية. تكشف المذكّرات أهمية وسلطة شيخ العشيرة في التاريخ الجزائري، فهو صاحب السلطة الدينية والدنيوية، إليه الفصل في كل اختلاف، كما نجد شعائر الدفن وأعرافه في المنطقة الشرقية المتاخمة للحدود مع تونس، وفي المقبرة توجد قبة الولي الصالح سيدي خالد التي كانت عبارة عن زاوية لتعليم القرآن، وهي الآن خرابة، ''ومازال بعض سكان السبعة، إلى اليوم، يتبرّكون بها، ويكتبون على جدرانها أدعية بالزواج لبناتهم...''.
يتحدّث الكاتب عن قصص الجدّ وأحباره، بأسلوب أسطوري فيه الكثير من الدهشة والغرابة، ثمّ يمضي في تقديم عوالم الطفولة وتراث الفلاحين وعلاقتهم مع التربة، كما يقدّم الكثير من المعلومات حول جزء من التراث الثقافي الجزائري، ذلك المتعلّق بالتعليم في المدارس الفرنسية والاختلافات الاجتماعية النفسية بين الجزائري والفرنسي، والتعليم العربي في الكتاتيب (عند الشيخ صالح) ووسائله المتمثّلة في اللوح والصمغ وريشة القصب..
بالإضافة إلى تلك الصور، نقرأ مشاهد عن كثرة الجهل والفقر في أوساط الجزائريين، كما نجد التباين الاجتماعي والفكري بين الريف (القرية) والمدينة (بونة)، ولمن يبحث في التراث الحضاري الذي أسس للثورة، عليه أن يقرأ قول الشاذلي ''لقد تلازم الإيمان بالشهادة بتحرير الأرض تلازما لا ينفصم، لكن دون شطط أو تطرّف''، وهو قول منفتح على الوضوح والبساطة، بقدر انفتاحه على كثير من التأويل حول اختيارات الجزائر الرسمية بعد الاستقلال وتوجّهاتها الإيديولوجية والسياسية إلى اليوم، ونحتاج، هنا، إلى المؤرّخين النزهاء ليكشفوا حقائق الممارسة السياسية وعلاقتها بالإسلام في جزائر ما بعد الاستقلال، سلطةً ومعارضةً وشعباً.
نعود إلى موضوعنا الأساس، لنجد التراث المحلي في الشرق وأجواء الأسواق الشعبية في بعض الصفحات، أو يوميات الرحلة إلى أمكنة مختلفة وطقوس العمل الشاق في الأرض في سنوات الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، وممارسات الصيد البرّي لدى الشباب. كما تقترح علينا المذكّرات الصورة الفوتوغرافية للشاذلي أمام قبة سيدي خالد، ثم نقرأ قصة هروب جدّه من الجنود الفرنسيين، واختبائه في قبر جده (أب والد الشاذلي). لا ننسى حديث الكاتب عن تراث الفروسية ورمزية البندقية لدى الجزائريين، وارتباطها بالعرض والشرف والشهامة، وكذلك حديثه عن الأولياء الصالحين (مثل سيدي طراد) والحمّامات الشعبية، والتقاليد الإسلامية في معاملة الأسرى من خلال قصص حقيقية لأسرى فرنسيين، وقد قرأنا، بشغف، مشاهد أسطورية للمجاهد عبد الرحمان بن سالم. ولعل ما يُحسب للشاذلي في هذه المذكّرات تواضعه، وعدم تفخيم الأنا الثوري، ويتجلّى هذا في تخصيص الكثير من الصفحات لرفاق السلاح، دون غلق المذكّرات على الأنا الواحدة؛ فقرأنا تاريخ الأصحاب، مثل بومدين وأحمد ترشوخ وحداد عبد النور ويزيد بن يزار.. كما يحدّثنا عن دفن الطبيب والكاتب فرانز فانون ومعه كتبه، وهذا طقس أسطوري يحيل على الفراعنة وطقوسهم الجنائزية، وقد أبان الشاذلي عن معرفته بعضا من تاريخ الفراعنة وعبر تقديم فكرة فرعونية قديمة (الإنسان يخطّط والقدر يسخر منه).
تتحدّث المذكّرات عن محطّات هامة في التراث الثقافي الجزائري، مثل التعريب في عهد بومدين، وهو يحلّل صور بن بلة إلى جانب بومدين وأبعادها النفسية والفكرية، وهذا يجعلنا ندعو المختصين في دراسة الصورة إلى التأريخ السياسي عبر سيميولوجيا الصورة. وقد عاد الرئيس الكاتب إلى التاريخ الإسلامي وأخبار الفاطميين، عندما توقّف عند ممارسات بن بلة مع المحيطين به، ووظّف الكاتب بعض الأمثال الشعبية، مثل''ياكلو في الغلة ويسبوا الملة''، في إشارة للذين يحيطون ببومدين (يتظاهرون بالولاء ويطعنون في الظهر)، ولقوة علاقته ببومدين يستعمل الشاذلي صيغة شعبية ''راسي وراسو في شاشية واحدة''. هذه المذكّرات لا تقدّم الحقائق التاريخية حول الرئيس المرحوم فقط، وإنما تقدّم الكثير من محطّات الوطن، بل تقترح على القارئ تاريخا ثقافيا لمنطقة هامة واستراتيجية في الجزائر، هي منطقة الشمال الشرقي، بكل تضاريسها الثقافية التراثية الغنية والممتدة من الماضي إلى الحاضر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.