إنّ ممّا يدلّ على عظم مقام عبوديته صلّى الله عليه وسلّم لله جلّ وعلا، وكون النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أعلى مراتبه، وصف الله تعالى لنبيّه بالعبودية في مواطن التحدّي والمعجزة، قال تعالى: {وإنْ كُنتم في رَيْبٍ ممّا نزَّلْنَا على عبْدِنا فأتوا بسورة من مثله} البقرة:32، وفي التّشريف بالإسراء يقول الله عزّ وجلّ: {سبحان الّذي أسْرَى بعبدِه ليلاً منَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الّذي باركنا حوله} الإسراء:1، وعند ذِكر نزول القرآن يقول الله: {هُو الّذي يُنَزِّل على عبده آيات بيّنات ليخرجكم من الظُّلمات إلى النُّور} الحديد:9، وفي مقام الدعوة يقول الله: {وأنّه لمّا قامَ عبدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادوا يكونون عليه لِبَدًا} الجن:91. بل كانت عبوديّته عليه الصّلاة والسّلام أكمل من عبودية من قبله من الأنبياء، فهو خير العابدين لله سبحانه وتعالى، وسيرته العطرة، توضّح ذلك وتبيّنه خير بيان، وبذلك استحقّ شرف الوسيلة والشّفاعة يوم القيامة دون من سواه. ورحلة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مع العبودية بدأت مبكرًا، حينما كان يمضي إلى غار حراء يتحنَّث فيها الليالي العديدة، مستجيبًا لكوامن النّفس ودوافع الفطرة، في تعظيم الخالق سبحانه وتعالى ومناجاته. وببعثته صلّى الله عليه وسلّم صارت عبوديّته لربّه أكثر شمولاً وتنوّعًا، فلم تقتصر على مجرّد الشّعائر التعبدية الظاهرة المعروفة، بل امتدّت لتشمل كلّ ما يحبّه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. لقد كانت حياته صلّى الله عليه وسلّم كلّها عبادة، وكذلك كانت وفاته، حتّى كان أعظم وأكمل من حقّق قوله تعالى: {قُلْ إنّ صلاتي وَنُسُكِي ومَحْيَايَ ومماتي لله ربِّ العالمين} الأنعام:261، فهنيئًا لمَن سلك سبيل العبودية، واقتدى فيه بأكمل الخلق صلّى الله عليه وسلّم.