تحمل الثورة الجزائرية مشروعا متكاملا يستهدف بناء مجتمع ونظام جديد، وتتمثّل مبادىء وأسس النظام الجديد، كما وردت في بيان أول نوفمبر1954 التي انطلقت على أساسه الثورة الجزائرية، في ''إقامة دولة جزائرية ديمقراطية واجتماعية، ذات سيادة، ضمن إطار المبادىء الإسلامية''، مع ''احترام الحريات الأساسية، دون أي تمييز عرقي أو ديني''. لكن الجزائريين عجزوا عن إثراء الوثيقة، ويمكن أن يفسّر ذلك بتركيزهم على العمل السياسي والعسكري على حساب الإثراء الإيديولوجي والتفكير فيما بعد الاستقلال، بالإضافة إلى تهميش المثقّف والمفكّر الذي بإمكانه القيام بهذه العملية، والذي أصبح مجرد موظّف لدى صناع القرار، سواء أثناء الثورة المسلّحة أو بعد استرجاع الاستقلال. وتعقّد الأمر أكثر بفعل الصراع السياسي الذي عرفته البلاد عشية الاستقلال، حيث تحوّلت تلك المبادئ والأفكار إلى مجرّد شعارات ترفعها كل الأطراف المتصارعة لإعطاء الشرعية الثورية لنفسها، ما أدخل الغموض حول مفهوم ومضمون هذه المبادئ، فأصبح كل طرف من الأطراف المتصارعة يعطي مضمونا ومفهوما لتلك المبادئ حسب مصالحه الإيديولوجية والسياسية والطبقية. ومن هؤلاء نجد بعض التيارات الدينية التي أرادت حتى هي أن تستولي على البيان وتستخدمه لصالحها، بصفته رأسمالا رمزيا يوصلها إلى السلطة، وأرادت أن تكرّس، في الأذهان، أن البيان بقوله ''ضمن إطار المبادىء الإسلامية'' معناه دولة إسلامية، لكن في الحقيقة ليس كذلك، فمعناه بإمكان المسلم أن يمارس حياته بكل حرية شريطة عدم مناقضة تلك المبادىء العامة للإسلام، كما إنه بإمكانه الاستعانة بالمنظومات القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أنتجها عقل الإنسان أينما وُجد، لكن شريطة أن تكون فعّالة ولا تناقض المبادىء العامة للإسلام، لكن هذه المبادىء العامة اليوم قد توصّل لها العقل البشري، ولهذا نكون بإمكاننا الاستفادة من تجارب ومؤسسات العالم المعاصر، فيدخل المسلم بذلك العالم المعاصر بمؤسّساته ومنظوماته. إن هذا المبدأ الذي أتت به الثورة الجزائرية هو مبدأ جديد، لكن له جذور فكرية في تراثنا الفقهي الإسلامي المغاربي، الذي طُمست الكثير من أفكاره النيّرة لصالح أفكار ظلامية وانحطاطية، وردت إلينا، أغلبها، من المشرق العربي، فهذه الفكرة التي أوردها بيان أول نوفمبر. هي نفسها فكرة الظاهرية التي طرحها ابن حزم الأندلسي في القرن الحادي عشر ميلادي، والتي أسيء فهمها اليوم، فتنطلق الظاهرية لابن حزم من فكرة مفادها أن الحلال والمباح هو الأصل في كل شيء، وما لم يكن هناك نص صريح بتحريم أمر ما فهو مباح وحلال للمسلم، ولو يطبّق هذا المبدأ، الذي يشبه ما طرحه بيان أول نوفمبر، فمعناه تخلّص المسلم نهائيا من فكر وفقه جامد يعرض كل ما يطرأ من جديد على المسلم على ميزان الحلال والحرام، والذي تتحكّم فيه، عادة، عقلية الفقيه وثقافته التقليدية، فندخل في نقاش ديني عقيم، فكم حُرّمت من أمور تبيّن لنا، بعد زمن، أننا كنا مخطئين فيها. ولهذا لو أخذنا بالمبدأ، كما ورد في بيان أول نوفمبر، لأصبح المسلم متفتّحا على العالم المعاصر، دون أي حذر أو عقد، ويمكن لنا القول إن بيان أول نوفمبر قد أوضح وبسط أكثر فكرة الظاهرية للمسلم المعاصر. لكن ما يؤسف له أن هذه الفكرة التي أتت بها الثورة الجزائرية، لم تلق صدى في العالم الإسلامي، الذي لا زال، إلى حدّ الساعة، يتخبّط في نفس المشكل، ما يدفعنا إلى التساؤل: لماذا غُيّبت هذه الأفكار والمبادىء، خاصة بالنسبة للعالم الإسلامي؟ لكننا نعتقد أن ما ورد في بيان أول نوفمبر من مبادىء بإمكانها، اليوم، أن تعطي للثورة الجزائرية وهجا وشعلة جديدة، لكن بشرط أن يجتهد المثقّفون والمفكّرون في وضع ميكانيزمات جديدة لتطبيق المبادىء الواردة في بيان أول نوفمبر على أرض الواقع، فتصبح بذلك الجزائر نموذجا تشرئب إليها أعناق العالم، وبشكل أخص العالم الإسلامي. خاصة وأننا اليوم نجد الكثير من أبناء وطننا يستلهمون نموذجهم إما من الغرب، كفرنسا أو الولاياتالمتحدةالأمريكية، ونجد آخرين يستلهمونها من المملكة العربية السعودية، متمثّلة في الوهابية التي غزت عقول بعض شبابنا وحوّلتهم إلى أدوات حُطّمت بها الجزائر في التسعينيات من القرن الفائت، ونجد البعض اليوم يتحدّثون عن نموذج تركي وآخرين عن نموذج إيراني، وغداة الاستقلال استلهم البعض النموذج المصري الناصري، الذي أوصل الجزائر اليوم إلى حافة الهاوية، بل هدّد وحدتها الوطنية، وكأن الجزائر، التي قامت بأعظم ثورة، عاجزة عن إنجاز نموذجها الخاص، الذي بالإمكان أن يعطيها قوة على الصعيد العالمي، وتصبح مصدر إلهام لشعوب العالم، خاصة الإسلامية منها. ضرورة إيجاد حل سلمي لمشكلة السلطة قد ثبت تاريخيا أن غياب تطبيق الديمقراطية والرقابة الشعبية الفعلية، كان من الأسباب الرئيسية التي تسهّل على الطبقات الحاكمة عملية نهب الفائض الاقتصادي للتجار والفلاحين، ما يُفقد هؤلاء فرص الاستثمار في التصنيع وتطوير الحرف إلى صناعات وتنمية قوى الإنتاج، ويمكننا القول إن هذا الغياب يمثّل أحد العوامل الرئيسية لانهيار الدول، أفلم يكن غياب الديمقراطية أحد أسباب سقوط الأنظمة الشيوعية؟ ونرى أنه من المستحيل الاستمرار الطويل للدول المبنية على الدكتاتورية والإقصاء وقمع الحريات، ويمكننا تبيّن ذلك من خلال الاستمرارية الطويلة للدول الديمقراطية في العالم، والسقوط السريع للأنظمة الشمولية، كالنازية والفاشية في كل من ألمانيا وإيطاليا والأنظمة الشيوعية في شرق أوروبا. إن الصراع العنيف على السلطة، الناتج عن انعدام ميكانيزمات للتداول السلمي عليها، وانعدام الحريات وإقصاء شرائح واسعة من المجتمع، يعتبر أحد الأسباب الرئيسية للإنفاق الأمني في الدولة، ما يُعرقل إيجاد فائض اقتصادي يمكن استثماره في القطاعات المنتجة، فتدخل الدولة في حلقة مغلقة ما بين الأمني، الذي يجرّ إلى الفقر، والتخلّف الذي، بدوره، يستدعي إنفاقا أمنيا أكبر لحماية النظام من المعارضة المتنامية من جراء استغلالها للأزمات الاجتماعية، هذا ما يدفعنا إلى طرح السؤال كيف يكون الخروج من هذه الحلقة المغلقة؟ ويطرح علينا بإلحاح إشكالية السلطة والدولة.
مشكلة الدولة ووظيفتها إن إشكالية الدولة لا تكمن في هل هي ضرورية لمجتمع ما أم لا، بل تكمن في وظيفة الدولة ذاتها، فإذا كانت الدولة في خدمة مصالح شريحة أو طبقة أو حزب أو فئة معينة من المجتمع، فإن ذلك يتطلّب إنفاق أموال ضخمة على الأمن لحماية هذه المصالح. أما إذا كانت في خدمة الأمة والمجتمع، دون أي استثناء، فذلك يقلّل من هذه النفقات، فيزدهر كل المجتمع، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، فيسود الاستقرار، هذا ما يدفعنا إلى طرح إشكالية كيفية تحويل الدولة إلى جهاز في خدمة كل المجتمع؟ وما هي الميكانيزمات الكفيلة بذلك؟ وعادة ما تطرح الديمقراطية، بشكلها الغربي، اليوم كأسلوب فعّال من أجل تحقيق ذلك، ولو أننا لا ننفي أن النظام الديمقراطي الغربي هو أفضل نظام مطبّق اليوم على أرض الواقع، لكن بإمكاننا أن نُدخل عليه تطويرا أكبر ونثريه بشكل أوسع، لأن من عيوب هذه الديمقراطية هو خدمتها أكبر للطبقة البرجوازية، وتحتاج إلى نقد علمي لتطويرها، وهو ما يطرح أمامنا سؤال مستقبل الديمقراطية على الشاكلة الغربية. [email protected]