عندما شرعنا في التحضير لهذا الملف الخاص بخمسينية الاستقلال، فكرنا قبل الشكل في المحتوى، وكنا أمام خيارين، أن نقترح على قرائنا ملفا ''تأريخيا'' كلاسيكيا، نعيد فيه التذكير بالمواعيد التي خلدتها الثورة المجيدة وبمفجريها ومؤججيها وبأشهر الخلافات بين قادتها، ونقاط الظل التي قد تمكننا من ضمان أكبر قدر من الإثارة للعمل، فعادة ما ينجذب الرأي العام لهذا النوع من التعاطي مع تاريخنا الحديث والمعاصر، فهو ينتشي عندما ''يكتشف'' بأن علاقات مشبوهة كانت تربط فلانا بعلان، وبأن سين لم يستشهد وإنما اغتيل، وبأن جيم كان يحضر للانقلاب على هاء. وبعد تفكير عميق، فضلنا الخيار الثاني، وهو اغتنام فرصة خمسينية الاستقلال لطرح إشكالية ''الشرعية الثورية'' على طاولة النقاش. فرغم مرور خمسة عقود على تحرير هذه البلاد، إلا أن الحديث عن هذه ''الشرعية'' يعود مع كل مفصل سياسي. ولعل آخر فصل طفت فيه الإشكالية على سطح النقاش السياسي والسوسيولوجي والثقافي في الجزائر كان بسطيف، ساعات قليلة قبل تشريعيات العاشر ماي، عندما طالب رئيس الجمهورية بتسليم ''المشعل'' للشباب، وعندما أطلق جملته الشهيرة ''طاب جنانا'' التي احتلت حينها الصفحات الأولى للجرائد، ليتأكد مرة أخرى بأن موضوع الشرعية الثورية يبقى، ودون منازع، المؤشر الأول والأكبر في قراءة وتوصيف أي تحوّل يعرفه المجتمع الجزائري. كما يبقى المرآة التي يحلل الجزائريون حاضرهم، وفق ما تعكسه من مشاهد الماضي. فالجزائر هي البلد الوحيد في العالم الذي تنهل فيه كل التيارات الايديولوجية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من معين نفس المرجعية، بيان أول نوفمبر، فهذا البيان هو مرجعية عباسي مدني وسعيد سعدي وبوفرة سلطاني وعبد العزيز بلخادم وأحمد أويحيى وحسين آيت أحمد ولويزة حنون، وهو ما يفسر بعض الرداءة التي طبعت وتطبع مشهدنا السياسي. ولا يبغي هذا الملف، الذي منحت فيه ''الخبر'' الكلمة لمجموعة من الشخصيات الوطنية الشاهدة ولمجموعة من المثقفين الجزائريين والفرنسيين الملاحظين والممثلين لشتى ألوان الطيف السياسي والإيديولوجي، محاكمة أشخاص أو مجموعات أو مراحل، إنما يهدف فقط إلى المساهمة المتواضعة في طرح الإشكالية وفي إطلاق التفكير حولها، اعتقادا منا بأننا كلما أسرعنا في العلاج، كلما قلصنا مساحة المرض. في المحصّلة، لم يبشرنا التاريخ بدولة شيّدت مجدها على شرعية غير تلك التي تبنى على الكفاءة والنزاهة، ولا بمجتمع عاش الاستقرار وتمرغ في نعمة الأمن والأمان، بعيدا عن شرعية الدستور والقوانين والمؤسسات. ذلك أننا لا نحاسب الناس على ما أنجزوه في الماضي، لأن ذلك سيخلق بيننا أصناما تُعبد، تُأمر فتطاع، وتطلب فتجاب، لكننا نحاسبهم على خيارات الحاضر ومآلات المستقبل.. شرعية الثورة تسبل على الحاكم ''برنوس'' القداسة الذي يقيه النقد والانتقاد، ويدفع به بعيدا عن امتحانات الديمقراطية، فتضحيات المجاهد أسمى وأعلى من أحكام الصندوق. في المقابل، يضع التاريخ بين أيدينا عشرات الأمثلة عن حكام ركبوا السلطة على صهوة إنجازات التاريخ، لكن ''لعنة'' الحاضر سرعان ما لحقتهم فأصابتهم بالخيبة، ذلك أن أبطال الحرب ليسوا بالضرورة صنّاعا جيّدين للسلام، وعمالقة التحرير قد يحوّلهم واقع الاستقلال إلى أقزام. ولا أدل على ذلك من رئيس وزراء بريطانيا الأسطوري، وينستون تشرتشل، الذي ساهم بشكل كبير في صنع انتصار الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، لكنه لم يبق في منصبه سوى أشهر قليلة بعد نهاية نفس الحرب، لأنه أخفق في تسيير دواليب الدولة. ومن النقابي ليش فاليزا الذي زعزع أركان النظام الشيوعي في بولونيا، وأطلق على أنقاضه جمهورية ثانية، ليبرالية وديمقراطية، لكن ذلك كله لم يشفع له لدى شعبه، فأسقطه شر سقطة، عندما تقدم مترشحا إلى عهدة رئاسية ثانية. وكذلك الأمر بالنسبة للعملاق شارل دوغول، الذي فهم رسالة الشعب الفرنسي في استفتاء تلا ''ثورة'' ماي 1968. أما الزعيم نيلسون مانديلا، فاكتفى، بعد 29 عاما من الاعتقال، بعهدة رئاسية واحدة، وهو من هو في شعبه، بل وفي الإنسانية جمعاء، لأنه أدرك بأن شرعية السجون ستتلاشى، لا محالة، بعد خمس سنوات من ضغوط الدولة وسلوكات رجالها، التي تقف على النقيض من الحكايات الوردية والروايات الرومانسية. والاستثمار في شرعية التاريخ للوصول إلى السلطة أو للبقاء فيها، وبال على التاريخ نفسه. ففي الجزائر، اختزلت ثورة، هي الأكبر والأعظم والأجمل، في سجل تجاري ''حقير''، فصارت لازمة للاسترزاق على ظهر الشعب والتطفل على جيبه. للبقاء في السلطة، استعان النظام الجزائري بسد حماية.. طبقة غلب عليها الطفيليون والانتهازيون أطلق عليها مجازا اسم ''الأسرة الثورية''، تضم، أي نعم، الكثير من المجاهدين الحقيقيين الصادقين، الأنقياء، الأصفياء، لكن هؤلاء غرقوا في محيط ملوّث، لا حديث فيه إلا عن رخص الطاكسي والمقاهي واستيراد السيارات، وعن المنح والامتيازات في السكن والعمل والدراسة. وبذلك، يكون هذا النظام قد أنتج أخطر ما قد يصيب مجتمعا في لحمته وتماسكه، صراع بين الأجيال، وشعور بالاختناق من ''ثوّار'' قدموا الغالي والنفيس للوصول إلى الاستقلال، لكن الكثير من الشباب يعتقد بأنهم أخذوا كل الغالي والنفيس بعد الاستقلال. الملف الذي تقترحه ''الخبر'' على مدى ثلاثة أيام، هو نتاج قناعة راسخة بأن لا مستقبل زاهر وهادئ لهذه البلاد، إذا لم ينتصر الشعب لشرعية ''المادة الرمادية''، التي دفع الجزائريون عرقهم ودماءهم في سبيل تشكيلها، عبر التضحية بخبز يومهم من أجل بناء مدارس وجامعات، تقدم للمجتمع نخبا جديدة تجيد لغة العصر وتحسن التنافس على مكانة تحت الشمس.. قناعة بأن هذه البلاد فيها بطل واحد.. هو الشعب. محمد بغالي المؤرخ الفرنسي جيلبير مينييه ل''الخبر'' ''فكرة الشرعية الثورية بدأت منهجيا في عهد بومدين'' قال المؤرخ الفرنسي جيلبير مينييه إن ظاهرة الشرعية الثورية برزت، بشكل منهجي، في الجزائر في ظل حكم الرئيس هواري بومدين، رغم أنها ظهرت مع اللجنة الثورية للوحدة والعمل. وأضاف مينييه، في حوار مع ''الخبر''، أن الشرعية انتُزعت من مصالي الحاج، لأنه دعا إلى الثورة متأخرا. كيف تكوّنت فكرة الشرعية الثورية في الجزائر؟ لم يتم التعبير عن فكرة الشرعية الثورية إلا عقب استقلال الجزائر، وبشكل منهجي، تحت حكم الرئيس هواري بومدين. وتأسست الشرعية الثورية على حتمية النهج المُسلح، الذي اختارته جماعة ال22، وجماعة الستة التي أسست اللجنة الثورية للوحدة والعمل، ثم جماعة التسعة التاريخية التي فجّرت الثورة. لكنها لم تكن، حينها، قد عرفت منحى منهجيا، وكان يجب انتظار سنة 1954 لكي تبدأ شرعية غير معلنة بواسطة الثورة. وهذا الطرح لم يعبّر عنه القادة السياسيون الذين فضلوا النهج السياسي. ومن هم ضحايا مسألة الشرعية الثورية؟ ضحايا حتمية خيار النضال المسلح هم المناضلون الذين كانوا يعبرون عن الحل السياسي، بالتوافق مع الحكومة المغربية والتونسية، وقادة الثورة التاريخيون المقيمون في المغرب (آيت أحمد وبن بلة وبوضياف وخيضر)، وكذا آلان سافاري، كاتب الدولة المكلف بالشؤون المغربية والتونسية في حكومة غي مولي. وكان سافاري قد وافق على تنظيم ندوة مغاربية بتونس، بغرض الوصول إلى تفعيل مسار سياسي للسير نحو استقلال الجزائر، وتجنب اندلاع الحرب. وجرت حادثة أول قرصنة جوية في التاريخ يوم 22 أكتوبر 1956، ارتكبها الجيش الفرنسي. ومن جراء هذه الحادثة برز منتصرون. من جهة هلل الجيش الفرنسي، ومن جهة أخرى، يروي العقيد لخضر بن طوبال، في الجزء المنشور من مذكراته، أنه لما تأكدوا بأن الأربعة التاريخيين، الذين ألقي عليهم القبض، لن يطلق سراحهم، اغتبطوا لذلك. ولم يتمكن آلان سافاري من إطلاق سراح القادة الجزائريين، فقدم استقالته وقد انتابه اليأس، لأن الحكومة الفرنسية تخلت عن خياره، وعليه كان خيار الحرب لا مفر منه. وهل كان مصالي أول ضحايا الشرعية الثورية؟ كان مصالي الحاج يعتبر نفسه زعيما وطنيا للجزائر، وهذا لم يحدث مع أي قائد من قادة جبهة التحرير الوطني. لم تنزع الشرعية على مصالي بواسطة الإعلان عن الشرعية الثورية، نُزعت منه الشرعية كزعيم يحمل وجهة نظر سياسية، ولم يأخذ مأخذ الجد المنظمة الخاصة (لوس)، كمنظمة شبه عسكرية برزت خلال انعقاد مؤتمر حركة انتصار الحريات الديمقراطية في فيفري 1947، ولم يدعو إلى العمل المسلح، إلا بعد وقوع انفجار الفاتح نوفمبر. لقد انتزعت الشرعية من مصالي من قبل الذين انخرطوا في صفوف جبهة التحرير الوطني (المركزيون، وأنصار فرحات عباس..)، فانضمامهم كان يعني تحول جبهة التحرير إلى الممثل الشرعي الوحيد. الجزائر: حاوره حميد عبد القادر الباحث الفرنسي رومان برتراند ل''الخبر'' ''الساركوزية قتلت الديغولية وأعادت الاعتبار ل''أو. آ. آس'' يعتقد الباحث الفرنسي رومان برتراند أن أنصار الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي هم من يقف وراء قانون 23 فيفري 2005، الذي يمجد الاستعمار. وقال برتراند، في حوار مع ''الخبر''، إن الساركوزية قتلت ''الديغولية''، وأعادت الاعتبار لأنصار منظمة الجيش السري، واقتربت من اليمين المتطرف في صراعها مع خصومها السياسيين، وهم أنصار دومينيك دو فيلبان والرئيس جاك شيراك. هل تعتقد أن ما يسمى في فرنسا ''حرب الجزائر'' وانعكاساتها يشكل موضوع صراعات سياسية؟ لم تكن حرب الجزائر حربا استعمارية فقط، وليست حربا لنزع الاستعمار، بل هي حرب أهلية بالنسبة لفرنسا. أحيانا، لما نتحدث عنها، ننسى درجة الخلافات السياسية التي أوجدتها داخل النسيج السياسي الفرنسي. لأول مرة يتمرد جنرالات داخل الجيش الفرنسي ضد النظام الجمهوري، والمواقف السياسية التي برزت، آنذاك، سوف تبقى مؤثرة على الحياة السياسية الفرنسية لفترة طويلة. إلى غاية نهاية السبعينيات كان التأثير ملحوظا، وقد برز عند وصول فرانسوا متيران إلى الحكم، وصدور قانون العفو العام، سنة 1982، الذي عفا عن قدماء منظمة الجيش السري. هذا القانون ينص على إعادة الاعتبار لراؤول صالون، مؤسس المنظمة، وإعادة رتبته العسكرية. أحدث القانون فوضى كادت تؤدي إلى حدوث انفجار داخل الأغلبية التي ينتمي إليها الرئيس متيران. لقد وقعت خلافات حادة بين متيران من جهة وبين ميشال روكار، وأنصاره الذين كانوا قد اتخذوا مواقف مناهضة لحرب الجزائر من جهة أخرى. علما أن ميشال روكار اتخذ، منذ 1956، مواقف ضد الحرب في الجزائر. لقد صدر قانون 1982 بطريقة ديكتاتورية، ولم يصادق عليه البرلمان، بل لجأ متيران إلى مادة تنص على أنه في حالة رفض المصادقة على مشروع القانون، فمعنى ذلك الوقوف ضد الحكومة، فتمت عملية الموافقة عليه بطريقة ملتوية. وكيف جرت عملية صنع قانون 32 فيفري الذي يمجد الاستعمار الفرنسي؟ لم يظهر قانون 23 فيفري من فراغ، فله تاريخ طويل في دواليب الحياة السياسية الفرنسية. بدأ ذلك بالتفكير في سن مشروع قانون مالي لمساعدة قدماء الجزائر الفرنسية والحركى ماديا، ثم برز خلال النقاش الذي جرى سنة 2004، كمشروع قانون مقدم من قبل وزير الدفاع آنذاك، ووجد من يدعمه في الجمعية الوطنية، وأثناء النقاشات تم الاتفاق على إضافة مادة حول طريقة تدريس تاريخ الوجود الفرنسي في المستعمرات، ثم أضيفت المادة الرابعة التي تنص على اعتراف البرامج الدراسية الفرنسية بالدور الإيجابي للوجود الفرنسي في المستعمرات ما وراء البحار. آنذاك كان أنصار نيكولا ساركوزي يشكلون أقلية داخل الاتحاد الشعبي من أجل الجمهورية، وفي صراعهم ضد أنصار دومينيك دوفيلبان، خصم ساركوزي، كانوا يسعون لفرض وجودهم والحصول على دعم داخل اليمين. عمل أنصار ساركوزي في الحزب كأنهم ناخبون محليون يستجيبون لتطلعات المتعاطفين مع أطروحات اليمين المتطرف. جاءوا بهذا التفكير إلى الحزب، في الوقت الذي كانت جمعيات قدماء الجزائر الفرنسية تطالب بأفكار مثل تمجيد الوجود الاستعماري الفرنسي، وإعادة الاعتبار لدورهم في المستعمرات. لكن لماذا تم الاستماع إليهم سنة 2005؟ الذي حدث هو وقوع مناورة سياسية داخل الحزب من طرف جماعة ساركوزي، فتم استعمال الفكرة لتحقيق الهيمنة وضرب أنصار دوفيلبان، فتحولت الأقلية إلى أغلبية. أنصار ساركوزي وصلوا إلى الجمعية الوطنية لاحقا، ولم يعرفوا الفصل بين العمل المحلي والعمل البرلماني. كان لهم خصمان في الحقيقة، وهما الرئيس شيراك من جهة، ودوفيلبان الوزير الأول من جهة أخرى. هؤلاء لا يعرفون قواعد اللعبة البرلمانية، وكانت تحذوهم رغبة تحقيق النفوذ داخل الحزب ليتحولوا فيه إلى بارونات، وضمن هذا الوضع لعبوا ورقة الإثارة، فردد شيراك مقولته الشهيرة، عقب المصادقة على قانون 23 فيفري: ''إنها حماقة''. لأن أنصار شيراك لم يكن في صالحهم الاهتمام بموضوع مثل هذا، من منطلق كونه لم يكن يحظى بالإجماع. وما هو المتغير السياسي الذي أوجده قانون 23 فيفري؟ لقد وقعت فضيحة سياسية، فوجدت جمعيات قدماء المحاربين من يعمل لصالحهم داخل الاتحاد الشعبي من أجل الجمهورية، فرأت مطالبهم النور سنة 2005، بعد سنوات من النضال في هذا الاتجاه. لقد قام أنصار ساركوزي بتغيير اليمين إيديولوجيا، وجعلوه قريبا من اليمين المتطرف. فأوجدوا ظاهرة التسامح عند درجة الصفر. فأصبح يمينا رجعيا يعمل ضد الديغولية التي انبثق منها. لقد أعادوا الاعتبار لقدماء منظمة الجيش السري، وللجزائر الفرنسية بواسطة قوة القانون. وهنا يكمن التناقض الفاضح، حيث أن أعداء الديغولية، وهم قدماء منظمة الجيش السري أعاد لهم الديغوليون الاعتبار. علما أن هؤلاء حاولوا قتل ديغول، وبقي الأقدام السوداء يكنون له حقدا دفينا. لقد جعل أنصار ساركوزي من اليمين تيارا سياسيا جديدا وليس يمينا ديغوليا. يمين متصلب فيما يخص المغتربين والأمن. أعتقد أن هذا القانون قتل الحزب الديغولي. الجزائر: حاوره حميد عبد القادر أحمد محساس ل''الخبر'' ''السلطة سُلّمت لعبان رمضان بطلب من الزعماء الخمسة'' الشرعية التي حاربناها في الثورة عادت بعد الاستقلال أحمد محساس، واسمه الحقيقي أحمد مهساس، والمعروف ب''سي علي''، من الشخصيات التاريخية المحورية التي خططت وفجّرت الثورة التحريرية، وكان من القادة السياسيين للثورة في الخارج، خاصة في الفترة من 1954 إلى 1957. وفي هذا الحوار، يوضح محساس بعض الإشكاليات التي واجهت جيل الثورة، بسبب إشكالية انتقال السلطة بين الداخل والخارج، والسياسي والعسكري، ومن جيل إلى جيل، ويشرح مفهوم الشرعية التاريخية التي على أساسها قام النظام الحالي ومنها يستمد شرعيته، رغم تأكيد الرئيس بوتفليقة أن الشرعية التاريخية انتهت لصالح شرعية الانتخابات. كنت مقرّبا من الرئيس أحمد بن بلة خلال الثورة، فلماذا كنت مختفيا خلف الظل خلال السنوات الثلاث الأولى بعد الاستقلال؟ في 1962 تعرّضت لحادث مرور، وكنت حينها خارج النظام. وفي سبتمبر 1962 خلال تشكيل أول حكومة بعد الاستقلال، قابلت بن بلة في فيلا جولي (قصر الرئاسة)، وكان معه بومدين وبوتفليقة وعبد الكريم الخطيب، فقال لي بن بلة: ''يا أخي.. لن أخلق أزمة على رأس السلطة من أجلك''، فقلت له: ''إذا حدثت أزمة، فأنت سببها''، وخرجت من عنده. ولأنه كانت لدي سمعة طيبة وسط المناضلين، فقد انتخبتني قواعد جبهة التحرير الوطني للمشاركة في أول مؤتمر بعد الاستقلال في 1964، ثم تم انتخابي عضوا في اللجنة المركزية ورئيس لجنة التنظيم وعضو المكتب السياسي خلال المؤتمر، كما عيّنت وزيرا للفلاحة والإصلاح الزراعي. تعتبر نفسك أول من دعا إلى الخيار الثالث الذي اعتبر دعوة صريحة لتفجير الثورة في 1952وثالث ثلاثة (رفقة بن بلة وبوضياف) خططوا لتفجير الثورة في 1953، فهل دفعك هذا الرصيد التاريخي للمطالبة بقيادة البلاد باسم الشرعية التاريخية؟ عمل بن بلة تحت إمرتي بعد التحاقه بحزب الشعب الجزائري في 1946، وبوضياف كان آنذاك بعيدا عن الحزب. وحينها، طلب مني الحزب إعادة تشكيل النظام في كل من سطيف وبجاية، بعد أن دمّر الاستعمار التنظيم في مجازر 8 ماي .1945 وأسستُ في فرنسا نظام فيدرالية جبهة التحرير الوطني خلال التحضير لاندلاع الثورة، وطلبت من المناضلين أن يبقوا موحدين، وأن لا يميلوا لا إلى المصاليين ولا إلى المركزيين، في انتظار القيام بعمل إيجابي (الثورة). وكمرحلة ثانية، اخترت جماعة حيادية من مناضلي فيدرالية فرنسا لبناء خط جديد للثورة، ولو أنه قليل العدد، إلا أنه يتميز بالفعالية لتفجير الثورة في كل أنحاء الجزائر وفي توقيت واحد، حتى يكون صدمة للجميع ويعلم الشعب أن هناك ثورة، كان عملا مخططا له بدقة. وحين اختطاف الطائرة التي كانت تقلّ بن بلة وبوضياف وآيت أحمد وخيضر في 22 أكتوبر 1956، أصبحت مسؤول الثورة إلى غاية نهاية .1957 ولكن هذه الفترة عرفت صراعات ومخاضات كبيرة، وعبان رمضان كان حينها يتصرّف كقائد فعلي للثورة باعتباره مسؤول لجنة التنسيق والتنفيذ المنبثقة عن مؤتمر الصومام، فهل الصراع بين قيادة الداخل (عبان) ضد قيادة الخارج (محساس) هو الذي أدى إلى تحييدك في النهاية؟ الجماعة المختطفة (يقصد الزعماء الخمسة، وبالأخص بن بلة وبوضياف) خافوا أن تتجمّع في يدي كل السلطة، لذلك بعثوا إلى الزعيم التونسي لحبيب بورفيبة أحمد بومنجل، والتقيت معه عند بورفيبة. وحينها، سحب بومنجل رسالة من الجماعة وأراد أن يسلمها لبورفيبة الذي كان يحاول أن يصلح بيننا، لكني أخذت الرسالة وفضلت أن تحلّ مشاكلنا بيننا، وقرّرت تسليم جميع المسؤوليات لعبان، رغم أن القوة كانت تميل لصالحنا. ورغم تنازلي عن السلطة، إلا أن عبان حاول اغتيالي ثلاث مرات على الأقل. وفي مؤتمر المجلس الوطني للثورة الذي انعقد بالقاهرة في 1957، أرسل لي عبان رمضان إلى سويسرا أمحمد يوسفي، وقال لي: ''تعال لتردّ الحساب''، ففهمت أنه يريد محاسبتي للتخلص مني، لأنني كنت متأكدا أنني لما سلمتهم السلطة، سيحاولون التخلص مني. وبالفعل، قاموا بتصفية العديد من إطارات الثورة التي كانت تساندني، والغريب أن الذين أيّدوا عبان رمضان في تلك المرحلة هم الذين اغتالوه فيما بعد. هل مرّ الربيع العربي بردا وسلاما على الجزائر، بعد أن حاز حزب جبهة التحرير الوطني على الأغلبية البرلمانية؟ الظروف الدولية خطيرة جدا، فهناك خوف في معيشة الدول (الأزمة الاقتصادية العالمية). والجزائر لا يمكنها أن تبقى في منأى عن هذه الظروف، فهناك طرف يريد الحفاظ على نتائج الانتخابات كما أعلنت (السلطة)، وطرف آخر يريد الديمقراطية (المعارضة). لكن، لابد على كل طرف أن يقلص من طموحاته، لأن هناك تهديدا محتملا للبلاد قد يؤدي إلى تدميرها أو إحداث اختلال بها. فيجب أن نفكر من زاوية أمن البلاد، سواء بالنسبة للسلطة أو المعارضة، فقد تأتي مجموعة مدعومة من الخارج وتقسم البلاد، والخوف أن يؤدي تحطيم النظام إلى تحطيم كل الدولة، وتصبح الجزائر شبه دولة. من أين يأتي هذا التهديد؟ النظام العالمي يقوى ويسيطر على الجميع، وهناك قوة واحدة مسيطرة ترفض بروز أي قوة أخرى نامية قادرة على التقدم، لأن ذلك سيؤدي إلى خلق نظام عالمي جديد أقوى من الحالي، والدول المسيطرة توحدت ضد قيام هذا النظام العالمي الجديد وبروز قوى عالمية أخرى، لذلك فأمن الولاياتالمتحدةالأمريكية ومصالحها يمتدان إلى أبواب الصين والهند. ولكن ما الذي جعل الشعوب العربية في عدد من الدول تثور على أنظمتها الفاسدة رغم التهديد الخارجي؟ الشعب نفسه لديه حيوية ذاتية، ويرغب في التقدم في معيشته. وعندما تفشل هياكل الدولة بكل مرافقها بالقيام بواجباتها تجاه المواطن، كتوفير الأمن وتحسين ظروف المعيشة، حينها يتساءل المواطن: ''لماذا أعيش في الذل الداخلي والخارجي؟''، وهذا يخلق حيرة لدى ضمير الإنسان الذي يتساءل أيضا: ''لماذا أعيش في الإهانة وأنا إنسان كغيري''. فلما يعجز عن التغيير السلمي، يلجأ إلى العنف. وهل تعتقد أن هذه الانتخابات التشريعية، بكل ما حام حولها من تساؤلات، بإمكانها تجنيب البلاد فتنة جديدة؟ الانتخابات ليست شيئا جديدا بالنسبة للجزائريين الذين يمثلون شعبا عريقا ومتنوعا، فنحن بدأنا الانتخابات من الثورة، لأن الشعب كان يريد التغيير والتخلص من السيطرة الاستعمارية. وبعد 50 سنة من الاستقلال، أنجزنا ما لم ينجزه أي بلد آخر، وهذا باعتماد الجزائريين على أنفسهم. فرنسا بقيت 132 سنة في الجزائر، فماذا أنجزت طيلة هذه المدة؟ ولكن، أنظر كم مدرسة أنجزنا خلال 50 سنة من الاستقلال. وهنا، أقصد الجزائر كدولة وليس كأشخاص، كنا 500 طالب فقط في 1954، فالتعليم لم يمس سوى 10 بالمائة من الجزائريين، والطرق خالية، والجالية الاستعمارية استولت على أحسن الأراضي. ولكن الجزائر اليوم تغيّرت، فالطرق تحسنت بشكل كبير، وإنتاج الجزائريين في الخمسين سنة الأخيرة تطوّر. فرغم الانتقادات العديدة، إلا أن إطارات الجزائر بإمكانهم العمل في أي مؤسسة عالمية، ما يثبت كفاءتهم. ونحن الآن في مرحلة تمهيدية للدخول في الديمقراطية، وهي محاولات ضرورية لإرضاء جزء من الناس. هذا يعني أن الشرعية التاريخية ستبقى أساس الحكم في الجزائر، حتى مع وجود انتخابات تعددية وديمقراطية؟ هناك من يقول يجب أن نتخلص من الأفالان الذي هو أصل هذا النظام الذي كان سببا في استقلال الجزائر والدفاع عن حلم الاستقلال، فالنظام الحالي سيبقى له صلة بالثورة إلى غاية تكوين إطارات جديدة وتوفير الأمن في البلاد. لكن، لا يجب أن يكون هناك انفصال تام مع الثورة بل تواصل معها، مثلما قمنا نحن بالتكامل بين ثورة التحرير والثورات الشعبية التي وإن لم تنجح، إلا أنها خلقت جوا من المقاومة، وهذا ما جعلنا نجد وسائلنا في شعبنا وفي التنظيم وفي تفادي الأخطاء البشرية. ومن هذه المخاضات السياسية خلقت الحركة الوطنية الجزائرية، وجعلت الشعب ينتظم رغم قوة العدو. فنحن أخذنا بقيمنا الأساسية (الإسلام والعروبة)، ولم نأخذ بقيم الشيوعية والرأسمالية. يجب أن تكون لدينا دائما استقلالية في خياراتنا الاستراتيجية واليقظة مما يحدث من تحوّلات عالمية، وليس إرضاء للقوى العالمية، فنحن قوة كامنة، لا شرق ولا غرب، فحتى ثقلنا (السياسي والمالي والجيواستراتيجي) يعطينا مكانا (محترما) في هذا العالم. لذلك، لا يجب أن نخضع للدعاية الأمريكية والأوروبية والقيام بما يعجبهم وما لا يعجبهم، لأن هدفهم في النهاية هو السيطرة علينا. لكن، لماذا لا تترك الكفاءة هي الأساس في اختيار القادة والمسؤولين، كما هو الحال في الدول المتقدمة وحتى في الأمم الغابرة التي تحوّلت من قبائل متناحرة إلى إمبراطوريات؟ شرعية الحكم في الجزائر تكون لمن أثبت جدارته في حرب التحرير، والتي تركت جروحا وخلافات مازالت محفورة إلى الآن. والصورة التي تكوّنت أننا في الحركة الوطنية قمنا بخطوات في التاريخ يجب أن لا نضيّعها، لأن الشخص الذي حارب عليها ودفع الثمن غاليا من أجلها لابد أن يكون مؤمنا بها. أما بالنسبة للذين ركبوا قطار الاستقلال أو مشوا مع فرنسا، فقد يسيطرون على الحكم (بالانتخابات)، وهذا يعني أن الذين حاربوا الثورة هم الذين سيحكمون الجزائر المستقلة. ففي 1962، معظم الإطارات التي كانت قادرة على تسيير البلاد كانت مساندة لفرنسا، ولو سلمناهم إدارة البلاد، لأعادوا فرنسا إلى الجزائر. ولكن هذا الكلام ربما كان منطقيا في 1962 أما اليوم فنحن في 2012، والأجيال الجديدة ليس لها ارتباط بالمستعمر القديم؟ كان واجبا علينا أن نوجد أجيالا قادرة على تسيير البلاد وبسرعة، ولكن حدثت مشاكل، والزعامة التي حاربناها في بداية الثورة عادت بعد الاستقلال، كما أن السلطة إذا رأت الثورة في خطر، فلا بد بالتالي من التدخل لحماية الثورة، فلابد أن تنتشر المعرفة والثقافة والتعليم في الجزائر. وهناك من الأجيال الجديدة من هم قادرون على تحمّل المسؤولية، وتتوفر فيهم النزاهة التي كانت مبدأ أساسيا خلال الثورة. ولكن مسؤولي اليوم يعيشون تناقضات. ففي وقت الثورة، من يسرق ''صوردي'' (أقل قطعة نقدية)، كان يحاكم، أما اليوم، فتسرق أموال الشعب بالملايير. لذلك، لابد أن يكون هناك ضبط ومحاسبة وصرامة في مكافحة الفساد، فالجزائر دولة قوية وضعيفة في نفس الوقت. ما هي مواطن القوة والضعف في بلدنا؟ الجزائر قوية بتاريخها وإمكانياتها المادية، ولكنها ضعيفة لأن طاقاتها المادية والمعنوية ليست منظمة بالشكل الكافي. كما أن الجزائر مهدّدة بشكل مباشر من جهة ليبيا ومالي، وهناك قوى مضادة تهدّدها، والمسيطرون على العالم الذين إذا لم نتحرك وفق أوامرهم، فسيحركون قوى خارجية وداخلية ضدنا لزعزعة استقرارنا. هناك من يتهم النظام الحالي بتضييع الكثير من الكفاءات، بسبب تفضيل مجاهدين محدودي المستوى العلمي في مناصب تحتاج إلى تخصص، فهل تعتقد أن هذه السياسة هي التي عطّلت تقدم الجزائر بسرعة أعلى؟ المجاهد حتى وإن كان يفتقد إلى المعرفة، فإنه يسأل أهل التخصص. فعندما كانت فرنسا تجري تجارب نووية في الجزائر، حتى بعد الاستقلال، لم يكن هناك من يعرف ما هو النووي. ولكن المجاهدين لديهم اندفاع وقوة وسلطة وتجربة. وفي المقابل، تجد إطارات في تخصصهم، ولكنهم لا يأتون بأي نتيجة، وعند الاستقلال، كل من كانت لديه معرفة، كان في النظام. الجزائر: حاوره مصطفى دالع ما قبل مؤتمر الصومام وما بعده صراع الشرعية العسكرية والشرعية السياسية بعد اغتيال عبان رمضان برزت تبعية السياسي للعسكري حظيت فكرة عقد اجتماع لقادة الثورة باتفاق أبناء لا توسان الستة (بوضياف، ديدوش، بلقاسم كريم، بن مهيدي، بيطاط ومصطفى بن بولعيد)، بمجرد أن اتفقوا على إعلان الثورة. إلا أن مغادرة بوضياف، المكلف بالتنسيق بين مناطق الجزائر الداخل متوجها إلى الخارج، حال دون عقد الاجتماع، فظلّت الفكرة عالقة إلى غاية .1956 فبعد فك الخناق على الولايات الأولى، الثالثة والرابعة، بفضل هجوم الشمال القسنطيني، كان لابدّ من أن يلتقي القادة لوضع استراتيجية مشتركة، وتجاوز فكر العفوية الثورية. بعد هجوم الشمال القسنطيني، الذي قاده زيغود يوسف يوم 20 أوت 1955، والذي أعطى الثورة نفسا جديدا، بدأت تظهر بوادر عقد اجتماع لقادة الثورة. وفي نفس الوقت شرع كل من أوزفان ومحمد لبجاوي في إعداد أرضية لعرضها للمناقشة على القادة، خلال أشغال المؤتمر. وقد كانت وجهات النظر بين عبان رمضان وبن مهيدي متقاربة قبل المؤتمر، فكلاهما مثقف، يريد أن تكون للثورة أبعاد إيديولوجية، وكلاهما كان يريد إخضاع العمل العسكري للتصورات السياسية، فراهنا على الانتصار السياسي بدل العسكري. كان بن مهيدي ميّالا نحو دمج الفعل بالنظرية، وكان يعتقد أن كل عمل مسلح يجب أن يجد ما يبرره سياسيا. وحينما كان القادة العسكريون يتحدثون عن الانتصار العسكري، كان بن مهيدي يبتسم، فهو لا يؤمن إلا بالانتصار السياسي، الذي يؤدي حتما إلى هزيمة فرنسا عسكريا. ومثل عبان، كان يريد استغلال المؤتمر لإقناع العسكريين بأولوية العمل السياسي على العمل العسكري. انتظر القادة، الذين حضروا إلى الصومام، مجيء ممثل الولاية الأولى، مدة خمسة عشر يوما، كما انتظروا، أيضا، وصول أعضاء الوفد الخارجي. إلا أن هؤلاء لم يحضروا، فعجزوا عن القيام بما توصل إليه العربي بن مهيدي، الذي عاد إلى الداخل راجعا من القاهرة. خلال الأيام الأولى من اللقاء، ظهرت الخلافات بين الزمر، وكان العقيد عميروش أول من أبدى استياءه من تصرفات عبان، بعد أن انتقده بشأن مجزرة ''الليلة الحمراء''. تكوّنت فكرة لدى القادة العسكريين بخصوص عبان، فرأوا أنه يتصرف كأنه سيد المؤتمر، وراودتهم الشكوك بخصوص الحل السياسي الذي قد يضر بمصير الثورة، حسب اعتقادهم. نفس الفكرة كانت تشغل بال قادة المنطقة الثانية، فأخبر بن طوبال قائده زيغود أن الثنائي عبان - بن مهيدي أبدى مواقف أبوية تجاه العسكريين، فقال بن طوبال: ''يبدو أن سياسيي العاصمة الخمسة كوّنوا، مسبقا، قيادة، وجاءوا بنا إلى هنا لكي نصادق عليها''. فرد زيغود: ''كل هذا ليس بالخطير، المهم هو أن نحافظ على حالة نفسية بنّاءة''. لم يقتنع بن طوبال بتبرير قائده، فأخبره أنه متخوف من أن ينساق السياسيون وراء حل شبيه بالحل التونسي. كان كريم قد أبدى نفس الشكوك، مثل بن طوبال، لقد أحس أن السياسيين سيأخذون القيادة من أبناء ''لاتوسان'' (العسكريون بسبب خروجهم من معطف المنظمة الخاصة)، فظهر تقارب بين الثنائي العسكري كريم بن طوبال حتى قبل انعقاد المؤتمر. بعد أن طال الانتظار، وتنقية الأجواء من الخلافات، اتفق الجميع على فتح أشغال المؤتمر يوم 20 أوت. بعد أن استمع المؤتمرون لشروح القادة، ثم الاتفاق على تجاوز ما حدث وتوخي الحذر، بدأت الأشغال الحقيقية للمؤتمر، دون أن يحضر ممثلو المنطقة الأولى، ولا قادة الخارج. واتفق المشاركون على أهم نقطتين في المؤتمر، وهما: أولوية الداخل على الخارج، وأولوية السياسي على العسكري، كما أكدوا، بالأخص، على استقلالية الثورة الجزائرية، وعدم تبعيتها لأي جهة، سواء كانت القاهرة أو لندن أو موسكو أو واشنطن. وقرر المؤتمرون إنشاء هيئتين، هما لجنة التنسيق والتنفيذ (الجهاز التنفيذي، وكانت الأغلبية فيه للقادة السياسيين)، والمجلس الوطني للثورة الجزائرية. وظهر الخلاف بين المؤتمرين بشأن عضوية المركزيّين، فقال عبان، الذي دافع عنهم، ''لا يجب أن نعطي الأولوية فقط للعسكريين، يجب أن يكون المركزيون ممثلين. ونفس الشيء بالنسبة للمجلس الوطني للثورة''. إلا أن أوعمران أبدى رفضا قاطعا، فكان ذلك الخلاف الأول الذي نشب بينه وبين صديقه عبان. ويعتقد المؤرخ الفرنسي جيلبير مينييه أن بن مهيدي كان يحظى باحترام كل القادة العسكريين، وكان بمثابة الوسيط بين عبان وهؤلاء، حينما يبدي هذا الأخير قسوة في الحديث مع الآخرين. كان أوعمران يعتقد أن فتح المجال أمام الفئات البرجوازية سيؤدي إلى اعتماد الحلول المرحلية، وغير الراديكالية، استنادا إلى ما يتميز به أتباع فرحات عباس وجمعية العلماء المسلمين من ميل للحلول الوسطى. فرد بن مهيدي قائلا: ''لن نسمح أبدا بظهور قوة ثالثة بإمكانها أن تتفاوض مع فرنسا من دون جبهة التحرير الوطني''، وأضاف عبان: ''يجب أن تكون الجبهة مرادفا للوحدة''. وبالموازاة مع هذا، كان بن مهيدي وعبان قد أدانا مختلف التشكيلات السياسية التي عرقلت عمل الجبهة. فوافق كريم وزيغود على أفكار عبان- بن مهيدي، وتم اختيار الجزائر العاصمة كمقر للجنة التنسيق والتنفيذ، بغرض تسهيل الاتصالات بين الولايات (وهي التسمية التي أصبحت تطلق على المناطق) والخارج. عارض أوعمران فكرة بن مهيدي بقوة، واعتبر أن اختيار العاصمة كمقر للجنة يعد بمثابة جنون، فقال: ''إذا كنتم تريدون أن تقوموا بالثورة عليكم أن تضربوا بقوة في العاصمة، إذ لم يخطئ ياسف سعدي بشأن هذه النقطة''. بعد المؤتمر بعث عبان برسالة لمحمد خيضر، في سبتمبر 1956، يخبره فيها عن قرارات الصومام، فتقبلها خيضر بتحفظ، وكأنه ساند العسكريين في خياراتهم، وابتعادهم عن الحل السياسي. أما بن بلة فقد غضب واستنكر كل القرارات لنفس السبب، ولأنه أدرك، فعلا، أن الثورة في الداخل فصلت نهائيا في مسألة الزعامة والصراع على السلطة، بفضل اختيار مبدأ القيادة الجماعية، عملا بالمبادئ الواردة في بيان أول نوفمبر. بعد المؤتمر اتضح أن مركز القرار كان في يد القادة السياسيين، لكن عقب اغتيال عبان رمضان برزت تبعية السياسي للعسكري. أصبحت الزعامة، في البداية، في يد العقيد بلقاسم كريم، الذي تدعمت مواقعه بفضل تأثيره على الضباط الجزائريين الفارين من صفوف الجيش الفرنسي، ثم سرعان ما انتقلت إلى الثنائي بن طوبال بوصوف. وفي الأخير عاد مركز القرار للعقيد هواري بومدين، قائد هيئة أركان الجيش، الذي استغل الصراعات بين العقداء الثلاثة (بوصوف، كريم وبن طوبال) لصالحه. حميد عبد القادر الشرعية التاريخية فخ للدولة الوطنية إذا كانت الدولة مكسبا تاريخيا ودائما للمجتمعات، من حيث كونها تنظيما للممارسة العامة، فإن النظم السياسية متغيرة، وتظل تستمد وجودها من درجة رضا المجتمع بأدائها. وفي الجزائر كما في دول عربية أخرى، قامت الشرعية للنظم السياسية على مسلّمة، لم تثبت صحتها، مفادها أن النخب التي قادت حركات التحرر من نير الاستعمار هي، وحدها، القادرة على بناء الدولة، وتحقيق نهضة المجتمع. وفي التقييم العام لأداء نظم الشرعية الثورية يمكن تشبيه هذه الشرعية، التي توشحت بها سلطة ما بعد الاستقلال الوطني، بالفخ الذي أطبق على جوانح الدولة والمجتمع، وظل يمارس تأثيراته الدرامية لفترة طالت أكثر مما ينبغي، إذ لغّمت هذه الشرعية البنى السياسية والقيم المشكّلة للدولة الوطنية الحديثة النشأة. إن الشرعية الثورية نقلت وظيفة الدولة، من ناظم للإرادات الفردية المتعددة ومنظم للفضاء الذي يسمح لها بتحقيق وحدتها والتنسيق بين نشاطاتها، إلى سيطرة ورقابة دائمة للفضاء الاجتماعي، بأدوات أمنية قمعية أدت، في النهاية، إلى تحييد وإقصاء الطاقات المبدعة والمنتجة، وإلى بروز قيم الاسترزاق والتطفل والتسلق. وبهذا تكون الشرعية الثورية، برفضها لفكرة التطور والديمقراطية، قد أعادت المجتمعات التي تحكمها إلى عصر الإقطاع، حيث عوامل الاجتماعي لا ترتبط بقيم العمل والمنافسة، بقدر ما هي مرتبطة بانتماءات طبقية. إن الشرعية الثورية أدت إلى اختزال الدولة في مجموعة من الأجهزة التقنية، والتي لا تعتمد، في وظائفها ومهامها، على رؤية وطنية واعية، بقدر ما تعبّر عن توازنات قوى فاعلة ومسيطرة على هذه الأجهزة، والتي لا يتجاوز أفق رؤيتها حدود دائرة الانتفاع بالوضع القائم إلى أقصى حد، ومواجهة أي تغيير له. وعلى الرغم من الخطاب الشعبوي الأبوي الذي تجتره نظم الشرعية الثورية، فيما يخص القضايا التاريخية، فإن هذه النظم بقيت عائقا أمام التطور والتحديث السياسي والثقافي، وحرمت المجتمعات من التحكم في مصيرها، لمواجهة استراتيجية الهيمنة السياسية والاقتصادية. ذلك أن الشرعية الثورية أقصت، على مراحل، النخب السياسية والاقتصادية المؤهلة، والقادرة على تحقيق التنمية والاستقرار السياسي والاجتماعي، فسهلت هذه النظم ''الثورية'' الاختراق الخارجي، الذي امتد على مراحل، ومارس عملية تجويف سياسية وثقافية، وأفقد الدولة القدرة على مواجهة التحديات التي تسارعت مع العولمة الاقتصادية والثقافية. إن الشرعية الثورية مسؤولة، بشكل مباشر، عن حالات الانسداد والتأزم الذي ينخر السلطة السياسية، التي فقدت المقوّم الوطني والاجتماعي والتاريخي في أدائها، وأخطر من ذلك الإسقاطات التي تجريها السلطة السياسية القائمة على الشرعية الثورية، من حيث نقل وإسقاط ما تعانيه، على أنه نتاج اجتماعي مرتبط بالمسار التاريخي لهذه المجتمعات، ومتصل بهويتها. ومن حيث السياق الزمني تمر الشرعية الثورية بمرحلة ما بعد الإفلاس، وهي مرحلة بالغة الخطورة، لأن هذه الشرعيات الثورية تتجه، في دول كثيرة في العالم العربي، إلى منطق المواجهة الشاملة ضد قوى التغيير، وإلى تسييج التطور التاريخي والسياسي للمجتمعات. وقد أظهرت ثورات الربيع العربي أشكالا دامية لحجم القطيعة الحاصل بين المجتمعات والنظم القائمة على هذه الشرعية. وتكشف الشرعية التاريخية التعقيدات التي تفرزها قضية تحديث الدولة، من حيث قوة الممانعة التي تبديها النخب المتسلطة، والحدود الثقافية والاجتماعية، أو عجزها المزمن في تسريع هذه العملية، بالإضافة إلى قدرة القوى الدولية على توظيف النظم السياسية، القائمة على هذه الشرعية، في استراتيجيات الهيمنة، وتجويف الدولة الوطنية في الدول حديثة الاستقلال. ومن زاوية أخرى، قد يؤرّخ لهذا النمط من الشرعيات السياسية على أنها مرحلة مؤلمة وقاسية في تاريخ الدولة الوطنية، وفي مسار تجاوزها للتناقضات التاريخية والاجتماعية المصاحبة لنشأتها. محمد خوجة الستة التاريخيون.. بداية الشرعية الثورية رابح بيطاط من مواليد 19 ديسمبر 1925 بعين الكرمة، بالشرق الجزائري، مناضل في حركة انتصار الحريات الديمقراطية، وعضو في المنظمة السرية. حكم عليه غيابيا بالسجن لعشر سنوات، بعد مشاركته في مهاجمة دار البريد بوهران سنة 1949، كان عضوا مؤسسا للجنة الثورية للوحدة والعمل. محمد بوضياف ولد بوضياف في 23 جوان 1919 بولاية المسيلة. انضم إلى حزب الشعب، وبعدها أصبح عضوا في المنظمة السرية. في 1950 حكم عليه غيابيا، فالتحق بفرنسا في 1953، حيث أصبح عضوا في حركة انتصار الحريات الديمقراطية. بعد عودته إلى الجزائر ساهم في تنظيم ميلاد اللجنة الثورية للوحدة والعمل، وكان من بين أعضاء مجموعة الإثني والعشرين (22) التي فجرت الثورة التحريرية. العربي بن مهيدي ولد الشهيد العربي بن مهيدي عام 1923 بدوار الكواهي بناحية عين مليلة. انضم عام 1942 لصفوف حزب الشعب بمكان إقامته، حيث كان كثير الاهتمام بالشؤون السياسية والوطنية، اعتقل في 08 ماي 1945 ، ثم أفرج عنه بعد ثلاثة أسابيع قضاها في الاستنطاق والتعذيب بمركز الشرطة. في عام 1947 كان من بين الشباب الأوائل الذين التحقوا بصفوف المنظمة الخاصة، حيث ما لبث أن أصبح من أبرز عناصر هذا التنظيم. وفي عام 1949 أصبح مسؤول الجناح العسكري بسطيف. وعند تكوين اللجنة الثورية للوحدة والعمل، في مارس 1954، أصبح من بين عناصرها البارزين، ثم عضوا فعالا في جماعة 22 التاريخية. مصطفى بن بولعيد الشهيد من مواليد فيفري 1917 بأريس ولاية باتنة، وسط عائلة ثرية ومتشبعة بالقيم الإسلامية. بدأ نشاطه السياسي في صفوف حزب الشعب منذ الأربعينيات، وعند نشأة المنظمة الخاصة كان له نشاط دؤوب في تكوين الشبان سياسيا، وتدريبهم عسكريا، وأنفق من ماله الخاص لتدريب وتسليح المناضلين. شارك في انتخاب المجلس الجزائري سنة 1948، وفاز فوزا ساحقا، لكن السلطات الفرنسية زورت الانتخابات. كان له دور كبير في إنشاء المنظمة الخاصة. وبعد أن اكتُشف أمرها بدأ في توفير السلاح عن طريق شرائه من ليبيا. أنشأ مع رفاقه اللجنة الثورية للوحدة والعمل، وشارك في اجتماع ال22 في جوان 1954، وأصبح مسؤولا على المنطقة الأولى (الأوراس). ديدوش مراد الشهيد الملقب ب''سي عبد القادر'' المولود يوم 13 جويلية 1972 بالمرادية بالعاصمة. انضم منذ 1942 إلى صفوف حزب الشعب. وإثر اكتشاف أمر المنظمة الخاصة في مارس 1950، وبعد فشل الإدارة الاستعمارية في وضع يدها على الشهيد أصدرت في حقه حكما غيابيا ب10 سنوات سجنا. وكوّن في 1952، رفقة الشهيد بن بولعيد، نواة سرية في العاصمة، مهمتها صنع المتفجرات، لينتقل، فيما بعد، إلى فرنسا في مهمة المراقبة داخل الفيدرالية، وإثر عودته إلى العاصمة قام رفقة أصدقائه بإنشاء اللجنة الثورية للوحدة والعمل، كما شارك في اجتماع ال22، المنعقد في جوان 54، الذي تقرر فيه انطلاق الثورة. كريم بلقاسم من مواليد 14 ديسمبر 1922 بقرية ''تيزرا نعيسى''، قرب ذراع الميزان بولاية تيزي وزو، من أسرة ميسورة الحال. كان أبوه حسين تاجرا كبيرا، عيّنته فرنسا كحارس للغابة، واقترحت عليه منصب ''قايد'' لكنه رفض. انضم إلى مدرسة ''ساروي'' بالعاصمة، ونال منها شهادة الدراسة. عرف كريم النضال مبكرا، إذ انخرط في صفوف حزب الشعب بعد 1945. ومنذ 1947 آمن بفكرة الثورة، لذلك لجأ إلى السرية وتحصن بالجبال، ليكوّن الخلايا العسكرية لليوم الموعود. عند اندلاع الثورة، كان البطل المغوار أحد مفجريها، إذ شارك في الاجتماعات التي سبقت أول نوفمبر 1954 (عضو مجموعة الستة)، وأصبح قائدا للمنطقة الثالثة (القبائل)، وقاد العمليات العسكرية الأولى ضد المراكز والقوات الفرنسية في منطقة القبائل، وأشرف المجاهد كريم بلقاسم على هيكلة وتأطير المجاهدين بالمنطقة بمساعدة ''اعمر أوعمران'' و''محمدي السعيد''. بعد مؤتمر الصومام، صار عضوا في لجنة التنسيق والتنفيذ. وبعد تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، شغل منصب وزير القوات المسلحة في التشكيلة الأولى، ثم وزير الشؤون الخارجية في الثانية، ووزير الداخلية في التشكيلة الثالثة. شارك في مفاوضات ''إيفيان''، ووقع على الاتفاقية. بعد الاستقلال، دخل في المعارضة، وفي أكتوبر 1970 اغتيل بألمانيا. تطالعون اليوم - ''في 62 معظم الإطارات القادرة على التسيير كانت موالية للاستعمار ولو سلمناهم إدارة البلاد لأعادوا فرنسا إلى الجزائر'' - ''الشرعية انتزعت من مصالي الحاج لأنه دعا إلى ثورة التحرير متأخرا وكان يعتبر نفسه زعيما '' - ''لم يظهر قانون 23 فيفري من فراغ فله تاريخ طويل في دواليب الحياة السياسية في فرنسا'' - وتقرأون فيه أيضا لحميد عبد القادر والدكتور محمد خوجة .. وفي عدد الثلاثاء - ''ذهبنا بعيدا في معارضتنا للحكومة المؤقتة وبدأ بومدين حينها يفكر في السيطرة على السلطة باستعمال أحد الزعماء الخمسة'' - ''الجيل الذي لازال يتكلم باسم الشرعية الثورية عقّد كل الأجيال الشابة التي أصبحت دون مهام تاريخية تنجزها'' - ''السارق يبقى سارقا سواء أيام الثورة أو في الاستقلال والفساد موجود حتى بين الكفاءات الشابة'' - وتقرأون فيه أيضا للدكتور محمد أرزقي فراد والأساتذة عبد المجيد مرداسي وأحمد رواجعية وناجي سفير والأستاذ عروس الزوبير والمناضل الفرنسي هنري بويو .. وفي عدد الأربعاء - مثقفون يدعون إلى الانتقال لشرعية الدستور والكفاءة ويسجلون بأن الشرعية التاريخية تحوّلت إلى سيف مسلط على الرقاب - ''الشرعية الشعبية مجرد كلمات فارغة وجيلنا مازال قادرا على تسيير البلاد ونحن ضد الزعامة والتوريث'' - ''مازلنا نعيش نظرة ماضوية حيث أن المشروع السياسي المستقبلي للبلاد غائب وهذا ما لاحظناه في برامج عدد كبير من الأحزاب''