الّذين يقيّدون مشيئة الله بما يعرفونه هم من نواميسه، لا يعرفون حقيقة الألوهية كما يقرّرها الله سبحانه في كتابه وقوله الفصل وليس للعقل البشري قول في ذلك القول، وحتّى الّذين يقيّدون مشيئة الله بما يقرّره الله تعالى أنّه نموسه، لا يدركون حقيقة الألوهية كذلك. فمشيئة الله سبحانه طليقة وراء ما قرّره الله سبحانه من نواميس ولا تتقيّد هذه المشيئة بالنّواميس.. فالنّاموس يجرى وينفّذ بقدر من الله في كلّ مرّة ينفذ فيها. فهو لا يجري ولا ينفذ آليًا فإذا قدر الله في مرّة أن يجري النّاموس بصورة أخرى غير الّتي جرى بها في مرّات سابقة كان ما قدّره الله ولم يقف النّاموس في وجه هذا القدر الجديد، ذلك أنّ النّاموس الّذي تندرج تحته كلّ النّواميس هو طلاقة المشيئة بلا قيد على الإطلاق وتحت النّاموس في كلّ مرّة يتحقّق فيها بقدر خاص طليق.. وأيضًا فإنّ الله سبحانه أجرى العادة البشرية أنّ بكر الأولاد أحبّ إلى الوالدين ممّن بعده، وسيّدنا إبراهيم عليه السّلام لمّا سأل ربّه الولد ووهبه له تعلّقت شعبة من قلبه بمحبّته، والله تعالى قد اتّخذه خليلاً، والخلّة منصب يقتضي توحيده المحبوب بالمحبّة، وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها، فلمّا أخذ الولد شعبة من قلب الوالد جاءت غيرة الخلّة تنتزعها من قلب خليل الله عليه السّلام فأمره بذبح المحبوب.. فلمّا أقدم على ذبحه، وكانت محبّة الله أعظم من محبّة الولد، خلصت الخلّة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبقَى في الذّبح مصلحة، إذ كانت المصلحة إنّما هي في العزم وتوطين النّفس عليه فقد حصل المقصود فنسخ الأمر وفُدى الذّبيح، وصدّق الخليل الرؤيا، وحصل مراد الرّبّ جلّ علاه.