ظل الكاتب حسن مدن يكتب عموده اليومي الموسوم ''شيء ما'' في صحيفة الخليج الإماراتية لسنوات عديدة. فشكّل نقطة التقاء الأدب والفكر والثقافة والسياسة. فكسب عددا كبيرا من القراء في دولة الإمارات وخارجها. ومن قرائه النشيطين مجموعة من النساء اللواتي شكّلن حلقة لقراءة الإنتاج الأدبي ومناقشته. استوقفته إحداهن، ذات مرة، في ندوة بأبو ظبي لتمازحه قائلة: كلما اقترحنا قراءة رواية لمناقشتها وجدناك تكتب عنها في ''شيء ما'' أو عن كاتبها، فما السر في ذلك؟ لم يكن لحسن مدن إجابة عن هذا السؤال المباغت. ربما الصدفة العجيبة هي التي كانت وراء هذا السر، أو حدسه ومتابعته لما تجود به ديار النشر واقترابه من مزاج القارئ. عندما عاد حسن مدن إلى موطنه البحرين، قبل سنوات، وشرع في الكتابة للصحافة البحرينية سألته هل استمر في الكتابة على نفس منوال عموده ''شيء ما''. فرد عليّ بالنفي. وذكر لي أنه شرع في الكتابة بنمطية عموده المذكور لكنه لم يجد تجاوبا من قبل القارئ في البحرين. فاضطر إلى التغيير في طريقة كتابته وفي مواضيعها. ويعتقد أن السبب في ذلك يكمن في اختلاف القراء في دولة الإمارات عن القراء في البحرين. فالمجتمع البحريني يعيش حركية وتدافعا أثّر على القارئ الذي أصبح يتطلب شكلا من الكتابة تتناغم مع مزاجه. فإذا كان الإقبال على قراءة النص الصحفي الهادئ المسكون بالتأمل والمستلهم من حكمة الأدب وإنسانيته وتجربة كتابه واسعا في الإمارات، فإنه أقلّ في البحرين. منذ أيام قليلة التقيت إحدى الصحافيات الجزائريات التي تحظى بجمهور غفير من المعجبين والمعجبات بكتاباتها تحسد عليها. وذكرت لها أنني من متابعي التعليقات على مقالاتها في شبكة الانترنت. وأكدت لها أنها استطاعت أن تقترب من مزاج القارئ الجزائري إن لم تلتصق به. وهذا يفصح عن سر تزايد المعجبين بكتابتها، ناهيك عن أسلوبها في الكتابة. فالقارئ الجزائري لا يرضى بمن يكتب بنبرة واطئة لأنها تعبّر، في نظره، عن وجل أو وهن. ويفضل الكتابة بنبرة عالية تصرخ صرخة ألم أو غضب. إنه يفضل من يكتب ''بالقباحة'' باللهجة الجزائرية. فصححت فكرتي، مشكورة، قائلة: الكتابة ب''القباحة'' نعم لكن في حدود معينة، لأنك إذا تجاوزتها سينقلب عليك القارئ. فالمهم أن يلتمس هذا الأخير الصدق والاحترام فيما تكتب. فالقارئ الجزائري يمقت الكتابة المداهنة والمتملقة. لعل هذا ما عبّر عنه أحد الصحافيين الجزائريين المخضرمين الذي شارك في برنامج حواري في التلفزيون الجزائري حول مشروع قانون الإعلام في السنة .1990 وقد انتقده بشدة وحدّة. إذ ذكر أنه دلف إحدى المقاهي بالقرب من جريدته للاستراحة من ضغط العمل بعد البرنامج المذكور بيومين. ووقف أمام النادل لدفع ثمن ما شربه. فأخبره هذا الأخير أن مشروبه مدفوع. فالتفت يمينا وشمالا لعله يجد الشخص السخي الذي تكرم عليه بفنجان قهوة. فأخبره صاحب المقهى أنه أعفاه من دفع ثمن قهوته تعبيرا عن إعجابه به لأنه كما قال أفرغ ما في قلبه في البرنامج التلفزيوني المذكور. وعبّر له عن تقززه من كلام التزلف. إن إدراك مزاج القارئ ليس بالشيء السهل وذلك لجملة من الاعتبارات الاجتماعية والنفسية والتاريخية. فالمزاج شيء مركّب من قسمات الشخصية ومن سياقات حياتية. واعتقد أنه سيكون أصعب في المستقبل القريب. والسبب في ذلك لا يعود إلى تعقد الحياة المعاصرة والتغيير السريع في القيم فقط، بل يرجع، أيضا، إلى التغيير الحاصل في وسائل إنتاج الثقافة والإعلام وتوزيعها. فالقنوات التلفزيونية غرقت في الترفيه إلى حد الملل أو امتطت صهوة الدعاية الفجة التي تسطح التفكير. والعديد من الصحف تسعى إلى توطيد علاقتها بالقارئ عبر الإثارة والفضائح الجنسية. وكفت أو تكاد عن تقديم قيمة مضافة في مجال الإعلام والأدب والفن والثقافة والفكر والسياسة والتاريخ واللغة، أي في مجال إنتاج المعنى. فشجعت القارئ على الكسل وصرفته عن التفكير والتأمل. قد يحتج البعض على هذه النظرة بالقول أن الكتابة الجيدة هي تلك التي تخضع لمنطق ''هذا ما يريده القارئ''. وإذا كان البعض مقتنعا بهذا المنطق، فالبعض الآخر يراه مجرد خديعة تستخدمها الصحف لتبرير ما تنشره. ويعتقد، بدون وصاية على القارئ، أن هذا المنطق بحاجة لأن يستكمل بمنطق آخر مفاده (الكتابة وفق ما يحتاجه القارئ). هذا ما حاول التّقيّد به الصحافي ''روبير صولي'' الذي ظل مواظبا على كتابة عموده الموسوم ''نقطة الختام'' بصحيفة ''لوموند'' الفرنسية لسنوات. لقد بعث قراؤه عشرات الرسائل الدامعة لوداعه عندما وضع نقطة الختام لمسيرته المهنية. فعبرت عن تقديرهم له لأنه أثرى حياتهم بالمعلومات والمعارف والأفكار واحترم ذكاءهم.