عسكرة العمل الإعلامي والانتقال الديمقراطي.. هي الرهانات الجديدة المطروحة على عالم الاتصال في حوض المتوسط، حسب المحاضرين، أمس، في إطار ''فوروم الخبر'' بالمدرسة العليا للصحافة في العاصمة. نشط الندوة كل من الصحفية الإيطالية جوليانا سيغرينا، والصحفي الأردني يحيى شقير، والمغربي أحمد بوغابة. ومن الجزائر، شارك المديران السابقان لكل من ''الخبر'' علي جري، و''لوسوار دالجيري'' زبير سويسي. ومن خلال تجربتها في العراق، حيث تم اختطافها أثناء حرب الخليج، دعت جوليانا سيغرينا للنضال ضد ''عسكرة العمل الإعلامي''. وقالت إن أول ما سألها عنه مختطفوها هو: ''هل أنت جاسوسة؟''. والسبب في ذلك يكمن في وجود صحفيين كانوا يؤدون مهامهم بزي عسكري، في حين حاولت سفارة بلدها وسفارات أخرى طردها من العراق رفقة زملائها الصحفيين الإيطاليين الذين كانوا يبحثون عن الأخبار بحياد. ظاهرة عسكرة العمل الإعلامي التي انتشرت، إذن، بعد حرب الخليج وفي زمن الثورات العربية بشكل خاص، اعتبرتها جوليانا سيغرينا ''تميل إلى الدعاية لأحد طرفي الحرب''. بينما الصحفي الذي يحاول نقل صورة أخرى عنها، يتعرّض للاختطاف أو ضغوط أخرى، مثلما حدث لها في العراق وانتقدتها الطبقة السياسية عليه ''اعتبروني بحثت عما حدث لي''، تقول جوليانا سيغرينا ''وكل ما فعلته في الحقيقة، أنني لم أمكث في الفندق، وكنت في كل مرة أخرج لأتأكد من المعلومات التي بحوزتي. ولو لم أفعل ذلك، لكان أفضل لي أن أبقى في مكتبي''. نفس مهمة الصحفية الإيطالية عاشها جيل كامل من الصحفيين في الجزائر، جيل قال عنه زبير سويسي ''مسك بزمام الأمور، ودافع عن الديمقراطية''. لكن الصحفي السابق في ''أوريزون'' الذي خاض تجربة ''الربيع الإعلامي الجزائري''، على حدّ تعبيره في بداية التسعينيات، تأسف لكون هذه التجربة، بعد 23 سنة، سقطت في ''الرداءة''. وتأسف زبير سويسي لكون الصحافة الجزائرية ''وقعت تحت رحمة الإشهار''، لكنه يعتبر مشكلة الصحافة في الجزائر هي مشكلة دمقرطة المجتمع الجزائري كله. وحتى القنوات التلفزيونية التي ظهرت، مؤخرا، تحت طائلة القانون الأجنبي، قال عنها سويسي إنها ''رديئة''، وكشف أن أصدقاءه من السياسيين صارحوه ب''أن الصحافة المكتوبة باغتتهم، ولن يسمحوا مجدّدا بأن تباغتهم قنوات تلفزيونية خاصة''. وقال سويسي باختصار ''الوضعية، اليوم، كارثية، والبلاد على حافة الانفجار''. أما علي جري، فرفض إلقاء اللوم على القنوات التلفزيونية الجديدة، قائلا: ''هذه القنوات محمية بفضل إرادة أشخاص''، متأسفا أن ''نضطر لمخاطبة الجزائريين عبر بيروت وعمان، بعد 50 سنة من الاستقلال''. واستبعد علي جري أن تكون هناك أي إرادة لفتح المجال السمعي البصري، مثلما يظهر من قانون الإعلام الجديد. وبخصوص تجربة الصحافة المكتوبة، قال جري إن ''هوامش الحرية الموجودة فيها تعود لمجهود أشخاص'' كذلك. وردا على الطلبة الذين يسألونه في كل مرة عن سبب ترتيب الجزائر في المراتب الأخيرة عالميا، من حيث حرية التعبير والصحافة، قال إن المنظمات التي تقوم بترتيب الدول لا تكتفي بوجود جرأة في التعبير لمنح نقاط جيدة، بل تعتمد على مقاييس أخرى، منها حق الوصول إلى مصدر المعلومات ''الذي يعتبر أكبر عائق يعاني منه الصحفي الجزائري''. واعتبر جري، من جهة أخرى، أن ''تعدّد العناوين الصحفية في الجزائر لا يعكس التنوع الإعلامي في بلادنا الذي لم يتحقق بعد''، مشيرا إلى ''وجود رئيس تحرير واحد يقدم نفس المعلومات، ونفس المقاربة الإعلامية''. يحيى شقير يرصد استمرار تراجع حرية التعبير الأنظمة العربية تريد ''محاصرة'' الإعلام الجديد صرّح الكاتب الصحفي الأردني، يحيى شقير، أن الأنظمة العربية تتعامل مع الإعلام الجديد بعقلية تقليدية ووفق القوانين القديمة، واعتبر أن ارتفاع سقف حرية التعبير يقلل من الفساد، مضيفا أن الأصل في حرية الصحافة هي حرية التعبير. وتحدث يحيى شقير، عضو لجنة جائزة عمر أورتيلان الدولية لحرية الصحافة، عن وضع الإعلام في الأردن والشرق الأوسط، واعتبر أن واقع حرية التعبير يعرف تراجعا كبيرا، ولم يسبق له أن عرف مرحلة متقدّمة، حتى بالنظر إليه من زاوية تاريخية. وذكر شقير، خلال المحاضرة التي ألقاها ضمن فعاليات ندوة ''وضعية الاتصال بمنطقة المتوسط''، أمس، بالمدرسة الوطنية العليا لعلوم الإعلام والاتصال، أن الرقابة الذاتية منتشرة، وكل صحفي يجد شرطيا في رأسه. وحسب المحاضر، فإن الأصل في حرية الصحافة هي حرية التعبير، أما باقي الحريات ''فتعتبر بمثابة مكبّرات الصوت فقط''، وقال: ''إذا احترمنا الحرية الأم، تأتي باقي الحريات''، مضيفا: ''الأصل هي حرية التعبير لأنها من الحريات التي ولدت مع الإنسان، ولا يمكن أن تكتمل أي حرية دون حرية التعبير''. وفي نفس السياق، قال شقير: ''إذا ما أردت معرفة حرية التعبير في أي بلد، فافحص هل من حق أي مواطن تلقي الأخبار، وبثها دون رقابة الدولة؟''. وقدم المحاضر عدّة دلائل عن تأخر حرية التعبير في الوطن العربي، حيث لا يوجد سوى ثلاث دول تضمن حق المواطن في الحصول على المعلومات، وهي تونس، الأردن واليمن. وأوضح أن وسائل الاتصال الحديثة ''سوف توجه، في النهاية، ضربة لعدائية الوسيط والوصاية وسلطة الحكومات''. وبشأن واقع الوسائط الحديثة للإعلام، على غرار الأنترنت، في العالم العربي، يعتقد شقير أن الحكومات العربية تتعامل معه بشكل قديم، وتفكر حتى في وضع تشريعات لمراقبته. وذكر المحاضر أن المواطن، عبر العالم، أصبح صحفيا بسبب الأنترنت الذي أوجد إعلاما جديدا، وصفه بالانشطاري، وبالإعلام الذي فقد طبيعته الاندماجية التي كانت سائدة سابقا. كما توقف المحاضر عند أهمية حرية التعبير وعلاقتها بالوضع السياسي، من منطلق أن مهمة الصحافة تتمثل في مراقبة السلطات الأخرى، وقال: ''كلما ارتفع سقف حرية التعبير، قلّ الفساد، وعرف درجات من التراجع. لكن في حال انخفاض هذه الحرية، فإن الفساد هو الذي سوف ينتشر ويرتفع''، وأضاف: ''أي اعتداء على الصحفي يعني وجود طرف يريد ارتكاب جريمة، ولا يريد شاهدا عليها''. الجزائر: حميد. ع سيغرينا ترسم واقعا ''أسود'' لصحافتها برلسكوني ولوبيات المال يبعدون الجرائد الإيطالية عن الجمهور قالت جوليانا سيغرينا إن 5 ملايين من الإيطاليين فقط يطالعون الأخبار من خلال الصحافة المكتوبة، من إجمالي 60 مليونا، أما البقية، فهم يتابعون القنوات التلفزيونية ومواقع الأنترنت. ويعتبر ثقل المال أكبر عائق لتوسيع انتشار الصحافة الإيطالية، إذ تقول المتحدثة إن ''الصحافة الإيطالية تتحاشى الأخبار التي تتعلق بمموّليها''. وأكبر صحيفة في إيطاليا هي ''لاريبيبليكا'' التابعة لليسار الوسطي، الذي قالت عنه ''ضعيف التجنيد'' في إيطاليا حاليا، بجانب صحيفة اليمين الوسطي ''وريير دلي لاسيرا''، وكلاهما تسحبان 600 ألف نسخة، ثم تأتي بقية الصحف الوطنية والمحلية بسحب يتراوح في حدود 50 ألف نسخة. أما الظاهرة الإعلامية التي أثارت النقاش طويلا في إيطاليا، فتتمثل في رئيس الحكومة الأسبق، سيلفيو برلسكوني، الذي قالت عنه ''كان يراقب القنوات التلفزيونية العمومية، وست قنوات يملكها شخصيا''. لتبقى الإذاعة في إيطاليا هي أكثر وسائل الإعلام تحرّرا من سلطة المال. أحمد بوغابة يقدّم وصفا لواقع الصحافة في بلاده الصحافة المغربية لا تعرف درجة متقدّمة من الاحترافية قال الصحفي المغربي، أحمد بوغابة، إن عدد الصحف الموجودة في المغرب، حاليا، لا يتعدّى خمسمائة وثمانية وثمانين صحيفة، منها أربعمائة وخمسة وعشرين صحيفة باللغة العربية، ومائة وثمانية وأربعين صحيفة باللغة الفرنسية، وثماني صحف باللغة الأمازيغية. مضيفا أن المقروئية، من جهتها، تعرف تراجعا كبيرا، كما أن الصحفي المغربي لا يتمتع بدرجة كبيرة من الاحترافية. وعاد أحمد بوغابة، في محاضرة حول راهن الصحافة في المغرب، إلى الظروف التاريخية لميلاد الصحافة في المملكة، ووصفها بصحافة النضال التي ولدت في ظرف تاريخي محدّد، تمثل في لحظة الحركة الوطنية، والنضال ضد ''الحماية الفرنسية''، وفي بروز نخبة مثقفة تنقسم إلى مثقفين حداثيين وتنويريين، ونخبة أخرى مشرقية محافظة. وقال بوغابة: ''بعد الاستقلال مباشرة، تأسست كتابة الدولة للإعلام، ولم يكن بيد الحكومة، آنذاك، سوى الإذاعة، بينما باقي الصحف كانت تابعة للأحزاب التي كانت تمثل الحركة الوطنية المغربية''. وحسب بوغابة، فإن هذه الوضعية تدعمت بعدد من التشريعات الجديدة، حيث قامت الحكومة بسنّ قوانين ساهمت فيها الحركة الوطنية، وكانت في صالح الانفتاح الديمقراطي وحرية التعبير والتعدّدية. وقال بوغابة، بخصوص هذا الواقع الجديد الذي برز بداية من سنة 1958: ''لقد أدى إلى إيجاد أرضية للكثير من المغاربة كي يناضلوا في إطار الحرية، خاصة أن المغرب لم تكن له آنذاك وزارة للإعلام''. وذكر المحاضر أن القوانين التي سمحت بظهور القنوات الإذاعية والتلفزيونية الخاصة في المغرب تعود إلى سنة 1980، مع تجربة إذاعة ''ميدي 1 تي في''، ثم مع قناة ''2 م'' التي أسسها عدد من رجال الأعمال، لكنها لم تحقق الانتشار المنتظر، بسبب انحصارها على النخب، واعتمادها على التشفير، وارتكازها على اللغة الفرنسية بشكل مكثف، على حساب اللغة العربية، فكادت تختفي، ما أدى بالحكومة المغربية للتدخل وشرائها. وفي نفس السياق، ذكر بوغابة أن قناة ''ميدي 1 تي في'' وقعت في نفس الأخطاء، وعرفت نفس المصير. واعتبر أن المشكل الذي واجهته هذه القنوات الخاصة تمثل في ''كيفية تناول الأخبار، والبرامج الحوارية، والنشرات الإخبارية الخاصة، والبرامج ذات الطابع السياسي''. وعاد بوغابة إلى القوانين التي أصدرها الملك محمد السادس، ابتداء من سنة 2002 لضمان أكثر قدر من الانفتاح والحرية في الفضاء الإعلامي على جميع المستويات، ولدعم الانفجار الذي حصل مع نهاية التسعينيات في حقل الإعلام، والذي أدى إلى ظهور الصحافة المستقلة التي تدعمت بجيل جديد من الصحفيين. وأضاف بوغابة: ''بعد أن أصبحت الأحزاب المغربية جزءا من اللعبة السياسية العامة، حلّت الصحف محلّ هذه الأحزاب، وأصبحت تؤدي دورها''. الجزائر: ح. ع