مرض رئيس الجمهورية ونقله إلى المستشفى العسكري بباريس، ثم تحويله إلى قصر "المعطوبين"، جعل السلطة والطبقة السياسية عارية أمام الشعب، الذي يريد معرفة الحقيقة خوفا على مستقبل الجزائر. فأين الحقيقة المجرّدة من اللعبة السياسوية ومن لغة الخشب؟ فهذا يتحدّث عن مرض خطير دون الاستناد إلى معلومات من مصادر طبية. وذاك يعلن أن الرئيس عاد إلى الجزائر في غيبوبة. والخارجية الفرنسية تصرح بأن الرئيس لا يزال بباريس. وآخر يطالب بتفعيل المادة 88 من الدستور قبل قراءتها. وقد ذهبت بعض العقول "النيّرة" إلى حدّ المطالبة باجتماع المجلس الأعلى للأمن، بينما تنص المادة 173 من الدستور على أن هذا المجلس "يرأسه رئيس الجمهورية، مهمّته تقديم الآراء إلى رئيس الجمهورية في كل القضايا المتعلقة بالأمن الوطني". وقد تعود الجائزة الأولى في هذا المجال، إلى الوزير الأول الذي صرح مرارا بأن الرئيس "في صحة جيدة". وإذا كان الأمر كذلك، فماذا يفعل الرئيس في المستشفى؟ وإذا صارت المستشفيات للذين يتمتعون "بصحة جيدة "، فأين مكان المرضى؟ المشكل لا يكمن في مرض الرئيس، ولكن في إحاطة هذا الموضوع بطقوس من السرية، حتى صار الحديث عنه "مساسا بأمن الدولة". وقد تعود هذه "السرية" إلى بقايا أفكار الحزب الواحد، وكأن 5 أكتوبر 1988 حُذف من الزمن! ماذا تعني المادة 88 من الدستور؟ تنص هذه المادة على أنه "إذا استحال على رئيس الجمهورية، أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير ومزمن، يجتمع المجلس الدستوري وجوبا. وبعد أن يتثبت من حقيقة هذا المانع بكل الوسائل الملائمة، يقترح بالإجماع على البرلمان التصويت بثبوت المانع". وتنصّ نفس المادة على الإجراءات المتعلقة بثبوت المانع بأغلبية ثلثي (2/3) أعضاء البرلمان المجتمع بغرفتيه. وعلى أن يتولى رئاسة الدولة بالنيابة، رئيس مجلس الأمة مدة أقصاها 45 يوما. وإذا استمر المانع بعد هذه المدة، يعلن الشغور بالاستقالة وجوبا، حسب نفس الإجراء. وعندئذ، تطبق إجراءات الاستقالة وتنظم الانتخابات الرئاسية في مدة أقصاها 60 يوما. وهناك عقبة دستورية أخرى تتمثّل في اشتراط الجنسية الجزائرية الأصلية فقط لتولي رئاسة الدولة، ولو بالنيابة. وقد لاحظنا أن الوزير الأول هو الذي يتولى تمثيل الرئيس في المحافل الداخلية والدولية منذ دخوله إلى المستشفى، وقد يكون ذلك لتجنب أي لبس أو تأويل. وهنا لا بد من طرح سؤالين هامين ومحاولة الإجابة عنهما. الأول: من يقرر أن المرض "خطير ومزمن"؟ والثاني: من يلزم المجلس الدستوري بعقد اجتماع لهذا الغرض؟ لو كانت المسألة تتعلق بالوفاة، كما حدث للرئيس هواري بومدين، أو بالاستقالة (حسب الإعلان الرسمي)، كما حدث للرئيس الشاذلي بن جديد، ما كنا بحاجة لطرح مثل هذه الأسئلة. ولكن الأمر اليوم يتعلق بمدى وجود "مرض خطير ومزمن" من عدمه، لكون دخول المستشفى في حد ذاته لا يعني بالضرورة توفر شروط العجز. وأن بقاء الرئيس في بيته ليس دليلا في حد ذاته أيضا على سلامته. فالمستشفى العسكري بباريس، يعتبر مرض رئيس أية دولة مسألة شخصية تتعلق بعائلة المريض ولا يمكنه أن يعلن للرأي العام أن المرض "خطير أو مزمن"، إلا بترخيص من العائلة. وأطباء الرئيس يعملون تحت غطاء "أسرار طبية" ولا يمكنهم بأي حال أن يتولوا مهمة دستورية ليست من صلاحياتهم. ومن ثمة، فمن الضروري تعيين فريق من الأطباء الجزائريين ليجيبوا بعد الفحص عن سؤال واحد يتمثّل في مدى كون المرض "خطير ومزمن" من عدمه، وينتهي الجدل. ولكن الدستور لا يحدد السلطة المختصة بتعيين الفريق الطبي، مما يدفع إلى الاعتقاد بأن هذه المهمة تعود للمجلس الدستوري الذي "يتثبت من حقيقة هذا المانع بكل الوسائل الملائمة"، وعلى رأسها التقارير الطبية. ولكن المجلس لا يجتمع إلا باستدعاء من رئيسه. ونحن نعلم كيف يختار ويعين الرئيس. وحتى في حالة اجتماع المجلس لهذا الغرض، فكيف "يقترح بالإجماع على البرلمان التصويت بثبوت المانع"، ونحن نعلم أيضا كيف يتم اختيار الأعضاء؟ وحتى إذا تجاوزنا عقبة المجلس الدستوري، فإن ثبوت المانع وإعلان الشغور لا يتم إلا بأغلبية ثلثي أعضاء البرلمان المنعقد بغرفتيه. والجميع يعرف كذلك كيفية اختيار وانتخاب البرلمانيين. يمكن القول إنه من واجب الأحزاب السياسية أن تعقد لقاء لاتخاذ موقف موحّد للضغط على المؤسسات المعنية بالموضوع. ولكن قيادات الأحزاب، سواء أكانت داخل السلطة أو خارجها، تجاوزتها الأحداث وفقدت المصداقية وليست قادرة على تعبئة الشعب، لأن هذا الأخير فقد الثقة في الطبقة السياسية بحكامها ومعارضيها. ومن ثمّة، فلا يمكن تفعيل المادة 88 من الدستور إلا بإذن من برج المراقبة. فالمؤسسات المختصة بحالة الشغور، غير مستقلة لتتصرف وفقا للدستور. وقيادات الأحزاب السياسية (ولا أتكلم عن المناضلين في القاعدة)، لا تهمها إلا الانتخابات والمناصب والتقرب وأخذ حقها من الريع. وقيادات المجتمع المدني (ماعدا بعض الاستثناءات) ما هي إلا لجان مساندة. فالذين يريدون إعلان شغور منصب رئيس الجمهورية، لا سلطة ولا وزن لهم، والذين لهم سلطة حقيقية يبدو أنهم لا يرغبون في ذلك لأسباب ستكشف عنها الأيام. وحسب كل المؤشرات، وباستثناء حدوث ما لا يمكن رده، أعتقد أن الوضعية ستبقى على حالها لغاية انتخابات 2014 التي ستجري كسابقاتها. وقد تختلف ورقة الطريق بالنسبة للرئيس المقبل. أما الذين يتحدّثون عن رئاسة جماعية لمرحلة انتقالية، فإنهم لا يعرفون حقيقة النظام الجزائري. فالأزمة إذن أزمة نظام تحتاج إلى حلول سياسية عميقة، وليست مجرد أزمة مرض تزول باتخاذ قرار مهما كان مصدره واتجاهه.