لم تكن زيارتنا الثانية لميدان رابعة العدوية شبيهة بالزيارة الأولى، إذ بدت الأمور مختلفة، فالمعتصمون يستعدون للمواجهة المتوقعة مع عناصر الأمن بعد قرار مجلس الوزراء المصري تفويض الداخلية بفض الاعتصام، ولعل أهم تغيير هو تشديد الإجراءات الأمنية لدخول الميدان، فقد تصدر المشهد شباب الجماعة والمتعاطفون معهم من الجماعة الإسلامية وغيرهم من التيارات الإسلامية، فيما كانت النساء يصنعن للمعتصمين آلاف الكمامات لحماية أنفسهم من القنابل المسيلة للدموع، استخدمن فيها الإسفنج وبعض المواد الكيميائية، هذه الأجواء وغيرها أبدت أن المعتصمين برابعة العدوية على أهبة الاستعداد لمواجهة قد تكون الأكبر بالنظر لإصرارهم على رفض إنهاء الاعتصام. مساحة تأمين الاعتصام أصبحت أكبر جغرافيا بعدما أقام المعتصمون أسوارا من الحجارة على مداخل الاعتصام بمسافة 500 متر على الأقل، وتوسيع مساحة الاعتصام يعطي لأنصار مرسي وقتا أكبر إذا حاولت قوات الأمن دخول الميدان، فإذا بدأت الشرطة في فض الاعتصام ستصطدم بشباب الإخوان على بعد 500 متر من الاعتصام الأصلي، وهذا يعطي فرصة أكبر للمعتصمين لترتيب أوارقهم وتنظيم أنفسهم، باعتبار أن أسوار الحجارة تعطيهم فرصة جيدة للاختباء حال إطلاق الرصاص عليهم من أي طرف. أحد هذه المداخل بجوار المنصة، وهي المكان الشهير في طريق النصر الذي قتل فيه الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات على يد الجماعات الإسلامية، والصراع على هذا المكان تحديدا كلف المعتصمين الكثير من الدماء في أحداث المنصة الأخيرة، وعادة حينما يبدأ الهجوم يستخدم الإخوان طريقة لإعلام بعضهم البعض أن العنف بدأ، من خلال الخبط بالحجارة على الأسوار الحديدية المحيطة بالمنطقة، وتبدو كأنها طبول الحرب، ويعرف الجميع أن هناك اشتباكات تجري، هنا تختبئ النساء وكبار السن ويتقدم الشباب إلى الأمام ويرفع المستشفى الميداني حالة التأهب القصوى. المنطقة المحيطة برابعة حيوية جدا واختيار أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي لها ذكي في إطار المواجهة، لأنها مليئة بالمنشآت العسكرية الحيوية، والمقرات الهامة للجيش المصري، فعلى مسافة دقائق مشيا على الأقدام يوجد مبنى المخابرات الحربية المصرية، ومبان أخرى على غرار وزارة الدفاع ودار الحرس الجمهوري، بالإضافة إلى بعض الدور التابعة للقوات المسلحة، وهذا يعني أن تحرك أي مسيرة من داخل رابعة في أي اتجاه سيتسبب حتما في شل الطرق المؤدية للمنشآت العسكرية، وهذا دائما هو سبب المواجهات التي تدور بين أنصار مرسي وقوات الأمن. يوميا تخرج مسيرات لأنصار الرئيس السابق بهدف التظاهر، لكنها في نفس الوقت تقوم بدور الاستطلاع لمعرفة الأجواء المحيطة بالاعتصام من الخارج، وتحرك قوات الأمن. داخل الاعتصام توجد مجموعة من الخيام كل واحدة منها تحمل اسم محافظة من محافظات مصر، وخيم أخرى للمهنيين مثل المهندسين والأطباء، ومعتصمين من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية، لكن يغلب عليهم أكثر المعتصمين القادمين من الأرياف، ومجموعة ضخمة من الباعة الجائلين يبيعون كل شيء، بداية من أدوات المواجهة المنتظرة، مثل العصي من النوع الغليظ والخوذات، بالإضافة إلى الملابس المستعلمة والمسواك والعطور والبخور والجلاليب والذرة والترمس والمشروبات والعصائر، لكنها تخضع جميعا لرقابة وتنظيم اللجان الشعبية بالميدان، وتختلف اللجان الشعبية هذه المرة عن الاعتصامات الأخرى طوال أحداث الثورة المصرية، فقد كانت هذه اللجان سابقا من المتطوعين من كافة الأطياف وغير منظمين عسكريا، غير أن هذه المرة بدا الوضع أقرب إلى أن القائمين على اللجان قاموا بترتيبات جديدة جعلت الشباب المنتمي لها أقرب إلى تنظيم شبه عسكري وأسمائهم معلومة لدى منظمي الاعتصام، ويرتدون خوذات مكتوب عليها ”شهيد تحت الطلب” و«بنحبك ياريس”، وبأيديهم عصي غليظة ”هراوة”، ويرتدون قمصان واقية للرصاص باللون ”البرتقالي” و«أخضر فستقي”، يقومون بمراقبة الاعتصام، وإذا روادهم الشك في أحد المعتصمين يحتجزونه ليذهب إلى أحد الأماكن السرية، حيث يتم استجوابه ومعرفة إذا كان مندسا من قبل قوات الأمن. هذه المرة رغم الإيمان الكامل للمتعصمين بما يقال من خلال المنصة وتصديقهم له، لكنني لاحظت بعضهم يتابعون العالم الخارجي من خلال أجهزة الهاتف المحمول المتطورة وأجهزة الكمبيوتر. ”أحذية فوق الرؤوس”.. عنوان معرض برابعة وأنت في ميدان رابعة العدوية يستوقفك مشهد مجموعة من الأحذية يلفها عدد من الحجارة بالألوان الأبيض والأحمر والأسود على شكل دائرة، في إشارة إلى علم مصر، ويضم المعرض قميصا أبيض ملطخا بالدماء وخوذة مكسورة تحومها مجموعة من الورود وأغصان ورق الزيتون، وشريط أبيض مكتوب عليه ”بعض أحذية شهداء دار الحرس الجمهوري شاهدة على المجزرة”، وبالقرب من المعرض وضع المعتصمون شريطا أبيض حتى يكتب رواد الاعتصام تعليقاتهم على مقتل المتظاهرين في أحداث دار الحرس الجمهوري وشارع النصر بالقرب من رابعة، وكذا رؤيتهم ل ”الانقلاب العسكري” على رئيس منتخب. اعتصام رابعة يوفر فرص عمل جديدة دائما ما توفر الاعتصامات والأحداث الكبيرة في مصر فرص عمل جديدة للبسطاء من المصريين، فهناك كثيرون ممن ليس لهم علاقة بالسياسة ولا يفقهون فيها، يبحثون عن لقمة العيش والرزق حتى ولو في مكان مؤهل لمواجهات عنيفة، سائقو الحافلات العامة في القاهرة والمحافظات أنشأوا خطوطا خاصة لتنقل أنصار الرئيس المعزول من مختلف الأحياء وإلى غاية اعتصام رابعة، وأصبح لهم محطة ضخمة على أبواب الاعتصام، من أشهر الخطوط التي تنقل المعتصمين من محافظة الفيوم وميدان رمسيس بالقاهرة، حيث يتواجد في محطة رابعة العشرات من سائقي الحافلات، هؤلاء بالتأكيد يحتاجون إلى بائع الشاي الذي يتواجد بالقرب من المحطة، وارتفعت قيمة تسعيرة الحافلات من ميدان العباسية إلى رابعة إلى جنيه ونصف، أي ما يعادل نحو 25 دج، هؤلاء السائقون يقودون بمهارة شديدة حتى في وسط أعتى الاشتباكات ويعرفون كيف يتجنبون الرصاص والخرطوش. الباحثون عن لقمة العيش يبيعون أعلام مصر والشمسيات ونظرات الشمس للوقاية من حرارة الشمس الحارقة، ورايات سوداء وخضراء مكتوب عليها ”لا إله إلا الله”، وأعلام بعض الدول العربية والأوروبية مثل السعودية والجزائر وتونس وقطر وتركيا، ويبلغ سعر العلم 10 جنيهات أي ما يعادل نحو 150 دج، وتباع هذه الأعلام بجوار لافتة كبيرة مكتوب عليها باللغتين العربية والإنجليزية ”الشعب المصري يشكر جميع دول العالم والمؤسسات التي وقفت بجانب الشرعية ضد الانقلاب العسكري”، بالإضافة إلى عمال النظافة التابعين لحي مدينة نصر الذين ينظفون الشوارع وينتظرون من المعتصمين ”صدقة”، فهؤلاء أيضا وجدوا دخلا آخر يوميا رغم ابتعادهم عن لعبة السياسة. هناك أيضا بعض الشباب الذين ينظمون اصطفاف سيارات المتظاهرين، مقابل مبلغ مالي في اليوم لا يتجاوز 10 جنيهات للسيارة الواحدة. هناك أيضا بائعو الكتب الدينية وتحتوي القائمة على كتب ”رياض الصالحين” و”الكبائر” و”لا تحزن” و”قصص الأنبياء” و”أبو بكر الصديق” و”تربية المراهقين”، بالإضافة إلى المصاحف وكتب تفسير القرآن والسنة النبوية، ويباع بجوارها صور للرئيس المعزول محمد مرسي مكتوب عليها نعم للشرعية، وصور أخرى للفريق عبد الفتاح السيسي مكتوب عليها يسقط حكم العسكر، والغريب أنه في شوارع القاهرة الأخرى تباع نفس الصور بطريقة معاكسة فيها صورة لمرسي وعليها علامة إكس ومكتوب عليها ”يسقط حكم المرشد” و”مرسي مش رئيسي”، وصور أخرى لعبد الفتاح السيسي وزير الدفاع، والأكيد أن المطابع التي تطبع هذه الصور واحدة، ففي عالم البزنس لا مكان للتوجهات السياسية.! هنا إدارة اعتصام رابعة على بعد خطوات من منصة الاعتصام الرئيسية وراءها تحديدا، توجد قاعة كبيرة تابعة لمسجد رابعة العدوية ملحق بها دورة مياه، وكانت تجري فيها قبل ذلك مراسم العزاء والزواج، فعادة المساجد الضخمة في مصر بها قاعات كبيرة للمناسبات ”العزاء والزواج” يتم تأجيرها للمواطنين، وتحتوي القاعة على 3 حجرات ضخمة، بالإضافة إلى المركز الصحفي، إحدى هذه الحجرات تعتبر مركز العمليات الرئيسي لإدارة اعتصام رابعة، ومقيم فيها بشكل شبه دائم الدكتور محمد البلتاجي القيادي بالجماعة والداعية صفوت حجازي وعاصم عبد الماجد عضو مجلس شورى الجماعة الإسلامية ومؤسس حملة تجرد المؤيدة لمحمد مرسي، ويتردد عليها بشكل منتظم الدكتور عصام العريان نائب رئيس حزب الحرية والعدالة، وأسامة ياسين وزير الشباب السابق والقيادي بالإخوان وعلاء عبد العزيز وزير الثقافة السابق، والمستشار يحيى حامد وزير الاستثمار، ومن شباب الجماعة سعد بن خيرت الشاطر نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، وعبد الرحمن عز القيادي الشاب، هؤلاء يجلسون دائما في غرفة مغلقة ويعقدون اجتماعات مطولة، ولا يسمح لأحد بدخولها، وحينما يجرون اللقاءات الصحفية تخرج القيادات إلى الحجرة الوسطى لمقابلة الصحفيين، وبالداخل شبكة إنترنت وأجهزة كمبيوتر، وتجتمع أيضا داخل هذه القاعة لجان تقصي الحقائق التي شكلها اعتصام رابعة بشأن أحداث الحرس الجمهوري والمنصة، وعلى باب القاعة من الخارج تقف لجان شعبية تسأل الضيوف عن هويتهم ويتأكدون منها. ويوجد بداخل قاعة المركز الصحفي طاولات وأجهزة الكمبيوتر، ويعمل فيه مجموعة كبيرة من الصحفيين بجريدة الحرية والعدالة التابعة للإخوان المسلمين، وأيضا المنسقون الإعلاميون لحزب الحرية والعدالة والجماعة وجميعهم من الشباب، إضافة إلى مجموعة من الإعلاميين الذين كانوا يعملون في القنوات الدينية والمؤيدة للإخوان التي تم وقف بثها، ويضعون على صدرهم بطاقة مكتوب عليها ”لجنة التنظيم”، ويوجد طرق طويلة بين هذه القاعة والمنصة، فيها مقاعد خلف المنصة لراحة المتحدثين للمعتصمين قبل بداية كلمتهم، ويقوم المنظمون بترتيب ظهور الشخصيات على المسرح وتقديمهم، بالإضافة إلى تشغيل الأغاني الوطنية والحماسية، وأناشيد مثل ”لبيك إسلام البطولة.. كلنا نفدي الحمى، لبيك واجعل من جماجمنا لمجدك سلما”. ومن داخل هذه القاعة تصدر تعليمات لخروج المسيرات في اتجاهات مختلفة، حينما تعتمد خطة المعتصمين دائما على الخروج في مسيرات كل يومين تقريبا في معظم شوراع وأحياء القاهرة المختلفة، وفي وقت المليونيات يتم غلق الشوارع الرئيسية في القاهرة بالحواجز والمتظاهرين، حينما سألنا عن ابن الرئيس المعزول محمد مرسي قال لنا أحد المنظمين إنه لا يأتي كثيرا لدواع أمنية، وبالطبع مرشد الإخوان محمد بديع وبقية قيادات الإخوان لا يظهرون في الاعتصام لنفس الدواعي الأمنية. الجرحى يلونون المستشفى الميداني باللون الأحمر في إحدى القاعات بمسجد رابعة العدوية يوجد المستشفى الميداني، وفيه أطباء من كافة التخصصات: أطباء جراحة وقلب وعيون وباطنية وغيرهم، حينما تبدأ الاشتباكات يتم نقل الجرحى إليها باستخدام الدراجات النارية، رغم وجود عشرات من سيارات الإسعاف في مداخل الاعتصام، والسبب أن إدارة الاعتصام لا تثق في سيارات الإسعاف التابعة لوزارة الصحة، ويخشون من تسليم الجرحى للأمن، ويتم استخدام سيارات الإسعاف في أضيق الحدود، كما أن حركة الدراجات النارية داخل الحشود تكون أكثر سهولة من حركة سيارات الإسعاف، وتساهم الحشود في فتح طريق داخل التزاحم لحركة الجرحى والمصابين. ويوجد بداخل المستشفى غرف عمليات مصغرة يعمل فيها أطباء مختصون، ولا يلجأون للمستشفيات العامة خارج الاعتصام إلا في الحالات الخطرة التي تحتاج رعاية مركزة. وقال لنا أحد الأطباء في المستشفى الميداني إنه تم تسجيل 200 حالة وفاة في أحداث المنصة فقط، ودخل المستشفى 4500 مصاب، تراوحت إصاباتهم مابين الخرطوش والرصاص الحي والكدمات والكسور والجروح نتيجة الاشتباكات بالإضافة إلى حالات الاختناق.