تصعب الكتابة عن "مدينة– دولة" بحجم العاصمة الألمانية برلين من موقع صحفي جزائري، لأن الرؤية من هذه الزاوية سيغلب عليها حتما الانبهار. لكن برلين تبهر الألمان أنفسهم وحتى من يقطنون فيها يستفيقون يوميا على إنجازات جديدة في مدينتهم، إنجازات يدفعون تكلفتها من دخلهم الذي يفوق معدله 25 ألف أورو للفرد الواحد سنويا. ال”مدينة– الدولة” هي الصفة القانونية لبرلين، كونها تتوفر على دستور خاص بها هو دستور برلين الذي يعود تاريخه لبداية الخمسينيات ثم دستور سنة 1995 الذي توّج عملية الوحدة. ولبرلين حكومتها وإدارتها ويحتضن برلمانها مقر نوابها المحليين ونواب البرلمان الفيدرالي الألماني.. الإنتاج الداخلي الخام لبرلين هو نصف الدخل الخام لبلادنا، لكن بتعداد سكاني لا يتعدى عدد المقيمين في الجزائر العاصمة ومساحة جغرافية تعادل مساحة أصغر الولايات عندنا ومن دون بترول ولا ثروات باطنية أخرى.. ولأن السياسة المالية لبرلين تعني كل السكان وليست حكرا على الحكومة، فيستطيع كل برليني أو زائر للمدينة أن يطّلع على تطورات مديونية هذه المدينة كل ثانية بفضل لوح إلكتروني منتشر في كل أنحائها تتغير أرقامه بشكل دائم. لقد كلفت عملية توحيد شقي المدينة منذ سقوط الجدار الملعون إلى اليوم 40 مليار أورو، تحمّلت أعباءها برلين الغربية سابقا التي ضحّت بالدعم المخصص لها من الحكومة الفدرالية أيام الألمانيتين. ولأن الوحدة هي استجابة لرغبة شعب وليس لمصالح غير مصالح الألمان، فكل جهود التنمية في المدينة تصبّ في الشق الشرقي طيلة العشريتين الأخيرتين وفي المستقبل. تلك الجهود حوّلت ”ممر الموت”، الذي كان يهدد كل من يحاول خرق جدار برلين سابقا، إلى قلب المدينة وقلب الثقافة العالمية، بعدما استعادت بناياته المهدمة في الحرب العالمية الثانية قيمتها التاريخية، وتدعّمت هذه البنايات بشوارع عصرية لم تترك أثرا للعهد القديم إلا الآثار التي تركها البرلينيون عن قصد لتعريف زوارهم بالآلام التي عايشوها جراء الحرب وجراء تقسيم مدينتهم.. وحتى يتذكرون هم أيضا آلامهم، وليكون مستقبلهم مختلفا عن ذلك الماضي القمعي. وأنت تسير في شوارع برلين تصادفك نصب تذكارية في شكل مسامير تبدو لك في البداية كبلاط عادي من كثرتها على طول جلّ الأرصفة. لكن حين تقترب منها وتستفسر عمّا هو مكتوب فيها باللغة الألمانية، يتّضح لك أن الأمر يتعلّق بتخليد أسماء كل الذين سقطوا أو اختطفوا ورحلوا أيام الحرب. فكل مسمار يحمل اسم ولقب الضحية وتاريخ سقوطه أو اختفائه على مستوى تلك النقطة. كما تصادفك لوحات حديدية أخرى في كل مرة لتذكرك بأنك وضعت أول قدم في برلين الشرقية أو العكس، زيادة على بقايا جدار برلين المحتفظ بها في متحف ”شيكيبوينت تشارلي”، حيث التقت الدبابات الأمريكية غربا والسوفياتية شرقا ساعة تقسيم برلين بين الألمانيتين سابقا. يجعلك المتحف تعيش لحظات داخل قاعة يضيئها جدار برلين في شكل دائري، ما يجعلك تشعر فعلا بالرغبة في اختراق الجدار الذي يراقبه جنود ألمانيا الديمقراطية من مخافر منتشرة على مسافات قصيرة. وهناك قاعة أخرى فيها شاشات فيديو تعرض صورا عن مختلف المراحل التاريخية لبرلين، خاصة مرحلة بناء الجدار وصراع الجيش الألماني الشرقي مع السكان الذين يحاولون استغلال أدنى ثغرة للقفز إلى الجهة الأخرى من المدينة قبل أن يكتمل الطوق حولهم.. أما خارج المتحف فهناك شارع عوض ممر الموت، هو من أجمل شوارع برلين اليوم، ومازال يحتفظ بجنود يرمزون لفترة التقسيم لكنهم الآن يكتفون بالتقاط صور تذكارية مع الزوار. وحتى لا تنسى برلين تاريخها، فهي تمنح لمن يتجول فيها زيارة الشق الشرقي منها والغربي في شارع واحد، حيث تسير على رصيف ينتمي لبرلين الشرقية، ويقابلك رصيف ينتمي لبرلين الغربية. ولا تقلّ المباني وواجهات المحلات في الرصيفين عن بعضها البعض جمالا ولا من حيث الهندسة المعمارية.. وتبقى جزيرة المتاحف، التي تقابل شقة المستشارة أنجيلا ميركل في الطابق الرابع من عمارة تطل النهر، أكثر ما يبهرك في مدينة برلين. هي ليست جزيرة بالمعنى اللغوي للكلمة، لكنها كذلك لأنها تختزل العالم بكل حضاراته ومراحله التاريخية وقاراته.. وحتى أعمدة وجدران تلك المتاحف احتفظت بآثار رصاص وشظايا قنابل تعود لأيام الحرب العالمية. ومن بين ما تحتفظ به جزيرة المتاحف لبرلين سور بأكمله ومحارب وزرابي وقطع نحاسية.. ترمز للفن الإسلامي، لا نجدها في أي بلد محسوب على العالم الاسلامي. ”ترامواي” و«ميترو برلين”.. المشروع الضخم ”ترامواي” حديث وعرباته تبدو لك وكأنها خرجت للتوّ من مصانعها، مع أن شبكة الترامواي في برلين يعود تاريخها للقرن التاسع عشر. هي أطول شبكة ”ترامواي” وأعقدها في العالم، تمتد على 191 كلم من السكة الحديدية و22 خطا و382 محطة. لكن الترامواي في عهد الألمانيتين تم التخلي عن خدماته بنسبة كبيرة وانقطع كلية بين شقي برلين. شركة ”بي.في.بي” أخذت على عاتقها تحديث شبكة الترامواي وإعادة ربط شقي المدينة، ولذلك من يزور برلين اليوم يشعر وكأنها حديثة العهد مع الترامواي، وفي الوقت نفسه يشعر بالدهشة؛ كيف يمكن لأي حكومة أن تنجز شبكة بهذا الحجم في هذا العصر دون أن تعرض ساحاتها وشوارعها لأي تشويه أو اهتراء. وعكس الترامواي فإن شبكة الميترو قديمة كلية، كونها عوضت الترامواي في الشق الغربي منذ عقود، في حين ارتكزت الخطوط الجديدة التي تم تدشينها في الألفية الجديدة على الشق الشرقي من المدينة. وتعد شبكة ”ميترو برلين” الأكبر في أوروبا بدورها، وبلغ عدد ركابها 473 مليون شخص سنة 2007، حسب الإحصائيات الواردة عن هذه الشبكة على موقع ”ويكيبيديا” الإلكتروني. وتواجه خزينة برلين صعوبات مالية متزامنة تصعب عليها مواصلة عملية توسيع شبكة نقلها الحضري بالسكة الحديدية، رغم كثرة المشاريع الجاهزة دراساتها، وكذلك الشأن بالنسبة لمطارها الجديد المتأخر استلامه ليعوّض المطارين القديمين الصغيرين لشقي المدينة، وحتى دعم الحكومة الفدرالية تقلّص بفعل الجهود الكبيرة المبذولة لإعادة بناء ألمانيا الشرقية عامة، زيادة للأزمة التي تتعرض لها أوروبا.
متحف وكالة أمن الدولة ”الستازي” سابقا.. 111 كلم من الوثائق مبانٍ ضخمة ومتعددة، توحي عند مدخلها بأنها مقر إداري يجمع عديد المصالح. لكنه مقر مصلحة واحدة هي المصلحة التي ظلّت تراقب تحرّكات سكان ألمانيا الشرقية لحظة بلحظة. إنه مقر وكالة أمن الدولة أو ”الستازي” سابقا، والمبنى المركزي هو ديوان الوزير المكلف بأمن الدولة الألمانية الديمقراطية قبل سقوطها. ولا يكفي يوم واحد لزيارة كل الحي، حسب شروحات مرشدينا داخل المقر، خاصة تلك الزنزانات التي كان يتعالى منها صوت السجناء وهم يتعرضون للتعذيب بسبب تهم تتعلق بأمن الدولة وخيانتها.. وهي في الحقيقة خرافية لا تتعدى نطاق محاولة السفر إلى الخارج أو التنقل إلى برلين الغربية. والصعوبات المالية التي تعيشها برلين تجعلها بحاجة ماسة إلى استغلال هذا الحي في أي مجال يجعلها تقتصد تكاليف إنجاز مبانٍ جديدة. لكن الظاهر أن التاريخ عند الألمان ليس له ثمن، ولذلك حوّلوا مقر ”الستازي” الضخم إلى متحف هو الآخر. وبالإضافة إلى المجسّم الذي يقدم لك صورة عامة عن كل الهياكل الموجودة في المقر وتاريخه، فإن أول قطعة أثرية تجذبك في الطابق الأرضي هي سيارة نقل المساجين المركونة بداخله. وتلك السيارة كافية لوحدها لتكتشف أولى معاناة ضحايا أمن الدولة في ألمانيا الشرقية ومساجين الرأي في أي دولة بوليسية في العالم. سيارة من نوع السيارات النفعية شبيهة بسيارات ”ستافات” الشهيرة عندنا في عهد سابق، عربتها الخلفية ضيقة ومع ذلك لا يخصص للمساجين إلا جزءا منها معزول بحديد مصفح وباب ضخم. ولا يرى السجناء داخل هذه الزنزانة الصغيرة النور سوى من نافذة صغيرة في الخلف، مسيّجة ومقفلة بزجاج مقوى.. وعند الصعود إلى الطابق الأول من المبنى يقابلك أول تمثال لكارل ماركس وتماثيل لشخصيات أخرى فكرية وسياسية ترمز للعهد الاشتراكي في ألمانيا. وفي آخر طابق آخر تجد نفسك داخل مكتب الوزير، الكرسي متوجه نحو المحوّل الهاتفي وكل أثاث المكتب محتفظ به بعناية لم يتغير حتى لونه البني الذي يميل للون العسل. وخلف المكتب توجد شقة الوزير التي تحتفظ هي الأخرى بأثاثها وحمامها، وكأن أحداث سقوط ألمانيا الشرقية لم تمر عليها واقتحام المبنى من قِبل المتظاهرين تم بالورود وبالطرق السلمية.. ثم يصادفك صالون الوزير، أين يجلس ضباط ”الستازي” والجنرالات الأجنبية التي كانت تزور برلين الشرقية ووكالة أمن الدولة هناك. من المؤكد أن ضابطا جزائريا على الأقل جلس على تلك الأرائك وأرشيف ”الستازي” يحتفظ بأسمائهم. مسؤولة المتحف تقول ”إذا منحتموني اسما دقيقا أستطيع أن أجد ملفه”، لكن هذا النوع من الوثائق تحكمه اتفاقات وقّعتها ألمانيا الموحدة مع الحكومات التي كانت تتعامل مع حكومة ألمانيا الشرقية سابقا، ولا يمكن فتح أي ملف خارجي إلا بطلب رسمي ووفقا لشروط عديدة. أما بالنسبة للملفات الداخلية، فالمبنى المقابل لمكتب الوزير يحتوي على 111 كلم من الوثائق زيادة على التسجيلات الصوتية.. المبنى عبارة عن مصلحة أرشيف، ويسير بنظام المكتبات. أي يكفي لأي مواطن أن يقدّم اسمه للموظفين ليبحثوا له عن ملفه ويطّلع على كل كبيرة وصغيرة دوّنها أعوان ”الستازي” ضده في تقارير. مترجمنا مثلا قرأ ملفه ووجد معلومة مفادها أنه كان ينوي السفر مع زوجته وألغى السفرية في آخر لحظة. ويقول المترجم: ”لم يكن أحد يعلم هذا السر إلا صديقي الحميم”.