المشكلة بين الجزائر والمغرب أكبر بكثير من القضية الصحراوية.. مشكلة لها امتدادات عميقة وتراكمات نزاع نظامين، أنتجت مشكلة أخرى هي الأصعب والأخطر، مشكلة “نفسية بالأساس” ترى قنوطها وصل عنق الزجاجة، ما إن تثار مسألة من مسائل الخلاف في الجزائر حتى تتفجر تلقائيا في المغرب وتلقي بشظاياها في الشارع، حيث يبدأ التأجيج هنا تماما كما يرتب له البلاط الملكي دوما، وسجل آخر إنجاز له في قنصلية الجزائربالدار البيضاء في عيد الثورة الجزائرية. لا أحد من المغاربة يجد جوابا لسؤال: إلى متى في نظرك يمكن أن يستمر الخلاف بين الجزائر والمغرب؟ وأصل السؤال ينطلق من اعتقاد لدى المغاربة بأن وضع العلاقات المسمومة بين البلدين غير طبيعي ولا منطقي أصلا، وأن عمر أزمة بدأت عام 1975 نذير شؤم حيال انفراج محتمل للعلاقات غدا، بل إنك تكاد تؤمن بإجابة أحدهم يقول لك إن الحل الوحيد ليعيش البلدان حياتهما الطبيعية في أن يرحل أحدهما عن موقعه، لتبديد واقع جيرة لبلدين تشبه العلاقة بينهما فتاتين من أب واحد ووالدتين مختلفتين، لا تلتقيان إلا في الجنائز. ثلاث آبار لكل جنرال يختزل مغاربة.. هؤلاء الذين تشبعوا بالفكر المخزني، تعريف الجزائر في خمس كلمات “بلد الثلاث آبار لكل جنرال”، لقد بدا جنرالات الجزائر هوسا يستقصون عليه كلما تفجرت زجاجة خلافات تبلغ درجة حرارتها ذروة الحساسية، أو هكذا يعتقد سائق طاكسي يقلك من وسط مدينة الرباط إلى بلدية حسان، وبالضبط إلى شارع طارق بن زياد حيث تتموقع سفارة الجزائر وسط فيلات وتمثيليات دبلوماسية لدول عظمى، وقبالتها مروج خضراء عذراء طبيعتها تسر الناظرين، لكنها لم تكن تسر محدثك وهو يقول لك إن “ما قام به رئيسكم بوتفليقة من تغييرات على مستوى مؤسسة الجيش والمخابرات ليس عملا بطوليا منه، وواهم من يقول إن بوتفليقة قضى على نفوذ العسكر، فهل كان ليتسنى له ذلك بعد خمسين سنة من حكمهم في الجزائر؟”، فعلا لقد تحول ملف “بوتفليقة والجيش” إلى شأن مغربي بامتياز، ملف يتقاذفه الشارع تماما كما أراده البلاط الملكي، كما أن “جنرالات الجزائر” كثيرا ما تحولوا إلى مادة دسمة يتغذى منها صنف معين من المغاربة خارج هؤلاء المغلوبين على أمرهم.. هؤلاء يعتبرون أن “جنرالات الجارة الشرقية نهبوا البلد وأمموا لأنفسهم ولأولادهم آبار البترول، فلا يمكن ألا يكون لكل جنرال ثلاث آبار نفط، وإلا فأين تذهب أموال الجزائريين من هذه النعمة التي أنعمها الله عليهم؟”، يحدثك هذا “الطاكسيور” بسياسة متقنة فيها من المراوغة ما تشتم رائحة ثقافة تشبه ثقافة المراوغة والتوجيه المخزني.. مراوغة يحفظ فيها مداخيل الجزائر من البترول سنويا عن ظهر قلب، كما لا يمكنك أن تستقي معلومات عن بترول بلدك من ابن بلدك”.. لبرهة يملأ تفكيرك أن هذا الرجل يصلح لأن يكون قائدا لحزب سياسي، رجل مسيس للنخاع يبجل جلالة محمد السادس، كلما طعن في مصداقية الرئيس بوتفليقة في بناء أواصر الصداقة والمحبة بين البلدين كما يرد دوما في برقيات الأعياد المغربية،.. لقد أبدى غلا تجاه بوتفليقة يبقي سامعه مشدوها لهذه الشحنة الزائدة من الكراهية.. كراهية بدا أنه يخفي وراءها خيبة تشبه كثيرا خيبة أمل من دبر للاعتداء على القنصلية الجزائرية في الدار البيضاء في عيد الثورة الجزائرية، وتحاكي إلى درجة ما خيبة هذا المدعو حميد النعناع الذي أراد بإنزاله العلم الوطني من أعلى سطح القنصلية أن يتحول إلى بطل قومي في بلاده، فوجد نفسه معزولا ملعونا متخفيا في الدروب الفقيرة في “كازابلانكا”، يسترق تحركاته خوفا من موت يراه أمامه ماثلا، تماما كما رُفع العلم الجزائري فوق القنصلية 20 دقيقة بعد إنزال العلم الأول.. “النعناع” لم تشفع له تسريبات رسمية متعمدة من التحقيقات للإعلام المغربي، تحاول قلب احتجاج جزائري على المغرب إلى احتجاج مغربي على الجزائر في قضية القنصلية ذاتها، حينما أطلقت إشاعة تقول زورا إن النعناع الذي أحالته الشرطة على السجن (قبل إخلاء سبيله) على علاقة بشبكات خارجية معادية للمغرب، وروج المخزن لإمكانية ضلوع “الأجهزة الجزائرية” في أمر الهجوم على مقر قنصليتها العامة بالدار البيضاء؟.. كذبة لا يليق انبعاثها من الرباط آو من الدار البيضاء، حيث “السحر والجمال” يرفضان بطبعهما تدنيس صفاء مكان لا يبتغيه السواح كذلك.. لقد غضب الكثير من الجزائريين في المغرب لحملة “علم في كل بيت” بالجزائر التي تمت عقب الاعتداء على القنصلية في “كازا”، ورأوا فيها “إنزال مستوى” لقضية لا تستحق المجاراة، حتى لو رأوا وهم يتجولون، مكاتب منتشرة في “باب مراكش” وسط الدار البيضاء تحشد مليون توقيع “ضد الشقيقة الجزائر الواشية”.. حملة لم تحقق هدفها، لكنها أمتعت الجمهور بأغانٍ منبعثة من مكبراتها الصوتية.. الخاسر في الحملة فتيان وفتيات قابعون أمام المكاتب أرهقهم تعب، أما الرابح الأكبر فيها فأصحاب المقاهي المجاورة الذين ازدهرت تجارتهم من فرط استقطاب الزبائن. يختزل مغاربة.. هؤلاء الذين تشبعوا بالفكر المخزني، تعريف الجزائر في خمس كلمات “بلد الثلاث آبار لكل جنرال”، لقد بدا جنرالات الجزائر هوسا يستقصون عليه كلما تفجرت زجاجة خلافات تبلغ درجة حرارتها ذروة الحساسية المخزن وبوتفليقة.. الجزائروأمريكا الصدفة وحدها رتبت موقع سفارة الجزائربالرباط قرب السفارة الأمريكية في بلدية حسان، وقليلة هي وسائل النقل المؤدية إليها باعتبار شارع طارق بن زياد دبلوماسيا بالدرجة الأولى. الموقع استراتيجي وجميل، لكنها صدفة “مشؤومة” لما تسقطها على منطق ساد عقول مغاربة أغلبهم “مناضلون مسيسون” يتفوقون على بائعي “الحلزون” في “الزنقات” بكثير من الذكاء. يعتقد هؤلاء كما يروي أحدهم في الطريق من المطار إلى مدينة الدار البيضاء أن “النظام الجزائري وفي مقدمته الرئيس بوتفليقة أفقر الشعب وهوى به إلى الحضيض”، وهو “يقدم خدماته للأمريكان”. طيب وماذا عن محمد السادس؟ نحن نسأل هذه المرة، بينما جاءت الإجابة تعجيزية “أتحداك أن تجد مغربيا لا يحب جلالة الملك”.. بطبيعة الحال، هذا الرجل متيقن أننا سوف لن نسأل المغاربة في الشارع عن رأيهم في جلالته، لأنه يعرف أن ظروف تواجدنا هناك لا تشجعنا على استجواب المغاربة، خاصة إذا تعلق الامر بالملك. ثمة تناغم في الرؤى بين ما يقوله لك المغاربة في الشارع وبين ما تقرؤه في صحفهم بالبنط العريض لما يتعلق الأمر بالجزائر، وعندما تسمع من هذا المواطن الذي أقلنا من المطار إلى وسط مدينة “كازا” أن “بوتفليقة يريد أن يخرب بلاده ويبيعها للأمريكان قبل أن يرحل”، ثم تنزل من سيارته فتتصفح جريدة واجهتها عنوان كبير عن “تواطؤ بين الجزائروواشنطن” ضد المغرب في القضية الصحراوية، تدرك حجم تأثير وسائط المخزن السياسية والإعلامية في عموم الناس في هذا البلد، فالرسالة بين المخزن والشعب ليس أمامها حجاب.. شعب تذكره دائما سلطته بحدوده الجغرافية المضاف إليها الصحراء الغربية، هناك في “زنقة الجزائر” وفي شارع “باب مراكش” قبالة سكة “الترامواي”، تتوزع خرائط مغربية على أسوار وحيطان تذكر الناس بترابهم. ولما تذكر أمريكا في المغرب،هذه الأيام،ينساب وراء الحديث عنها،ما تسميه بعض الصحف “المؤامرة الجزائريةالأمريكية”.. يقول نص المؤامرة كما يعتقد المهووسون “إن الجزائر سمحت للشركات الأمريكية بمضاعفة استغلال آبار النفط في الصحراء على حساب الشركات البريطانية والفرنسية، مقابل أن تساير واشنطن الرؤية الجزائرية بخصوص القضية الصحراوية”، هذا الاعتقاد ساد كثيرا خلال تواجدنا هناك، وتأجج أكثر بمجرد السماع أن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري سيزور الجزائر قريبا.. لكن أياما قليلة بعد ذلك نزل خبر تأجيل كيري زيارته بردا وسلاما على من يريدون قطع ما يسميه المغاربة المخزنيون التقارب بين الجزائروواشنطن، ثم ما كاد يُخرِج هؤلاء من ديارهم فرحا وسرورا “الإنجاز العظيم” الذي حققه الملك محمد السادس، بقبول واشنطن زيارته الولاياتالمتحدةالأمريكية يوم 22 نوفمبر. بينما هللت الصحافة المخزنية بالخبر السعيد من قبيل عنوان افتتاحي طويل وعريض “زيارة محمد السادس الى واشنطن تهز أركان النظام الجزائري”. خيبة هذا المدعو حميد النعناع الذي أراد بإنزاله العلم الوطني من أعلى سطح القنصلية أن يتحول إلى بطل قومي في بلاده، فوجد نفسه معزولا ملعونا متخفيا في الدروب الفقيرة في “كازابلانكا”، يسترق تحركاته خوفا من موت يراه أمامه ماثلا “الله يداوي لحوال” مهما يكن فالأشقاء في المغرب طيبون، وكثير منهم يردد عبارة “الله يداوي لحوال” لما تسألهم عن النزاع الجزائري المغربي، وفيما يتصل بهذا الملف، يملي عليك الواقع تصنيف الأشقاء إلى ثلاثة: مخزنيين رهن إشارة البلاط لهم خط تفكير واحد “كاري”، ومناضلين سياسيين منهم المتهجمون ومنهم المعتدلون، يناقشونك إن شئت النقاش، وطبقة كادحة من مواطنين ما أكرمهم وما أطيبهم. وعندما تتحدث إلى مغاربة بفكرة مسبقة عن خلاف جزائري مغربي حول “الصحراء الغربية” لا يوفونك حقك من الحديث في هذا الملف (الصحراء الغربية) على نحو تعتقد أن القضية ليست قضيتهم المحورية مع الجزائر.. قضية لا تتساوى أبدا مع قضية الحدود.. لقد تحول حلم فتح الحدود بين البلدين إلى هاجس خلفيته ضيق واختناق في المعيشة، يخبرك مغربي بالكثير من الأسى أنه يود لو يزور الجزائر برا قبل أن يموت، ولا يمكنك أن تتحدث إلى أحدهم دونما رجاء بفتح مبين، كهذا الذي يقول لك بتهكم “افتحوا أمامنا الحدود يا سيدي ولا تسمحوا بعبور محمد السادس إذا كانت المشكلة قائمة فعلا مع المخزن”، ولما تسمع من عجوز داخل ضريح “سيدي عبد الرحمن” المتاخم للشاطئ عبر المحيط الأطلسي وبالضبط على الكورنيش الموصل الى مسجد الحسن مكاتب منتشرة في “باب مراكش” وسط الدار البيضاء تحشد مليون توقيع “ضد الشقيقة الجزائر الواشية”.. حملة لم تحقق هدفها، لكنها أمتعت الجمهور بأغانٍ منبعثة من مكبراتها الصوتية.. الخاسر في الحملة فتيان وفتيات قابعون أمام المكاتب أرهقهم تعب، أما الرابح الأكبر فيها فأصحاب المقاهي المجاورة الذين ازدهرت تجارتهم من فرط استقطاب الزبائن الثاني الشهير، بأنها تود لو قبلت الجزائر فتح حدودها البرية، تعي حجم ألام يبتغيها قطاع واسع من “الأشقاء” أن تتحول إلى آمال قابلة للتحقيق، آمال معلقة على قرار من بوتفليقة لا يأخذ من وقته سوى دقائق.. هكذا ببساطة يرى المغاربة المسألة خارج نمطية نزاع نظامين، يعتبر الأشقاء أنه مفتعل لإلهاء شعبيهما.. هي رؤية ونظرة منتشرة وسط المعتدلين من أهل “كازا” الذين يعتبرون حميد النعناع نذير شؤم أغضب الجزائريين بفعلته المشينة على نحو جعل موقفهم من فتح الحدود أكثر تشددا. في عيون بعض المغاربة البراغماتيين: فتح الحدود أولى من التمسك بالصحراء الغربية، يقول سائق طاكسي في الطريق من “عين دياب” إلى “باب مراكش” عبر الكورنيش الجميل، “لو كان الأمر بيدي لتركت الصحراء لهؤلاء الشرذمة -يقصد البوليساريو-، وأدعهم يموتون فيها”. هكذا موقف يتكرر كثيرا هنا، بينما تسوقك المفارقة إلى مغاربة فيهم من يتهجم على الجزائر، لكنه لما حين يبدأ بترديد “من جبالنا طلع صوت الأحرار ينادينا” لا تجد ما ترد به عليه، بل إن أغلب من التقينا بهم وعرفوا بأننا جزائريون، استبقوا السلام ب “من جبالنا”. يقول نص المؤامرة كما يعتقد المهووسون “إن الجزائر سمحت للشركات الأمريكية بمضاعفة استغلال آبار النفط في الصحراء على حساب الشركات البريطانية والفرنسية، مقابل أن تساير واشنطن الرؤية الجزائرية بخصوص القضية الصحراوية” .. حقرونا.. لقد دفع رد الفعل الجزائري حيال حادثة قنصلية “كازا“ الإعلام المغربي إلى النبش في أرشيف الحدود، طبعا هم ضد القانون الدولي الذي يقول إن الحدود هي تلك الموروثة عن العهد الاستعماري، وعاد هؤلاء إلى “الدولة الموسعة” التي تضم حسبهم الصحراء الجزائرية إلى المغرب قديما، وصولا إلى محاولة شرعنة تبعية تندوف وبشار للمغرب بعد خروج فرنسا، ويعلل جزء من المخزنيين ما يرونه حقا لهم باللقاء الذي جمع كلا من الملك الحسن الثاني والرئيس الجزائري أحمد بن بلة والرئيس التونسي بورقيبة والرئيس المصري جمال عبد الناصر في مارس 63، يقال إن عبد الناصر طلب من بن بلة الوفاء بوعده بإعادة ترسيم الحدود وضم تندوف وبشار للمغرب.. لقد حاول عبد الناصر تذكير الجزائريين بفضل بلاده على استقلال الجزائر تماما كما ذكر الملك الراحل الحسن الثاني بدور المغرب إبان الثورة الجزائرية، من أجل افتكاك قرار من بن بلة يعيد للمغاربة ما يصفونه بأقاليمهم. الاجتماع علق عليه لاحقا العقيد الطاهر الزبيري الذي نفذ الانقلاب على بن بلة عام 65 بالقول “لم نكن دولة آنذاك، وقلنا أيعقل أن تتفاوض دولة مستقلة (المغرب) آنذاك ودولة لم يكتمل استقلالها (الجزائر)؟.. نتج عن الخلاف حرب رمال.. قال بومدين قولته الشهيرة “لا نقبل بحبة رمل تخرج من حدودنا المسقية بدماء الشهداء”، وقال بن بلة “حقرونا”، هي الكلمة التي أثارت الرئيس الكوبي فيدال كاسترو، فأرسل إلى بن بلة سربا من الطائرات العسكرية، غير أن الراحل بومدين وزير الدفاع لم يستعملها ضد المغاربة. على هذا النحو، لم تكن القضية الصحراوية يوما جوهرَ خلاف جزائري مغربي عمره 38 سنة كاملة، و38 سنة في عيون “م. محمد” وهو رئيس تحرير إحدى الصحف المغربية بالرباط، لا يقدر حجمها مجرد منطوق لسان. يقول محمد ل “الخبر” إن “المشكلة في النظامين، كل منهما يلهي شعبه بأزمات مفتعلة، لا الشعب الجزائري يبتغي سوءا للشعب المغربي ولا المغاربة يريدون السوء للجزائريين”، لكنه يبدي تشاؤما حيال انفراج العلاقات بين البلدين غدا “لو أن هناك من آمال لحل هذه الأزمات لتم حلها.. 38 سنة.. بركات”. الصداع يأتي مواسم حديث محمد يقود إلى ظاهرة التوجه رأسا إلى الشعوب في خطابات قادة دول المغرب العربي، خطابات أنتجت مصطلح “مغرب الشعوب” لما عجز الساسة على التوحد في فضاء الاتحاد المغاربي سياسيا، لكن “مغرب الشعوب” مصطلح كذلك يثير الريبة على الأقل في نظر دبلوماسي تحدث ل “الخبر” على أن “توجه مسؤولين مغاربة إلى الشعب الجزائري أكثر من الحكومة أو السلطة في خطاباتهم، له معانٍ عميقة محشوة بنزعة “مؤامرة” تستهدف سلخ السلطة عن شعبها وخلق فجوة بينهما، والهدف واضح يمكنك أن تستقيه من ثورات ما يسمى بالربيع العربي”. ما أصعب أن تطأ أقدامك بلدا ليس بلدك، وتسقط في فخ “مقارنة” لا تريد أن تنساق إليها، لكنها تدق تفكيرك عنوة فتسوقك وأنت في الدار البيضاء إلى مركز تجاري كبير، طويل وعريض اسمه “مروك مول”، يتوسطه ضريحٌ هو ثالث المعالم الكبرى في امتداد الكورنيش الذي يبدأ بمسجد الحسن الثاني مرورا بضريح سيدي عبد الرحمن، وصولا إلى “المول”، وإذا أضفت لهذه المعالم قصر الملك عبد الله السعودي، فستجد نفسك في مربع يلزمك أسبوعا كاملا لزيارته كاملا بحيثياته، ومخطئ أنت إذا دخلت مركز “مروك مول” دون ساعة في يدك، لأن هذا الأخير سرعان ما يسطو على وقتك، ويجرجرك بإرادتك وأنت “فرحان” لتجول أركانه، فتجد نفسك قضيت يوما كاملا بداخله دون إحساس، لكن إحساسا يتملكك -حيث الألبسة الأوروبية تستلب هواتها- بأنك في بلد أوروبي، فحتى رواده من فئة خاصة تشبه تلك الفئة التي تراها مساء كل يوم ترتاد فنادق الكورنيش لتحيي ليالي السهر والسمر في أفخمها.. فنادق تصطف في سلسلة طويلة، تعانق خلفياتها شواطئ محيط الأطلسي، كم هي مخيفة أمواجها شتاءً. لقد تحول حلم فتح الحدود إلى هاجس خلفيته ضيق واختناق في المعيشة، يخبرك مغربي بالكثير من أسى أنه يود لو يزور الجزائر برا قبل أن يموت، ولا يمكنك أن تتحدث إلى أحدهم دونما رجاء بفتح مبين، كهذا الذي يقول لك بتهكم “افتحوا أمامنا الحدود يا سيدي ولا تسمحوا بعبور محمد السادس إذا كانت المشكلة قائمة فعلا مع المخزن” “اون فا دونسي” المقارنة، هاجس يطاردك كلما زرت بلدا، تقول في نفسك أصحيح لدينا مركز تجاري في باب الزوار.. ها هم الأشقاء يضربون مساحته أرباعا رغم أنهم لم ينعموا بالبترول، لبرهة تستحضر حديث ذلك المغربي في أول يوم جئت إلى هنا، قال “انتم لكم البترول، تأكلونه بالراحة، أما نحن فلنا الفلاحة، نأكلها بالكد وبالذراع”، لكن المعني لم يكن يتحدث عن كل المغاربة، فهؤلاء الذين يركنون “البورش” و “البيام” و “الأودي” بصيحاتها الحديثة في مواقف الفنادق الفخمة، لا يظهر عليهم أنهم “يأكلوها بالذراع وبالكد”، هنا فقط في “عين دياب” تظهر طبقية لعينة تسوق صاحب البورش مع فتاة أو مجموعة فتيات للسهر إلى الثالثة صباحا، وتسوق أطياف ما تحت عتبة الفقر إلى شوارع باب مراكش وزنقة الجزائر وإلى “عين دياب” كذلك، يتصيدون أصحاب البورش لمسح أحذيتهم، وزجاج سياراتهم.. قبل أن يحيوا هؤلاء لياليهم بأشياء أخرى، على صيحات “أون فا دونسي” للشاب خالد، و “بلادي هي الجزائر” للشاب مامي.. مغنيا الراي الجزائريان يصنعان الفرجة على نمط معيشة “كبار القوم”، زادهم خالد خدمة جليلة بتوسمه الجنسية المغربية. لقد صار مغربيا كما يشعر أصحاب الملاهي والصالونات وحتى المقاهي، فهم إن وضعوا قرصا لخالد موضعه في الجهاز، تركوه ونسوه، تماما كما لم ينس خالد نفسُه من أوصاه أنه عندنا يسألك الغاضبون من الجزائريين عن سر “ردتك” أن تجيبهم: “أنا جزائري وتوسمت الجنسية المغربية، وغدا أتوسم التونسية وبعد غد الموريتانية، ذلك لتحقيق هدف واحد، هو أن أتحول إلى اتحاد مغاربي يمشي على قدمين، بعدما يئسنا من خطابات جوفاء لساسة المغرب العربي بتوحيد الشعوب المغاربية”. نتج عن الخلاف حرب رمال.. قال بومدين قولته الشهيرة “لا نقبل بحبة رمل تخرج من حدودنا المسقية بدماء الشهداء”، وقال بن بلة “حقرونا”، هي الكلمة التي أثارت الرئيس الكوبي فيدال كاسترو، فأرسل إلى بن بلة سربا من الطائرات العسكرية، غير أن الراحل بومدين وزير الدفاع لم يستعملها ضد المغاربة المغرب العميقة بين الدار البيضاءوالرباط مسافة ساعتين بالقطار، يمكنك من خلالها استنباط نظرة عن حال المغاربة من زجاج القطار.. “المغرب العميق” مقابل “الجزائر العميقة”، وحال السكان عبر هذا الشريط السككي، لا يختلف كثيرا عن حال الجزائر العميقة، لكن الاختلاف يكمن في أن الجزائر توزع السكن على أبنائها، لكن هذا لا محل له من الإعراب في المغرب، حتى إن حدثك المغربي عن وجهة آلاف من الشقق توزع في “بلادكم” والأزمة لازالت قائمة، طبعا لا تجد ما ترد به عليه. وعلى طول هذا المسلك، تتناثر بيوت القصدير يمينا وشمالا تحاكي مروجا خضراء، وحقول الخضر تمتد مد البصر، ولبرهة تتذكر ذلك الحديث الذي قال فيه صاحبه إن “المغاربة ياكلون بذراعهم”، حتى وإن تقيأ سائق تاكسي في الطريق إلى مسجد الحسن الثاني الجميل غضبَه، ليقول إن قطاعا واسعا من المغاربة “لا يعملون” ويريدونها “لقمة سائغة مثل الجزائريين على ما أعتقد.. لكن جزءا من هذه النظرة يسقط بمجرد وصولك إلى سوق “درب السلطان” الشعبي، حيث العربات الكبيرة المقلة للسلع لا يدفعها “ناقص ذراع”.. وهنا ترى المغرب العميقة ماثلة أمامك، الرجال كما النساء يبيعون ويشترون، وكي تصل إلى هناك تدفع ستة دراهم لتركب سيارة أجرة تجد نفسك فيها، مع ستة أشخاص (راكبان في الأمام بجنب السائق، وفي الخلف أربعة).. لتقصد شارعا اسمه “شارع محمد السادس”. بن شيخة جزائري.. لكن “معليش” يقدر عدد الصالونات والمقاهي في “كازا” بالآلاف، كما أنه لا يوجد صالون غير مزود بشاشة عملاقة يريدها شباب “كازا” رياضية بامتياز، وتجد المغاربة متيمين كحال الجزائريين ب “كلاسيكو البارصا والريال”، حينما يحولون ليل المدينة إلى نهار، فهي أصلا لا تنام، كما اعتقد ذلك الجزائري الذي سأل سائق أجرة في أي ساعة توقفون العمل مساءً، فضحك ورد عليه “نحن لا نتوقف عن العمل خويا الدزيري”.. أصحاب الملاهي كما الصالونات والمقاهي لهم هم أيضا مآرب من الشاشات العملاقة، فهي وحدها من يرفع مداخيل اليوم الواحد أضعافا مضاعفة من عشاق الكلاسيكو.. والحق أن النظافة في الرباط كما في الدار البيضاء، صارت دستورا غير قابل للخرق، نظافة يوازيها صفاء النفس لمغاربة، تخيل أن يأتيك أحدهم وأنت شارد تبحث عن طريق إلى مكان تقصده، يأتيك من حيث لا تشعر سائلا “عم تبحث؟” تسأله عن مقصدك فيوجهك توجيها مضبوطا لا لبس فيه، ويأخذ معك كل وقته وفي الأخير يقول لك “سامحني شديتك معايا”.. عملية “الشد” طالت مدرب المنتخب الوطني السابق عبد الحق بن شيخة الذي “يشده” مسؤولو فريق الحسن جديدي بيد من حديد.. وتحول بن شيخة إلى مدرب نجم في بلدة هذا الفريق الذي يُمتحن ومعه بن شيخة اليوم الاثنين، عندما يواجه الرجاء البيضاوي في نهائي كأس عرش الملك، بينما الآمال معلقة على المدرب بإهداء تشكيلته أول لقب في تاريخه، ويتداول في الشارع المغربي أن بن شيخة الذي خسر مباراة المنتخب الوطني ضد الأسود خلال تصفيات أمم إفريقيا 2012 (0-4) ليغادر السباق الإفريقي، مرشح لقيادة الأسود هذه المرة.. فماذا لو رتب القدر مباراة بين الجزائر والمغرب فتعاد الكرة عكسيا، وعبد الحق مدرب للمغرب؟ لا يتمنى لا المغاربة ولا الجزائريون أن تقام مباراة بين المنتخبين في هكذا أجواء مشحونة، تراها تغلي أمامك وأنت في الرباط تتصفح الجرائد المغربية، فهي لو رُتبت فالغالب فيها يغلبُ نظامُه.. لذلك فالمنازلات الرياضية كثيرا ما صنعت الفارق بين البلدين في المخيال الاجتماعي لكلا الشعبين.. بسطة وراحة في الجزائر إن تغلب المنتخب الوطني، والعكس يحدث هناك، وبسطة وراحة في المغرب لو تغلب الفريق المغربي، والعكس يحدث هنا، والرابح كما الخاسر في المباراة، هما نظامان يبحثان عن عناصر فرح لشعبيهما يعوضان به يوميات البؤس. بلدان متنازعان، وصداع النزاع يأتي هكذا في مواسم ليست كمواسم ربيع عربي يريده قطاع واسع من المغاربة ربيعا جزائريا مغربيا، لا يتعكر بمجرد وخزة تصريح ناري يلوث خط الجزائر-الرباط. حينها فقط تستطيع أن تضع “نعناعة” على أذنك وتزور “كازا” فتغطسها في أعماق كأس شاي منعش في صالون راقٍ على كورنيشٍ.. لا يتشرف طبعا بدخوله “حميد النعناع”.