كانت أمريكا والى الأمس القريب هي الشيطان الأكبر بالنسبة لإيران، أو الجمهورية الإسلامية الإيرانية، هذا ما كانت تسوّقه الجمهورية الإسلامية كمفهوم ومعتقد ووصف وجدته لائقا وأقرب لحال وحقيقة الولاياتالمتحدةالأمريكية، لنواياها السياسية والإستراتيجية الدنيئة، حسبها، خاصة اتجاه العالم الإسلامي، وكانت ترى إيران في هذا الوصف رسالة إنذار وتحذير، بل وفتوى ”تكفير” أصدرته إلى العالم الإسلامي وجب أخذه بعين الاعتبار لمن أراد أو يريد التعامل مع أمريكا. لقد جعلت إيران من هذا الوصف أو الشعار التعريف الحقيقي لحقيقة الولاياتالمتحدةالأمريكية التي يجب كشفها، وكان ذلك طبعا منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران والمشروع الخميني، ومنذ ذلك الوقت ظلّت الجمهورية الإسلامية الإيرانية تنعت أمريكا بهذا النعت، ”الشيطان الأكبر”، أي أن أمريكا أكبر بكثير من ذلك الشيطان الفعلي والحقيقي الذي تتحدث عنه الأديان، وحذرت منه ونصحت وشددت بعدم الرضوخ له أو تجنبه على الأقل كأضعف الإيمان . هذا ما كانت تراه وتعتبره الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بل وتؤمن به، إيمانا ومعتقدا دينيا تلتزم به إزاء الولاياتالمتحدةالأمريكية، وقد جاءت فتاوى عديدة بهذا النحو أصدرها علماء دين من داخل الجمهورية الإسلامية الإيرانية، منهم الراحل الخميني نفسه وإن لم يكن عالم دين في الأصل، تماما كما كانت ولازالت الجمهورية الإسلامية الإيرانية ترى في نفسها أنها هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي تنهي عن المنكر وتأمر بالمعروف، وظل هذا الاعتقاد قائما وسائدا لعدة عقود من الزمن، بزمن الخلافات الظاهرية الحادة التي كانت تسود العلاقات بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكانت تلك الخلافات تصل إلى حدّتها، ولتلك الأسباب، وما كان يظهر من خلاف شديد بين البلدين، خلاف وصل في بعض الأحيان إلى التهديد والوعيد. ونظرا للرؤى والمعتقد والفكر الخميني الإيراني الذي ألفناه وعرفناه عن حكام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، خاصة من أتباع الخميني، جعلنا كل ذلك لا نفكر في أي لحظة من اللحظات أن تنتهي فجأة وتزول كل تلك الغشاوة والمعتقدات والمفاهيم ومعها حتى الضغائن، خاصة التي كانت تكنّها الجمهورية الإسلامية الإيرانية للولايات المتحدةالأمريكية أو ”الشيطان الأكبر” بكل هذه السهولة وتنفتح فجأة الجمهورية الإسلامية على الولايات الشيطانية، لا بل تكشف لها عن مفاتنها التي كانت تضع عليها خطا أحمر، وهي المنشآت النووية لتجلس الجمهورية الإسلامية مع الولاياتالمتحدة الشيطانية على طاولة المفاوضات، مستفيدة من مفاتنها التي أرادت كشفها أمام الولاياتالمتحدة الشيطانية، لكن مقابل ماذا، لأن المفاوضات على الطاولات تكون بمقابل؟ والمقابل بالنسبة للجمهورية الإسلامية صنعته ظروف داخلية وخارجية نقرأها فيما يلي : - أدركت الجمهورية الإسلامية تماما أنه أصبح بين يديها ولديها مفاتن جعلتها تشدّ الانتباه، وتلك المفاتن صنعت منها ملفا تاما لا يمكن رفضه في حال رغبت وعرضت التفاوض عليه وكشفه للشيطان الأكبر، بعد أن وجدت نفسها مرغمة على عقد الصلح مع الشيطان الأكبر من أجل تفادي نهايتها التي أصبحت وشيكة لأسباب ودوافع منها: - الوضع الاجتماعي الداخلي المتأزم بسبب تردي الأوضاع الاجتماعية بسبب العزلة الدولية والإقليمية التي فرضت على إيران، زادتها العقوبات المفروضة عليها بسبب مواقفها العدائية وتصنيفها كدولة مارقة، كما تكون إيران قد استفادت من التجربة العراقية، من مراحل الحصار الذي فرض عليه، وأين وصل به الحال في آخر المطاف. - كان لما يسمى الربيع العربي وقع كبير في نفسية الشارع أو المواطن الإيراني، ذلك ما أدركته إيران وفهمته جيدا واقتنعت على أنه أصبح نموذجا للحل الوحيد لكسر حاجز الخوف والانتفاضة ضد أي حكم مستبد لا يستثنيها ولا يستثني مواطنيها. - فهمت الجمهورية الإسلامية أن الشيطان الأكبر، أو الولاياتالمتحدة الشيطانية وحدها تتفرد وتتحكّم في العالم أصبح من الضروري فتح الجسور معها وكسب ودّها بأي طريقة. - الظهور القوي لقضية الأحواز العربية التي تحتلها الجمهورية الإسلامية منذ سنة 1925، وبدأت تظهر إلى العلن بفضل وسائل الإعلام، كشفتها الممارسات القمعية التي تتعامل بها إيران معها، وتزايد تنفيذ عمليات الإعدام شنقا في حق المواطنين الأحوازيين بتزايد الاحتجاجات، وزيادة على ذلك هناك خوف وقلق انتاب إيران بسبب بروز قضية أخرى وهي قضية الأكراد في عدة من دول الجوار، ومطالبتهم بإقامة دولة خاصة بهم، وهذا ما حدث فعلا في سوريا التي تحتوي على نسبة لا بأس بها من الأقليات الكردية، غير ذلك هناك أيضا توجه نحو إبراز وإثارة الكثير من القضايا والملفات الخاصة بالأقليات، سواء المطالبة بالانفصال أو الحكم الذاتي أو التي تعاني الاضطهاد، وتحوز عدة منظمات لحقوق الإنسان على ملفات لتقارير ثقيلة وشائكة بهذا الخصوص، والجمهورية الإسلامية الإيرانية ليس بمنأى عن هذا، نظرا لممارساتها القمعية في حق الأقليات خاصة الكردية والعربية، وعدة مذاهب وأديان تئن داخل إيران، وتحتوي إيران حوالي 40% من الأقليات غير الفارسية، حيث إن الأكراد وحدهم يقدرون بحوالي 6 مليون نسمة ناهيك عن الأقليات الأخرى، وتفهم إيران جيدا أن كل هذه الملفات والقضايا تحركها وهي بيد الشيطان الأكبر . - العزلة الشديدة الأخيرة التي فرضت على إيران، خاصة من دول الجوار لاسيما دول الخليج، ما دفع بها إلى التوجه إلى باكستان والهند، حيث أجبرت على تبادل تجاري مع تلك الدول بالمقايضة فقط، بسبب الحصار المفروض عليها، وجدت نفسها في كل الأحوال هي الخاسر الأكبر. - القرار الأخير بإدراج حزب اللّه اللبناني اليد الضاربة لإيران خارج حدودها على قائمة المنظمات الإرهابية بعد تورطه في أحداث القتل بسوريا، وهو ما أدانته إيران بشدة، وتسعى إيران من وراء كل ذلك إلى إنقاذ حزب اللّه وإنقاد النظام السوري آخر ما تبقى لها في الجوار، لذلك هي تريد أن تتنازل عن الكثير مقابل إبقاء النظام السوري بجوارها وحزب اللّه رهن إشارتها، ولو تطلّب منها ذلك الكشف عن مفاتنها وهو الذي حصل فعلا، كما تعتقد أنها بذلك ستكون لها كلمة فاصلة في الأزمة السورية، انطلاقا من مؤتمر جنيف والمفاوضات الجارية التي ستعمل إيران على إطالتها وستجرّ المفاوضات إلى أبعد الحدود، حتى يتسنى لها تسوية كل الملفات سيكون أولها الملف السوري وحزب اللّه ثم النووي . عندما تريد دولة تغيير سياستها أو توجهاتها لا تقوم بذلك الفعل فجأة بل تنتظر المناسبات ”المناسبة”، تماما كما تلجأ إليه الكثير من الشخصيات بل وحتى الأشخاص في حياتهم العادية إلى ذلك، أقول ذلك لأن الجمهورية الإسلامية الإيرانية قبل أن تقوم بهذا التحول كانت تعيش حالة من القلق الشديد في عهد الرئيس السابق أحمدي نجاد، وكانت ترتب لهذا التغيير، أي أنها كانت ترغب في هذا التغيير والتحول منذ زمن، فمن السذاجة أن نعتقد أنه تغير أو تحول جاء فجأة، ومن السذاجة أيضا أن نعتقد أن الرئيس روحاني هاتف الرئيس الأمريكي دون علم. لقد انتظرت إيران حتى رحيل أحمدي نجاد وقدوم الرئيس الجديد الإصلاحي حسن روحاني، وسينسب ويكتب هذا التقارب والتحول في سجل الرئيس روحاني وعهده طبعا. لقد كانت إيران تتابع وتتوجس من كل أحداث ما يسمى الربيع العربي، وتابعت كيف أن الدول العظمى ساندت وأخرى دعمت المحتجين والمعارضين وصرفت أموالا ضخمة للإطاحة بأنظمة كانت قائمة، وخلصت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بذلك إلى أن ”الشيطان الأكبر” أصبح له كذا وسيلة لإسقاط الأنظمة سواء بقوة السلاح والعملاء كما حدث مع الراحل صدام حسين، أو عن طريق الشعوب وتغذية الثورات كما حصل مع الكثير من الرؤساء العرب، مثل القذافي وحسني مبارك وبن علي وعلي عبد اللّه صالح، وهي وسائل أقوى من سلاحها النووي وهي المفاتيح التي كشفت عن مفاتن الجمهورية الإسلامية الإيرانية.