طرح الصحفي الفرنسي “إكزافي دو لا بورت” يوم 9 ديسمبر من السنة الماضية، على مستمعي برنامج إذاعة فرنسا الثقافية السؤال التالي: هل للتقنية أخلاق؟ ولم تكن في نيته قدح التكنولوجيا ولا تذكيرنا بفاجعة هيروشيما وناغازاكي، ولا تقييم قضية “وكيليكس” أخلاقيا، ولا البحث عن الأبعاد غير الأخلاقية في تجسس الوكالة الوطنية للأمن الأمريكي على حلفاء الولاياتالمتحدةالأمريكية في أوربا وبقية دول العالم. ولا يريد للإجابة عن سؤاله أن تجلب الماء إلى طاحونة “بريس شنير”، خبير الأمن المعلوماتي، الذي أكد أن التقنية الحديثة زادت من منسوب ريبة الدول وشكوكها. فالهجوم الإلكتروني لم يعد حكرا على الصينيين. فالكل يتجسس على الكل عبر الشبكات. وهكذا غدت الولاياتالمتحدة قلقة من العتاد الإلكتروني الصيني، وأوروا مرتابة من الترسانة التكنولوجية الأمريكية. والكل غير مطمئن من العتاد الإلكتروني الإسرائيلي. وشرعت روسيا والصين في تطوير كفاءاتهما في البرمجيات ونظم استغلال المعلوماتية لدرء شر التجسس الإلكتروني على منشأتهما الاستراتيجية، والحد من أضرار التبعية للتكنولوجيا الغربية. لقد أراد طارح السؤال أعلاه أن يحثنا على التفكير في البعد الأخلاقي لتعاطينا اليومي مع تكنولوجية التواصل، مثل القذف والشتم وتداول الصور الخليعة والإباحية وانتحال شخصية الغير، واستخدام صوره دون علمه لأغراض متعددة، منها المشبوهة مع الأسف. قد يقول قائل إن هذه الممارسات غير الأخلاقية ليست وليدة التكنولوجية الحديثة. وكل ما فعلته هذه الأخيرة أنها جعلتها مرئية أكثر، بيد أن “إكزافي دو لا بورت” يرى أن الأمر يتعدى هذا الحد لأن التكنولوجية الحديثة وضعتنا أمام مسؤوليات أخلاقية جديدة. ففي السابق كان الشخص الذي لا يرد على رسائل البريد الذي يصله من المعارف والأصدقاء، يتحجج بالقول أنها ضاعت في الطريق ولم تصله. ولهذا الغرض اخترع نظام “رسائل البريد المسجل”. لكن ماذا بوسعه أن يقول اليوم إذا تلقى رسالة عبر الفايسبوك؟ هل من الأخلاق أن يقول أنه لم يستلمها بينما الكل يعلم أن موقع الفايسبوك لا يشعر المرسل باستلام المعني رسالته فحسب، بل يخبره، أيضا، عن الوقت بالساعة والدقيقة التي اطلع عليها! والشخص الذي كان يتعلل بغيابه عن البيت عندما يرفض الرد على مكالمة صديقه أو زميله على هاتفه الثابت، ما عساه أن يقول اليوم لتبرير رفضه عن الرد على مكالمة الشخص ذاته على الهاتف المتحرك إذا ألح في طلبه أكثر من مرة، وفي أوقات مختلفة؟ وهل من الأخلاق أن نحمّل الأفلام والموسيقى والغناء والكتب بطرق غير مشروعة من شبكة الانترنت بحجة الحق في المعرفة والثقافة؟ وهل من الأخلاق أن نبتز الغير عبر شبكة الانترنت بالصور؟ وهل من الأخلاق أن يتاجر البعض بالمعلومات المتعلقة بشخصك دون علمك؟ لعل الإجابة عن هذه الأسئلة هي التي دفعت عالم الاجتماع “نيكولا أوري” للقول أن التكنولوجية الرقمية لم تحدث تغيرات على الصعيد السياسي فحسب، بل على الصعيد الأخلاقي أيضا. إن مفهوم الشبكات الرقمية أعاد النظر في بعض القيم الاجتماعية والأخلاقية، فمحى التراتيبية التي كانت تنظم العلاقات بين الناس والقائمة على السن والنسب والمكانة الاجتماعية. وشجع التخفي، فأصبح البعض يحدّثونك عبر الهاتف بأرقام مخفية أو يراسلونك عبر الانترنت بأسماء مستعارة. لقد أرست الشبكات أسس استبداد ثقافة الشفافية التي منحت شرعية لعملية التلصص. بل تكاد تلغي فعل “تلصص” من القاموس. ليس هذا فحسب، بل إن التكنولوجية الرقمية طرحت مفارقة كبرى يمكن أن نلخصها في الأسئلة التالية: كيف يمكن حماية الحياة الشخصية للأفراد ونلح، في الوقت ذاته، على تشديد القوانين لمحاربة الجريمة المنظمة أو استغلال الأطفال جنسيا؟ كيف يمكن أن نضمن الحماية لخصوصية الأشخاص ونمارس في الوقت ذاته، التجسس الإلكتروني عليهم؟ ألا يعيدنا هذا السؤال إلى الموضوع الذي يغيظ، ألا وهو موضوع التجسس الذي أراد الصحافي المذكور تجنبه. لكن ماذا لو اكتشفنا أن التكنولوجية أداة، ومسؤوليتها محدودة في العبث بالأخلاق مقارنة بمن يستخدمها، أي البشر؟ الكل يعلم أن العالم يعيش جوا من المنافسة المحمومة. والتكنولوجيا تعد موضوعها وأداتها في ذات الوقت. لذا يجب أن نتذكر أن المنافسة تقدم أفضل السلع والخدمات لكنها تكشف ما هو أسوأ في الإنسان.