عندما كان بومدين يشرف على عمليات التحرير ويقود هيئة أركان جيش التحرير زار ديغول الجزائر خمس مرات خلال السنتين الأخيرتين من الثورة، وكأنه أراد أن يمتّع نفسه ويشبع روحه في رؤية لؤلؤة المتوسط، الجزائر البيضاء، لأن ذلك الحاكم القادم لجزائر الاستقلال قد يكون بومدين الذي لا يريد أن يراه وكان يردّ في بداية تلك الجولات بأن ”الجزائر فرنسية”! لكن لهيب الثورة وعظمة شعبها أجبراه في الأخير على الاعتراف بالاستقلال، وقد مات ديغول وفي قلبه غصّة عن ضياع مفتاح بوابة إفريقيا المتوسطية، ولا ندري هل كان ديغول فعلا مقتنعا بأن ”الجزائر للجزائريين”. وجاء بعده جورج بومبيدو، وكانت الجزائر بقيادة بومدين قد بلغت درجة هامة من النضج والقوة والوعي بالمسؤولية، تمثلت في المواقف الصلبة التي اتخذها ضد فرنسا ومخلّفاتها في الجزائر.. فتأزّمت العلاقات إلى درجة التهديد بقطعها، وحاول الرئيس بومبيدو ترتيب الأوضاع من جديد بالسعي لإعادة ترميم وتمتين خيوط التواصل التاريخي بين فرنسا التي كان يعتبرها ”الأم”، والجزائر التي لا يرى فيها إلا أنها ”الولد المتمرد على الأم”، لكن الموت فاجأه، فمات دون أن يرى تلك الجوهرة الجزائر ”الفرنسية” الضائعة كما يقول عنها الكولونياليون الفرنسيون. وجاء جسكار ديستان بعده إلى رئاسة فرنسا سنة 1974، حاملا في نفسه رواسب مثقلة من غيض عن ضياع الجزائر التي لم يرها منذ سنة 1960، عندما كان كاتبا للجالية، ذلك الفضاء الواسع الذي يمتد إلى الضفة الأخرى من المتوسط.. إلى قارة إفريقيا، والذي كان يحلم به منذ أن شاهد ملحمة الجزائريين وهم يضحّون في الدفاع عن فرنسا وتحرير باريس من الغزو النازي أثناء الحرب العالمية الثانية في إعطاء فرنسا فرصة تاريخية كي تتحوّل إلى أكبر قوة في القرن العشرين، وكان يعتقد جازما بأن ”الجزائر ستظل فرنسية”، ولم يقتنع باستقلال الجزائر وتطليق فرنسا لمجدها الإفريقي، حتى وهو مسؤول في حكومة ديغول والمفاوضات تجري بين جبهة التحرير والحكومة الفرنسية في مراحلها الأخيرة. لكن الجزائر استقلت، والثورة التي كسرت كبرياء فرنسا وحلفها الأطلسي أصبح أحد قادتها بومدين رئيسا لها منذ 1965، وقد أنهى تصفية الإرث الاستعماري الفرنسي في الجزائر. وكان الاعتقاد السائد لدى الرؤساء الفرنسيين، بدءا من ديغول، بأن رئيس جزائر الاستقلال سيكون أول الزائرين إلى فرنسا، على غرار عادة كل رؤساء المستعمرات الفرنسية الذين منحوا الاستقلال وارتبطوا بفرنسا سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وحتى دستوريا لأن أغلب دساتير تلك الدول صنعتها فرنسا على مقاسها. وبعد مرور عشر سنوات من استلامه الحكم في الجزائر، تأكد الفرنسيون بأن بومدين العنيد لن يزور فرنسا، ولا يرغب حتي في المرور فوق أجوائها، ومن ثم جاءت زيارة الرئيس ديستان في 10 أفريل 1975 للجزائر كمحاولة لاختبار معتقداته بأن ”الجزائر ستظل فرنسية”. بعد تلك الزيارة برزت مشكلة الصحراء الغربية بقوة، وأعاد ديستان ترتيب أفكاره الكولونيالية من جديد في البلدان الإفريقية التي كانت تستعمرها فرنسا، وقام الرئيس بومدين بحملة ضغط سياسية وعسكرية كبيرتين ضد التواجد الفرنسي في القارة السمراء والمغرب العربي، فكان يتابع كل تحركات التواجد الفرنسي بموريتانيا والمغرب والسنغال ومنطقة شابا بالزائير سابقا، وغيرها من البلدان التي كان يلاحق الفرنسيين فيها ويصرّ على طردهم منها. وكان قبل هذا قد شنّ حملة نضال شاملة بعد الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1973 بكل الوسائل لطرد إسرائيل من جميع البلدان الإفريقية، وكان الأفارقة يسجلون قطع علاقاتهم الدبلوماسية مع إسرائيل يوما بعد يوم، دولة بعد دولة، فلم تمر سنتان على إفريقيا حتى أصبحت محررة من جميع النشاطات الدبلوماسية الإسرائيلية. وكان الرئيس بومدين في مركز قوة أثناء زيارة أول رئيس فرنسي للجزائر المستقلة، ومتحرر من أي ضغط دولي، إذ إنه في الوقت الذي تسلّم فيه الرئيس ديستان مقاليد الإليزي سنة 1974 كان الرئيس بومدين قد استلم مقاليد قيادة بلدان عدم الانحياز في سبتمبر 1973 ومنظمة الأوبيك وتحكم في سياسة توجيه الجامعة العربية سنة 1973، وبرز في العديد من المنظّمات الجهوية والدولية كشخصية لها مكانتها في تأثير الأحداث العالمية كمنظمة الأممالمتحدة في أفريل 1974 ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومجموعة ال77 وغيرها. وأصبح قائدا بارزا في العالم يدير آلة التحرير في إفريقيا والهند الصينية وأمريكا اللاتينية من واقع الصراع بين الشرق والغرب. كل هذا كان له حسابه في المعادلة السياسية القارية والدولية خلال الحرب الباردة، وعلى المستوى الداخلي كان الوضع بالنسبة للجزائريين مريحا سياسيا ومزدهرا اقتصاديا ومتماسكا اجتماعيا. ومع ذلك، فإن الرئيس بومدين يكون قد أحسّ برحيله المؤجل لثلاث سنوات على أكثر تقدير، فأعاد قراءة مقولات الرؤساء الفرنسيين الثلاثة الذين سايروا على الأقل مراحل العشر سنوات الأولى من الاستقلال قراءة صحيحة: -فديغول الذي لم يعترف بالجزائر للجزائريين، إلا على مضض، ودفن وفي قلبه شيء من ”الجزائر فرنسية” هل واقع أم حلم؟! فإن الرئيس بومبيدو كان أحنّ منه عندما اعتبر فرنسا ”أما” والجزائر ”ولدها المتمرد”، فدفن هو الآخر وفي قلبه شيء عن ذلك الولد المتمرد (الجزائر) هل رجع إلى أحضان أمه (فرنسا) أم لا؟! لكن الرئيس ديستان لخصّ كل طروحاتهما بتأكيده من موقع العارف بالتقاليد الكولونيالية على أن ”الجزائر ستظل فرنسية”.. لكن إلى متى؟! -أما الرئيس بومدين فيكون قد استشرف مستقبل وضع الجزائر بعد رحيله في النظام العالمي الجديد الذي دعا إليه، فقرر بأن الثورة التي حررت البلاد والعباد قد ينتحر.. ولا يمكن أن ير فيه اليوم الذي يهمّش فيه الإطار الكفء.. والمثقف والشاب البطال.. والهروب من الوطن.. والانتحار في البحار.. وتفشي أغرب الجرائم.. وسرقة المال العام بالأطنان، وتعود الشركات المتعددة الجنسيات التي طردها إلى الجزائر تحت شعار: ”تشجيع الأجانب على الاستثمار في الجزائر”، والتنازل عن المؤسسات والمصانع التي أفنى عمره من أجل إقامتها للأجانب باسم ”الشراكة مع المتعاملين الأجانب”، والتخلي عن الصحراء بحجة ”التنقيب والاستثمار في المحروقات”، وتهميش اللغة العربية واعتماد اللغة الفرنسية في الخطب الرسمية وفي طبع الرموز والأدوات الجزائرية، وتزيين المحيط بلغة فولتير والتعامل بها مع كل الذوات باسم ”العولمة” وترقيتها في جميع مراحل التعليم من الأساسي إلى الجامعي و.. و.. و.. وأن يصبح ”الطفل” الفرنسي هولاند يشبع مشاهديه تنكيتا وتهكما على تربة الأحرار وبلاد الثوار.. جزائر بومدين. -وقد تكون هذه هي الرؤية التي شعر بها الرئيس بومدين، وتنبّأ بمستقبلها من خلال نظرته إلى الاستقبال الذي حظي به الرئيس جيسكار ديستان كأول رئيس فرنسي يزور الجزائر المستقلة، من قِبل المسؤولين والمثقفين الجزائريين وطلبة أحفاد عبد الحميد بن باديس في قسنطينة، فأراد أن يسجل نقطة للتاريخ على أن ما حذّر منه، وما تعيشه الجزائر بعد 35 سنة من رحيله قد أثبتته الأيام!