بول بالطا متحدثا للشروق عن الراحل الرئيس هواري بومدين الرئيس جيسكار ديستان كان يحتقر الجزائريين وينعتهم بالأوباش حاورت بومدين 50 ساعة باللغة الفرنسية فوجدت نظرته للمستقبل ثاقبة يُعتبر الصحفي والكاتب "بول بالتا" أحد أبرز الصحفيين المهتمين بالجزائر والعالم العربي والإسلامي، وقد سمحت له تجاربه الثرية بمعايشة كثير من التحولات بدءا بانتعاش المد التحرري وصعود المد القومي والفكر التحرري، وانتهاء بتحول الإسلام إلى هدف غربي تُوجه نحوه سهام الاتهام بالإرهاب. * * لاسيما وأنه سنحت له فرصة مقابلة أبرز الشخصيات العربية والإسلامية التي صنعت الحدث العالمي منذ منتصف القرن الماضي، مثل الرئيس هواري بومدين والرئيس المصري جمال عبد الناصر والرئيس العراقي صدام حسين وآية الله الخميني وغيرهم. * واسترجع مُحاورنا في هذا اللقاء الذي أجريناه معه على هامش الصالون الدولي للكتاب المنعقد في مركّب محمد بوضياف بعض الوقائع والذكريات التي شهدها مع الرئيس بومدين في الجزائر، كما حاولنا معرفة رأيه في أبرز القضايا التي يشهدها العالم الإسلامي، في التنمية والعلاقات مع الغرب والإرهاب. * * بما أنك واكبت كثيرا من الأحداث التي عاشتها الجزائر منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، وبما أنك اقتربت من صانعي الحدث في المشهد الجزائري وكتبت عن بعض جوانبه مؤلفات عديدة، ما الذي تغيّر في الجزائر منذ كنت مراسلا لجريدة "لوموند" بين عامي 1973 و1978، إلى يومنا هذا؟ * لقد كنت مراسلا لجريدة "لوموند" في المغرب العربي من ليبيا إلى موريتانيا بين عامي 1973 و1978، واتخذتُ الجزائر مستقرا رئيسا لي، وتسنى لي حينها الالتقاء بالرئيس الراحل هواري بومدين وأجريت معه ما يُقارب 50 ساعة من الحوارات، كما أجريت حوالي 30 ساعة من التسجيلات مع عبد العزيز بوتفليقة الذي كان حينها وزيرا للشؤون الخارجية، وبالنسبة لي كشخص ولد في الإسكندرية من أب فرنسي وأم مصرية، فإن اكتشاف الجزائر كان حدثا هاما، حيث تعلقت كثيرا بالجزائر والجزائريين الذين عاشرتهم. من المؤكد أنه بعد أكثر من 30 سنة، هناك أشياء كثيرة تغيرت. من الأشياء التي آلمتني بشدة انتشار الفساد، ورغم كل ما يمكن أن يُقال، علينا أن نسجل أن هذا الفساد بدأ يتغلغل، وبدرجة كبيرة، منذ تولي الرئيس الشادلي بن جديد الحكم، وهو ما سمح بعد ذلك ببروز الحركات الإسلامية وساهم في إنعاشها. * علينا ألا ننسى أن كل الجزائريين قدموا أنفسهم فداء لوطنهم في حرب التحرير، وبعد الاستقلال حاول بومدين رفع المستوى المعيشي بالقدرات المتاحة، لكن الفساد أحدث طبقية غير مقبولة، ورأى الناس كيف أن من ساهموا في الثورة بقوا فقراء، ومن لم يُساهموا في الثورة تحولوا إلى أغنياء. * علينا أيضا أن نسجل أن هناك جهدا يُبذل من أجل التنمية ولكن بالنظر إلى الإمكانيات المادية التي تزخر بها الجزائر فإنه لا يزال هناك الكثير لفعله، فنسبة البطالة كبيرة رغم أن البلد يحتاج إلى مشاريع كثيرة، وهناك مشروع الطريق السيار شرق غرب الذي كان موضوع حديث منذ عهد بومدين. * أشير أيضا إلى أنني لما رجعت إلى فرنسا وأصبحت رئيسا لقسم الشؤون المغاربية في الجريدة واصلت متابعة ما يحدث في الجزائر، كما استدعيت من طرف الملك حسن الثاني في إعلان تأسيس اتحاد المغرب العربي، وقد سرتني هذه الفكرة حيث توجد كتلة مغاربية موحدة في مقابل الكتلة الأوربية الموحدة ليكون لها وزنها في القضايا السياسية والاقتصادية والثقافية، وكم يحزنني أن يبقى هذا المشروع المغاربي معطّلا. * * خصصت كتابا كاملا للحديث عن الرئيس هواري بومدين "إستراتيجية بومدين"، فكيف كانت هذه الشخصية في تصورك وحسبما عاينته؟ * لقد سنحت لي الفرصة للاقتراب من الرئيس بومدين الذي أحترمه كثيرا لكونه شخصا نزيها إلى درجة كبيرة من جهة، وكانت له نظرة مستقبلية مشرقة فيما يخص الجزائر التي سعى ليضعها في مكان كبير على الساحتين الداخلية والدولية.. أكيد أنه ارتكب بعض الأخطاء، ولكن من هو رئيس الدولة الذي لا يُخطئ؟ ولكنني أظن أنه أرسى قواعد مهمة. * عندما أخبرني مسؤولو جريدة "لوموند" أن مهمتي في الجزائر قد انتهت، ذهبت نحو الرئيس بومدين لإعلامه ولتوديعه، لكن الرئيس بدا محبطا من فكرة مغادرتي وقال لي: "إن هذا لا يُعقل.. لقد قررتُ استدعاء المسؤولين من أجل عقد مؤتمر كبير وطارئ لجبهة التحرير الوطني في نهاية السنة، وذلك من أجل تقديم حوصلة لإنجازاتي كرئيس للدولة، ولن أقتصر على الحصيلة الإجابية بل سأتناول السلبيات بدراسة نقدية لمعرفة أين أخفقنا لأن هناك إخفاقات في تسييري بهدف استخلاص العبر". فقلت له: "سيادة الرئيس سأطلب من الجريدة أن يتركوني إلى حين انعقاد هذا المؤتمر، وسأخبرك بالإجابة". سألتهم في الجريدة لكنهم قالوا "إن هذا غير ممكن بسبب الثورة الإيرانية، وعليك تغطيتها"، فلمّا أخبرته تأسف كثيرا وقال إن انعقاد المؤتمر سيكون "حدثا كبيرا"، وجودي كان مهما لأنني كنت شاهدا على أكبر الأحداث التي عرفتها الجزائر بعد الاستقلال، وستكون هذه المرحلة الأخيرة في هذه التحولات الكبرى، فتأسفت وقلت له: "بما أنك ستعقد هذا المؤتمر هل سيكون هناك تجديد في موضوع حرية الصحافة ومزيد من الاهتمام بالمجتمع المدني والمجال الثقافي؟"، ففكر قليلا ثم ابتسم وقال لي: "لا يمكنني إجابتك الآن لأنك أول من حدثته بهذه الفكرة". فقلت له: "بالنظر إلى ابتسامتك سيدي الرئيس، فإنني أتوقع أن تتجه الأمور إلى ما سألتك عنه"، لم يُجبني، لكن بدا من خلال ملامحه أنه كان ينوي إحداث تغييرات جذرية. بعد ذلك بمدة قصيرة، أخبرني كل من عبد العزيز بوتفليقة وأحمد طالب الإبراهيمي بأن الرئيس بومدين حدثهم بما جرى بيني وبينه. وكانت تلك آخر مرة تحدثت فيها مع الرئيس الذي توفي بعد بضعة أشهر. * أظن أنه كانت للرئيس بومدين إرادة كبيرة في إعادة اللحمة بين أبناء الوطن الواحد، وقد كانت تلك اللحمة مهزوزة تاريخيا فدائما ما كانت هناك جهوية ما. وعلى المستوى الدولي استطاع أن يمنح للجزائر مكانة كبيرة لم تصل إليها من قبل، وإن كانت هذه المكانة في واقع الأمر أكبر من إمكانيات الجزائر الحقيقية، وعلينا ألا ننسى أنه كان صاحب رؤى نافذة في عدة قضايا، ومن ذلك اقتراحه على هيئة الأممالمتحدة أن تقوم بعدة أعمال دولية على الصعيد الاقتصادي والسياسي.. لقد كان بومدين متقدما لأن هيئة الأممالمتحدة شرعت بعده في سلسلة من الأعمال التي نحت هذا المنحى الذي حدده هو من قبل. * * وما هي أبرز الأحداث التي بقيت عالقة في ذاكرتك عن الرئيس بومدين؟ * أتذكر أول لقاء جمعني بالرئيس بومدين في سبتمبر 1973 يومان قبل انطلاق أشغال قمة عدم الانحياز، وبعد الاستقبال الرسمي بحضور التلفزيون دخلت إلى مكتبه رفقة الدكتور محي الدين عميمور، وكان حينها مديرا للإعلام، فتردد قليلا وقرر بدلا من أن يذهب إلى مكتبه أن يتوجه إلى الصالون وطلب مني اللحاق به، فارتبك عميمور، وعلمت بعدها أنه يفعل هذا مع الشخصيات المهمة أو مع أصدقائه. كان يعرف أن أمي مصرية، وقال لي وأنا أجلس قبالته: "لقد قرأتُ جميع مقالاتك وأرى أنك تعبّر عن العالم العربي من الداخل، وأنا سعيد بكونك معنا". فقلت له: "سيدي الرئيس، سنبدأ في الحوار وأنا أعلم أنك تتكلم في لقاءاتك الإعلامية باللغة العربية، وأنا تعلمت العربية على يد مصريين حيث كانوا يلزموننا بحفظ مقطوعات تراثية عن ظهر قلب"، فقاطعني وقال لي: "وهذا للأسف لم يتغيّر إلى اليوم"، ثم اعتذر وقال: "آسف على مقاطعتك"، فأكملتُ: "سيدي الرئيس.. إن لغتي العربية من حيث المصطلحات التقنية ليست قوية لأنني تعلمتها متأخرا فلو تكرمت بالحديث ببطء"، فقال لي: "تقديرا لمساهماتك في قضايا العالم العربي، فسنكمل بالفرنسية مثلما بدأنا". * * العلاقات الجزائرية الفرنسية تُراوح مكانها ولا تتقدم خطوة إلا وتتأخر خطوات على المستوى السياسي، فما الذي يعيق تقدّمها في رأيكم؟ * أذكر أن زيارة الرئيس الفرنسي "فاليري جيسكار ديستان" إلى الجزائر، وهي الأولى من نوعها بعد الاستقلال، لم تكن موفقة واعتبرها الرئيس بومدين إخفاقا بعد أن كان يعقد آمالا كبيرة عليها. * محاولات تجاوز الأزمة بين البلدين بدأت منذ عهد ديغول، وهذا ما لا يعرفه كثيرون، وهنا أفتح قوسا لأقول إنه في تاريخ 16 جويلية 1958 بعد يومين من الانقلاب على النظام الملكي في العراق التقيت بعبد الناصر، وفي نهاية اللقاء قال لي: "إن ديغول سيمنح الجزائر الاستقلال".. فقلت له: "سيادة الرئيس هل لديك معلومات سرية بهذا الخصوص"؟ فأجاب: "لا، العلاقات بيني وبين الفرنسيين مقطوعة، ولكن هذا تخميني". سألته: "على أي أساس بنيت هذه الفرضية"، فقال: "إن ديغول رجل قومي ووطني كبير، وسيتفهم في النهاية البعد الوطني في الثورة التحريرية الجزائرية.. وهو سيفهم أن من مصلحة فرنسا أن تُسالم كل العالم العربي وتربط معه علاقات دبلوماسية". * في عام 1967 أرسل ديغول دعوة إلى بومدين من أجل زيارة عمل إلى فرنسا، ورفض بومدين الدعوة لأنه أرادها أن تكون رسمية ويُستقبل فيها كرجل دولة في شوارع "الإيليزيه"، وكان ذلك حينها صعبا، ولما جاء الرئيس بومبيدو جدد الدعوة لكن تأميم بومدين للثروات الجزائرية حال دون ذلك، وفي عهد جيسكار ديستان قام بزيارة إلى الجزائر لكنها لم تكن محضّرة من جانبه كما ينبغي، وقد حضرتُ مأدبة العشاء الرسمية التي أقيمت على شرف الرئيس الفرنسي، فألقى بومدين كلمة كانت غاية في الروعة حيث اقترح تعاونا طويل المدى مع فرنسا ، في حين كانت كلمة جيسكار ديستان بمثابة إجابات تلميذ ضعيف في امتحان الفلسفة. زيادة على ذلك، كنتُ على اتصال مع السفير الفرنسي في الجزائر وحدثني أنه كان يسعى لربط اتصالات بين الرئيس الفرنسي أثناء زيارته وبين الرئيس بومدين من أجل لقاء خاص بينهما، فكان ذلك صعبا للغاية لأن الرئيس الفرنسي لم يرد مقابلة بومدين، بل كان الرئيس الفرنسي يصف الجزائريين، بمن فيهم الرئيس بومدين، أنا جد متأسف ولكن سأورده ب"الأوباش"، وفي حديث السفير مع جيسكار ديستان حول خطاب بومدين الذي اعتبره السفير جيدا كان الرئيس الفرنسي يقول: "ماذا يريد هؤلاء الأوباش"!! وهكذا كان هذا الاحتقار سببا في فشل الزيارة وتجمد العلاقات الجزائرية الفرنسية. وقد حدّثتُ الرئيس بومدين عن الموضوع فقال لي: "ما بين ديغول وجيسكار ديستان بُعد ما بين السماء والأرض". * سأتكلم بكل صراحة وأقول إن الخلل الآن موجود في الجانبين، ولهذا تحدثت مسبقا على بومدين وديغول حول قلب الصفحة، وهذا ما قاله بومدين في زيارة جيسكار ديستان: "قلب الصفحة لا يعني تمزيقها". بعد ذلك كان هناك تعطيل وعرقلة في كل من الجزائروفرنسا، فمن كان مدافعا عن "المنظمة الجزائرية السرية" سعى إلى منع هذا التطبيع، وطالب بعض الجزائريين بالاعتذار في حين أن فرنسا تمتنع.. وفي اعتقادي أن مشروع بومدين وديغول هو قلب الصفحة، حقيقة كانت هناك أشياء كثيرة سلبية، ولكن كانت في المقابل أشياء إيجابية، وهذا مهم من أجل بناء قاعدة صلبة تجمع بين البلدين. * * أثناء الحديث عن اتفاقية صداقة بين البلدين، جاء قانون 23 فبراير في تمجيد الاستعمار ليصدم الرأي العام الجزائري ويرهن مستقبل تطبيع العلاقات واتفاقية الصداقة، فكيف تفسرون صدور قانون مثل هذا القانون في ظروف مثل تلك الظروف؟ * أعتقد أن ما حدث مرتبط أساسا بالسياسة الداخلية الفرنسية والصراع بين اليمين واليسار فيها، حيث حاول سياسيو اليمين إسكات اليساريين على حساب الجزائر. * كثيرا ما يتحدث الأوروبيون عن شراكة متوسطية، لكن يبدو أن أوروبا تبحث عن أسواق استهلاكية في الضفة الجنوبية لا غير، فكيف تقيّمون ذلك؟ * الوضع معقد في قضايا الشراكة المتوسطية، ويأتي على رأس هذا التعقيدات الصراع العربي الإسرائيلي الذي جمّد وعرقل كثيرا من المبادرات والشراكات. لقد شاركت في عام 1995 ببرشلونة في تحضير منتدى الثقافة وأنا أولي اهتماما كبيرا للثقافة باعتبارها أساس نظرتنا السياسية والاقتصادية، فالسياسة والاقتصاد في أصلهما ثقافة، ورغم أهمية الثقافة إلا أنها كانت مغيّبة في مشروع برشلونة الأول، وتدخلتُ مع مجموعة من المثقفين لدى وزارة الخارجية فأعيدت كتابة المحور الثالث بناء على مقترحاتنا، ولكنه لم يتم تطبيقه كليا، وما آسف عليه أيضا هو أنه في مشروع الاتحاد من أجل المتوسط كانت الثقافة مغيّبة وهذا شيء خطير. وبناء على ردود الأفعال العديدة، أنشأ الرئيس ساركوزي مؤخرا لجنة ثقافية ولكن لا يزال هناك الكثير لفعله في هذا المجال. علينا أن نعي أن أحد أهم جوانب الشراكة هو أن يعمل شمال المتوسط على الأخذ بيد الجنوب من أجل مساعدته على تجاوز مشاكله. أما الضفة الجنوبية، فعليها أن تقوم بمجهودات كبيرة في مجال التنمية، وهناك مشكلة هجرة الأدمغة التي تجعل الجزائر تفقد كثيرا من قدراتها لمواجهة التحديات التي تمر بها. * * نُدرك أيضا أن الاتحاد الأوروبي لم ينجح في خلق قطب مواز للهيمنة الأمريكية، فهل يمكننا الحديث عن إخفاق المشروع السياسي الأوروبي؟ * نعم يمكننا قول ذلك، وهذا على عدة مستويات. ففي الأساس تُعتبر أوروبا متوسطية قبل كل شيء، وحتى شمال أوروبا يستقي أغلب ثقافته من الحضارتين الإغريقية والرومانية، وكذا من الحضارة الإسلامية، وأنا أؤكد في كتاباتي على أن الحضارة العربية والإسلامية كانت على امتداد قرون أرقى حضارة عالمية، وبلغت أرقى المستويات في جميع المعارف الإنسانية مثل علم الفلك والفيزياء والطب وغيرها، ولولا هذه المساهمة الإسلامية لم تكن نهضة أوروبا لتتم بهذا الشكل الذي نشهده الآن، وهو ما لا يجب إغفاله. ولكن رغم كل هذا التنوع والقوة نجد أوروبا تختبئ خلف الولاياتالمتحدةالأمريكية، وحتى في الصراع العربي الإسرائيلي، كان على أوروبا أن تكون هي المهتم الأول بالقضية وليس أمريكا.. فعليها أن تكون قوة متوازية.. إن هذا ليس سهلا، ولكن علينا رغم ذلك قوله. * * هناك أيضا مشكلة الإرهاب الذي يضرب العالم الإسلامي من الداخل ويشوه صورة الإسلام في الخارج، ما هي مقاربتكم لهذه الظاهرة؟ * هنا أيضا سنضطر لصدم البعض، لكني كتبت هذا منذ سنوات.. لقد لعبت الولاياتالمتحدةالأمريكية دورا سلبيا وضارا جدا في موضوع الإرهاب، فمنذ صعود المد القومي في الدول العربية في الخمسينيات وعلى رأس هذا التيار الرئيس المصري جمال عبد الناصر، سعت أمريكا لمساندة تيار الإخوان المسلمين الذين انبثقت منهم تنظيمات متطرفة، كما دعمت أمريكا بن لادن في أفغانستان ضد السوفييت، تخوفا من الوطنيين وتأثيرهم على الاقتصاد واستقلال دولهم من التبعية الخارجية. ومن جانب العالم الإسلامي، قلنا مسبقا إنه كان في قمة الحضارة العالمية لقرون، لكنه تقهقر بعد ذلك، ولم تفلح "النهضة" الناقصة في بعثه من مرقده مرة أخرى، وأظن أنه من الضروري اليوم أن يُجدد المسلمون اليوم الصلة مع تاريخهم وحضارتهم ليتجاوزوا مشكلاتهم الكثيرة، وقد نبّه إلى ذلك تقرير برنامج الأممالمتحدة للتنمية الذي نصح المسلمين بالاستلهام من عصرهم الذهبي. * لقد أشرت في كتابي الأخير الذي ألفته أنا وزوجتي "الإسلام والحركات الإسلامية: احذروا الخلط" إلى الإرهاب وعلاقته بالإسلام، وركزت فيه على بيان أن تنظيم القاعدة والحركات المتطرفة التي تدّعي أنها تريد حماية القرآن والدفاع عنه هي أول من تخونه، وذلك لعدة أسباب شرحتها مفصلة في الكتاب المذكور، وهذا مشكل كبير. وأقول أيضا إن كل ما تقوم به القاعدة من عمليات يساهم في تشويه الإسلام ونشر "الإسلاموفوبيا" في العالم، كما أن أعداء الإسلام هم المستفيدون من هذا التشويه الذي يلحق الإسلام. * * هناك سلسلة من المظاهر التي أضحت بارزة في المشهد السياسي الفرنسي: تحول اللائكية إلى أيديولوجية، فشل سياسات الإدماج، بروز العنصرية وتفشي "الإسلاموفوبيا".. فهل نعتبر هذا دليلا على إخفاق الجمهورية الفرنسية في هذه التحديات؟ * يمكننا أن نقول: نعم، هو إخفاق. وقد ألفت كتابا حول "السياسة العربية لفرنسا"، وأرى أن ما تنتهجه الحكومة الفرنسية اليوم يتعارض بشدة مع ما أراده شارل ديغول وبومبيدو بعده، ومنذ عهد جيسكار ديستان بدأ التراجع والتقهقر. أعتقد أنه يجب إعادة بعث هذه السياسة العربية التي انتهجتها فرنسا منذ فترة طويلة وتراجعت عنها الآن. وحتى وسائل الإعلام لم تعد عادلة في تناول القضايا المرتبطة بالعالم الإسلامي، وهناك عمل كبير في هذا المجال حتى نعيد الأمر إلى نصابه الطبيعي. * هناك عدد كاف من المثقفين ذوي الأصول العربية، وليسوا مغاربيين فقط، مثل الكاتب اللبناني الكبير أمين معلوف، وهذه ثروة يجبّ أن تفعّل لوضع أسس نظرة مستقبلية ثرية تربط فرنسا بالعالم العربي.