قال الفيلسوف يعقوب بن إسحاق الكندي في وصيته لوَلدِه ”يا بني كن كلاعب الشطرنج مع الناس، تحفظ شيئك وتأخذ منهم شيئهم، فإن مَالَك إن خرج لم يعد إليك”! نفسها الوصية التي يحفظها بوتفليقة وكأنها وصيته، فكان أبرع لاعب شطرنج عرفه التاريخ ولن يعرف بعده غيره، أخذ الرقعة بعساكرها وبيادقها وقلاعها وأحصنتها وفيّلها ووزراءها وزورها ووضعهم جميعا تحت إمرته. صحيح.. حاكمنا المُبجل أحكم بقبضة يده على حكمه لأنه يدرك جيدا أنه إذا خرج من يديه فلن يعود أبدا. والأصل في لعبة الشطرنج أن كل هؤلاء الزبانية، من جنود وبيادق وأحصنة وغيرهم من الذين يعيشون داخل هذه الرقعة الشطرنجية، هدفهم واحد من هذه اللعبة وهي أن يحاصروا الملك حتى لا يتمكن من الهرب، لكن شطرنج بوتفليقة يسير عكس قوانين العالم، فحاصرهم جميعا بكل عُدّتهم وعتادهم، فأصبح العسكر قبل غيرهم خُدّاما عنده، وأصبحت نياشينهم العريضة والكبيرة مجرد ”قابصة شمة”. لعبة الشطرنج يا حاكمنا تستلزم خصمين، لكنك كما قال المتنبي يوما لسيف الدولة ”أنت الخصم يا بوتفليقة وأنت الحكم”! ألست كذلك يا عزيزي الرئيس؟ أليست الرقعة لك الآن وحدك تلعب فيها كما تشاء دون حسيب أو رقيب؟ ركبتَ الحصان منفردا- على عجزك- وأخذت تقفز دون خوف ودون هوادة ودون تردد، تقفز به فوق الرقعة فوق الدولة من قطعة لأخرى ولم تعِرِ الحصان حسابا؟ سُئل هارون الرشيد ذات يوم ”ما الشطرنج يا أمير المؤمنين؟” أجاب ”ما الحياة؟”، وأنت يا بوتفليقة هل الشطرنج عندك ما تفعله الآن في دولة مثل الجزائر؟ تتسلى كملك يجلس على العرش ولا يريد الموت دونه؟ حتى الملوك والأمراء أذعنوا للطبيعة، وما فعله أمير قطر مع ولي عهده لدليل أمامك، على الرغم من أن هذا الأخير كان جشعا للحكم واغتصبه من والده اغتصابا، طبعا بتفكير وتدبير من موزة التي أخذها مقايضة من والدها ناصر المسند، فكان زواجها صفقة مال فأصبحت هي تدير صفقات السياسة والحكم، وصارت المحرك لكل الانقلابات البيضاء فأطاحت بالحاكم الشيخ الأب وبعدها بأبناء حمد من زوجاته الأخريات، وصار الجاسم وتميم وجوعان وسَبعتهم على كثرتهم هم الأمراء الجدد بدرجات متفاوتة، من ولي عهد إلى ممثل شخصي للأمير إلى ضابط في القوات المسلحة، وحتى الأميرة هند هي من تدير شؤون مكتب شقيقها الأمير. وليس بالبعيد عن كل هذا يستعد ملك السعودية للتنحي والتنازل عن الحكم لأخيه سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد الحالي، لأن حالته الصحية ساءت بشكل كبير، وهذا ما ظهر خلال لقائه الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ويمكن أن يكون هذا الأخير بحث مع الملك عبد اللّه خطوات ترتيب انتقال سلس للسلطة دون مشاكل، في ظل تقدم قادة المملكة في السن وما يعانونه من مشاكل صحية، خاصة أن الأمريكان لا يحبذون المفاجآت في أول بلد مصدر ومنتج للنفط في العالم نظرا لانعكاساتها المحتملة على سوق الطاقة والإمدادات النفطية. سواء كان هذا أو ذاك، فإن المماليك وملوكها أصبحت تفكر في نوايا التنحي والتنازل عن السلطة والعرش، هذه الممالك التي تتميز في أغلبها بالحكم المطلق الذي لا يعترف بالخضوع لأي سلطة؛ أما أنت يا بوتفليقة أظن، وعلى حسب علمي، أننا في جمهورية تدّعي أنها ديمقراطية على الورق ولكن في الواقع يبدو أنها أكثر ملكية من قطر والسعودية وغيرها من المملكات الأخرى. على فكرة يا صاحب الفخامة ليس ألاعيب موزة وضغوط أوباما والتقارير الصحية للملوك وحدها من يحرك عساكر وبيادق وأحصنة ووزراء الشطرنج، ولكن الحب أيضا يحركها ويجعلها تنقلب رأسا على عقب، وسأخبرك بقصة الملك إدوارد الثامن الذي تنازل عن عرش ملكه من أجل امرأة أحبها ربما يلين قلبك وتتنازل أنت من أجل شعب بأكمله. إدوارد الثامن يا سيدي الرئيس، وهو عم الملكة إليزابيث الثانية، الذي آمن بأن لحظات العشق الباهظة لابد لها من ثمن باهظ تستحقه، وعندما عشق النجوم لم يعد يخاف الليل وأدرك بأن في الحب ”واحد وواحد يساوي واحد”، فرمى بكل المُلك والعرش والجاه من أجل نظرة واحدة من حبيبته ”وليس”، التي رفضت الحكومة ارتباطه بها لأن المَلك راعي الكنيسة لا يمكنه أن يرتبط بمطلقة وتم تخييره بين العرش وبينها ودون تردد أو تفكير، قال جملته الشهيرة ”إن العرش لا يعني لي شيئا دون وجود ”وليس” إلى جانبي”؛ وبذلك اختار امرأة حياته وفضلها على العرش. وبهذا رمى كل الأوسمة والنياشين واختار الحب لأنه ببساطة حيثما يوجد الحب توجد الحياة! ولكن بالنسبة لك يستحيل أن يحدث هذا، لأنك تؤمن بأنه حيثما توجد السلطة توجد الحياة حتى لو كنت لا تمارسها كما هو حالك الآن، نعم أنت لا تمارس شيئا سوى أنك تتسلى من خلف الستار بما تراه من إرباك وارتباك. رأيتك هذا الأسبوع وأنت ”تعيط” في أحد خطاباتك أيام كان صوتك جهورا، والتي تعود ل15 سنة ماضية في حركة غير موفقة من بطانتك التي تريد أن ”تُحي العظام وهي رميم”، قلت ”إن القصر لا يبنى في نهار”، ولكنك هل تدرك يا رئيسنا المريض بأنك بنيته وهدمته في نص نهار؟ وقلت أيضا بأنك ”تنام على الحصير باش ما طيحش من الفراش”، ولكن يبدو أن الحصير، بقدرة قادر، تحوّل إلى حرير يصعب مفارقته أو النوم دونه، وإلا كيف لملك مثلك أن يتشبث ببرودة الحصير ومتاعبها لو لم تكن كلها مفروشة على كنوز علي بابا؟ صحيح رأينا صورة حاكم يجلس على الحصير، ولكنها لم تكن سوى صورة بومدين عيون الصقر الذي إذا قطب حاجبيه ”تطبق الأرض على السماء” ويصير الجماد ماء. نعم عندما كنت ”تعيط” في الخطاب نفسه، وتدّعي أنك رفعت علم الجزائر إلى السماء السابعة، وأنك لست بحاجة لأن تُعرّف بنفسك لأن القاصي والداني يعرفك في الداخل والخارج، تبادر إلى ذهني نفسه بومدين الذي في كل خطاباته العصماء كان يقول ”أنا خدّام الشعب” ولم تسوّل له نفسه بأن ينفخ في جنون عظمته ويقول بأنه كان وكان، لأن العالم بأسره يعرفه ومازال يرتعد لذكره حتى وهو رميم. كرسيك جمر وغدك أمر وحكمك كفر، هذه هي مفاتيح سلطتك يا فخامة الرئيس، وأنت تدرك أكثر من غيرك بأن ما تفعله خطأ وعدم الرجوع عن الخطأ هو خطأ أكبر، ومن العيب أن يقول عنك كل العالم الذي يعرفك، كما تدّعي، منذ أن كنت وكنت ويشار لك بالأصبع وأنت تريد دخول التاريخ ولو في نعش. صحيح، إنك امتطيت الحصان وها هو يعربد ويجري في كل اتجاه فاقدا للعقل ومضيعا للرشد، ولكن الفارس لا يكون فارسا إلا إذا كان بيده سيفا من نار، وأنت يا صاحبي سيفك من خشب، والسياسة كما تعلم هي حرب ونار، ومن يحارب النار بالنار لا يحصل عادة سوى على الرماد. ثم من كان سيفه من خشب يجب أن يبتعد عن النار بقدر المستطاع، لأن النار إذا أمسكت به ستحرق السيف وصاحب السيف يا ملك الشطرنج. قال فاروق الأول، آخر ملوك المملكة المصرية: ”في يوم من الأيام لن يبقى هناك غير خمسة ملوك، أربعة في ورق اللعب وملك بريطانيا”، هل تَرى يا بوتفليقة كيف أن الملوك الباقون كلهم ملوك الشطرنج و«الكارطة”؟ وحتى الملك فاروق أطاح به تنظيم الضباط الأحرار الذين أجبروه على التنازل عن العرش. الحكمة يا صاحب الحكمة هي أن تلمّ بكل الكليات وليس الإلمام بالجزئيات فقط التي تتعلق بالعهدة الرابعة، التي ستكون راكعة وخانعة وخاضعة، ليس لشيء سوى لأن حتى الذين يرقصون من حولك الآن بمجرد أن تغمض عينيك سيسرقون منك الحصان والسيف ويتركونك للعراء. هل تتخيل نفسك دونهم جميعا؟ ودون لسانك وحصانك وسيفك وحصنك المنيع؟ من سيغطي عورتك ويستر عريك؟ سيدي الرئيس توهّمك كان أول الملذات التي جعلتك تجري وراء السلطة فاقدا للوعي متناسيا أن أول الحكمة لا يأتي إلا بالتحرر من الوهم، أما وجه الشبه بين الموت ولعبة الشطرنج فهي تلك النهاية التي يوضع فيها الملك والعسكري والبيدق والحصان والوزير في صندوق واحد.