لعبة الشطرنج، لعبة فيها العجب، قيل من الهند أتت، قيل من فارس وقيل من صنع العرب...ميدان المعركة فيها قطعة خشب، والخنادق مربعات تتحمل دقات الغضب...وحركات الأكل والنهب...لعبة الشطرنج، لعبة فيها مسائل... جنود مدججة في هجوم تقاتل والملك في برجه مستتر متثاقل، أحصنة في قفزات تتمايل، مجانين تُعربد، ملكات تغشى المحافل... لعبة الشطرنج حربٌ تُشغل العقول، الجنود تتقدم دون التفات نحو مصيرها المجهول، إنها قطع خفيفة، مصيدة سخيفة لمن هو أكول...تموت لتحيا حاشية الملك وتقدم قرباناً تحت قرع الطبول، فإن حالفها الحظ للوصول إلى خندق العدو وتخطت خطوطه وباب قلعته المقفول قايضها الملك بمن هو أغلى منها قيمة فيسترجع المقتول...الملكة قطعة ثمينة، صاحبة السيف المسلول، سريعة الصعود والنزول لا يوقفها إلا الموت العجول... يُضحى بها الملك إن أحاط به الأعداء، وهددوه بالفناء، بل إنه يضحي بكل حاشيته بدهاء وينأى بنفسه عن البلاء ومكر الأعداء...وفي لغة الملوك هذا منطق معقول لا يرفضه إلا معارض جهول... لعبة الشطرنج تنبيه للغافل، إنها معركة لا يُقبل فيها التعادل، لا تنتهي إلا بملك مقتول فوق عرشه وقاتل، فإذا انتهت اللعبة يُرمى الجميع في علبة مزابل، وينسى الخصمان أنهما قطعتان صاغرتان كانت تحركهما الأنامل... في عيد نوفمبر وذكرى ثورة الأحرار، قدمت لعبة الشطرنج لصديق من الأبرار، صاحب عقل نيّر وأفكار، قلت له أحسن ما وجدت في البزار، تسلّى بها إن وجدت لاعبا في الجار، تقصّر بها ساعات الفراغ والملل بالليل أو بالنهار، فابتسم وقال بأدب ووقار: يا صاحبي، قضيت خمس سنوات أُقاتل الفجَّار، بصحبة رجال بررة ضحّوا بأغلى ما يملكون: دماء وأعمار، فمنهم من قضى نحبه فهو في ضيافة الله الكريم البار، ومنهم من طال به العمر فهو حيّ يُرزق بعون الله الواحد القهار...ومنهم من تغافلت عنه الأيادي والأبصار، فهو طريح الفراش وحيداً في ظُلمة دار...كيف تهديني هذه اللعبة وأنت تعرف أنها لا تُغري الكبار، يكفيني ما قاسيته مع أبناء جلدتي من ويلات''الإستدمار''...كنت أتمنى أن تهديني مصحفاً أرتّل آياته أو مسبحة أناجي بعقدها خالقي أناء الليل وأطراف النهار...