يقول ڤرامشي الفيلسوف الإيطالي إن التعارض بين المثقفين العضويين والسلطة أساسي ومطلق في كل مكان وكل زمان، على أنه لوحظ في هذه السنوات الأخيرة أن هذه القضية قد برزت في العالم العربي الإسلامي بحدة ومن جديد في صورة إشكالية تجعل المسافة بين الطرفين المعنيين تتسع حتى تكاد تصل إلى عدوانية صارخة ومطلقة، لا يمكن التخفيف من حدتها وذلك بسبب تراكم المسائل والإشكاليات المطروحة، وقد زاد ما سمي ”الربيع العربي” الطين بلة. ولعل الوصول إلى هذه الحدود من العداوة والكراهية إنما هو تعبير عما يعانيه واقعنا الراهن في الجزائر، مثلا، من أزمة بنيوية في مجمل أوضاعه وممارساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تزداد كل يوم تخلفا وتمزقا واستبدادا وتبعية، خاصة أن الرأي العام يدرك أن الهزائم والانتكاسات التي خصت العالم العربي بصفة عامة والجزائر بصفة خاصة، في السنوات الأخيرة، ليست قدرا محتوما وليست دلالة على عجز الشعوب وإنما هي دلالة واضحة على عجز الأنظمة، خاصة أن أهم أسباب الأزمة الحاضرة هي التغييب القسري للجماهير عن المشاركة في تقرير مصيرها والإسهام في صياغة حاضرها ومستقبلها، والدليل على ذلك هو مجريات الانتخابات الأخيرة في الجزائر التي برهنت على فشل السلطة وما سمي بالمعارضة. وقد كثرت في السنوات الأخيرة الندوات حول هذه الإشكالية التي تطرح علاقة المثقف (الحقيقي وليس الانتهازي) بالسلطة، خاصة ونحن نعلم أن هذه الندوات تنظم عادة - تحت رعاية الدولة وبأموالهاǃ وأغرب ما في ذلك أن عددا كبيرا من المثقفين العرب يتراكضون وراء هذه الندوات ويحضرون فيها حضورا نشيطا وفعالا. ويقول محمود أمين العالم المفكر المصري الراحل في هذا الصدد: ”ولا أتردد في أن أقول بصراحة واجبة إن بعض الكتابات وبعض المداخلات في هذه الندوات، ما كانت موضوعية، على الأقل، تنتهي إلى تحديد معالم الخروج من محنة هذه الأوضاع، بقدر ما كانت تُغيب حقائق وآليات هذه المحنة كما كانت تغيب هذا المنهج الموضوعي لمعالجتها وبالتالي كانت تكرسها. وليس هذا بالأمر الغريب أو الشاذ. فالثقافة بُعد من أبعاد هذه المحنة نفسها وبعض المثقفين أنفسهم هم بعض أجهزة إعادة إنتاج مقومات هذه المحنة”. ولعل هذا التحليل الذي يربط في آخر المطاف- المثقف بالسلطة هو تحليل يفضي بشيء من الاستفزاز الإيجابي، لكن الفكرة العامة صحية أي أنها تساعد المثقف الواعي على الخروج من المتاهات الفارغة وأنها تغلق في وجهه باب الفرار إلى الأمام، إنها تلغي مسؤولية الإشكالية على أكتافه، هو كذلك، ذلك أنه ليس هناك أحد يتصف بالبراءة كما تظن المعارضة التي ساهمت في الانتخابات الأخيرة والتي سرعان ما كشفت عن نواياها الخبيثة وعن عقليتها القديمة التي تتفق كل الاتفاق مع عقلية السلطة، ذلك أنها تجهل ثقافة الديمقراطية الحقيقية التي تتركز أساسا على العامل الاجتماعي قبل كل شيء. وهذا الواقع يضع الأصبع على الجرح المدمل ويكشف عن التباسات الوضع السياسي في بلادنا، لأن لولاه لما كان للسلطة السياسية أن تكتمل، خاصة لو قبلنا نظرية ڤرامشي القائلة بأن ”كل إنسان مثقف وإن لم تكن الثقافة مهنته، ذلك لأن لكل إنسان رؤية معيّنة للعالم وخطّا للسلوك الأخلاقي والأدبي”. وبعد كل هذه الضجة المستخلفة والضجيج المستخلف من الانتخابات تطفو فكرة سائدة: والآن؟