العنف هو تعبير عن القوة الجسدية التي تصدر ضد النفس أو ضد أي شخص آخر بصورة متعمدة أو إرغام الفرد على إتيان هذا الفعل نتيجة لشعوره بالألم بسبب ما تعرض له من أذى وتشير استخدامات مختلفة للمصطلح إلى تدمير الأشياء والجمادات مثل تدمير الممتلكات. ويستخدم العنف في جميع أنحاء العالم كأداة للتأثير على الآخرين، كما أنه يعتبر من الأمور التي تحظى باهتمام القانون والثقافة حيث يسعى كلاهما إلى قمع ظاهرة العنف ومنع تفشيها. ومن الممكن أن يتخذ العنف صورًا كثيرة تبدو في أي مكان على وجه الأرض، بدايةً من مجرد الضرب بين شخصين والذي قد يسفر عن إيذاء بدني وانتهاءً بالحرب والإبادة الجماعية التي يموت فيها ملايين الأفراد. وجدير بالذكر أن العنف لا يقتصر على العنف البدني فحسب. هذا ما نقرؤه عن العنف عامة. فماذا عن العنف الممنهج؟ ماهي أسبابه؟ وما هو دور المثقّف في بناء الأفق الجديد في تونس؟ عن كلّ هذه الأسئلة يجيب عدد من المبدعين من تونس ضمن مقاربات نرجو أن تكون محققة للاختلاف الضروري لبناء تصوّر عام حول الموضوع المقترح. بقلم : حسين العوري ( أستاذ جامعي وشاعر( افتقار الثورة إلى رأس أربك حركة النخبة لجدلية العنف الذي غدا ممنهجا في بلادنا منذ حدث 14 جانفي 2011 أسباب بعيدة وأخرى قريبة. فأما الأسباب البعيدة فتعود إلى مطلع دولة الاستقلال حيث آل الصراع بين البورقيبيين واليوسفيين إلى عنف مسلح حُسمت فيه المعركة لفائدة الشق الأوّل ما أتاح الفرصة لاحقا لتكريس الرأي الواحد والحزب الواحد وهي سياسة قسمت المجتمع إلى منتفعين ومحرومين وشطرت البلاد إلى مناطق محظوظة وأخرى مهمّشة .. وأدّت إلى ا حتقان ما انفك يتعاظم حتّى انفجر في مناسبتين:الإضراب العام سنة 1978وثورة الخبز سنة 1984.. واستمرّ هذا الجوّ المتوتّر المشحون حتّى كان انقلاب 7نوفمبر1987 الذي حقّق بيانه انفراجا لم يدم طويلا لأن النظام الجديد سرعان ما كشّر عن أنيابه الفاشية رغم واجهته الديمقراطية ،فحلّ شعار ثنائية "معي أوضدّي" والمصلحة الفردية محلّ الحوار المختلف والتعددية الحقيقية .وانقسمت نخب المجتمع بين موالاة ومعارضة.. واستشرى الفساد والمحسوبية وتفجّر الاحتقان في مناسبات أبرزها أحداث الحوض المنجمي سنة 2008 وشرارة سيدي بوزيد يوم 17ديسمبر 2010 التي عمّت بقية جهات البلاد وبلغت ذروتها في ذلك اليوم المشهود ، يوم سقوط رأس النظام ... وترك هذا السقوط فراغا في السلطة لم تكن الثورة المفتقرة أصلا إلى زعامة سياسية أو أيديولوجية قادرة على ملئه. فبدأ الصراع بين الثورة والثورة المضادة وكان ذلك فاتحة الأسباب القريبة لما ستعرفه البلاد من عنف يمكن للمراقب أن يعتبره - بحكم تواتره وتعدّد أشكاله- عنفا ممنهجا تغذّيه أطراف داخلية وأخرى خاريجية فحدث14 جانفي 2011 يعدّ انعطافة تاريخية هامّة في تاريخ تونس المعاصرة، فتحت الباب عريضا أمام أحلام الجماهيرفي الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية . لكنّ افتقار الثورة إلى رأس أربك حركة النخبة فانخرط بعضها (حزبان تقدّميان) في حكومة بقايا النظام وتكتّل بعضها الآخر( الأحزاب اليسارية والقومية وفي جبهة 14 جانفي دعما للجماهير الثائرة ) وفُتح منذ ذلك الحين بابُ الاستقطاب الثنائى حيث حاولت حكومة محمّد الغنوشي ومن والاها مواجهة اعتصام جماهيرالقصبة 1 بجماهير قبّة المنزه. وظلّ هذا الاستقطاب الثنائي منذ ذلك التاريخ بنية قارة تتغيّر أطرافها ولا تتغيّر أهدافها.. ولقد غذّت حكومة السبسي هذا الاستقطاب الذي أشكالا عدّة أبرزها إذكاء الصراع بين القضاة من جهة ( الجمعية والنقابة ) و بين القضاة والمحامين من جهة ثانية ( مرسوم امتيازات المحامين ) ..وازداد هذا الاستقطاب حضورا في لجنة ابن عاشور التي انحرف النقاش فيها عن قضايا الجماهير وحلمها بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية إلى قضايا النخبة الخلافية ( التدين والعلمانية، المشروع الحداثي الغربي وثوابت الهوية...) وعبّر هذا الاستقطاب عن نفسه في المجتمع من خلال ضربين من العنف :عنف رمزي يستفزّ المقدّس ومقوّمات الهوية ( فِلم "لا ربّي لا سيدي" مثلا) وعنف مادي ( تحطيم واجهة القاعة التي عرض فيها الفلم). واتخذ ذلك الاستقطاب أثناء الحملة الانتخابية شكل الصراع الحاد بين مشروعين متعارضين : مشروع حداثي رايتُه ثمار الحضارة الغربية ومشروع أصولي يرفع راية الاعتدال والهوية .. وانعكس ذلك الاستقطاب سلبا على نتائج انتخابات 23 اكتوبر... فكان الانتصار ساحقا للمشروع الثاني وبرزت ثنائية مقيتة : زهو وثقة كبيرة من جهة وخيبة وحقد من جهة ثانية. وستكون هذه الثنائية مولّدا لكلّ المشاحنات والمناكفات اللاحقة بين الأغلبية والأقلية .. بدا ذلك واضحا منذ جلسة المجلس التأسيسي الأولى... وغدا طرفا الاستقطاب- بعدالمصادقة على حكومة الترويكا- أغلبيةً حاكمةً تستند إلى شرعية الصناديق وأقلية معارضة تحتكم إلى شرعية الطريق.... وانخرطت في هذا التجاذب وسائل الإعلام المرئية وأتاحت من خلال برامحها الحواراية بين الفرقاء السياسيين الفرصة لإشاعة التعصب الأيديولوجي والحزبي وإباحة العنف الفكري واللفظي .. ومن المؤسف أنّ أغلب النخب الفكرية وعلى رأسها أساتذة الجامعة انخرطت هي أيضا في هذا الاستقطاب المقيت وركبت موجة الشحن والشحن المضاد ما رفع درجة الاحتقان وأسهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في تكريس ظاهرة العنف الذي بلغ الذروة صباح 6 فيفري 2013 باغتيال أحد الفرقاء السياسين البارزين ،الأستاذ شكري بلعيد. هذه العملية الإرهابية البشعة فتحت حاضر البلاد ومستقبل الثورة على آفاق مرعبة ، آفاق تستدعي إطلاق صيحة فزع عسى حكماء البلاد ومثقفوها الحقيقيّون يستنفرون قدراتهم ويجنّدون طاقاتهم من أجل أفق مغاير يبشّر بتحقيق الأحلام في كنف المواطنة والعيش المشترك.. في هذا الواقع المتوتّر المتصدّع تبدو مسؤولية المثقف جسيمة ودوره خطيرا. فلا أحد غيره قادر على إضاءة شمعة في آخر النفق ، لأنّه - بحكم كونه مثقفا - يتحرّك خارج شرنقة الأيديولوجيا وإكراهات الانضباط الحزبي، أو- على الأقلّ- يُفترض أن يكون كذلك. المثقّف – في نظري- كبيضة القبان يحقق التوازن والاعتدال . والمثقّف – في نظري أيضا- كالبوصلة يساعد على تحديد وجهة الخلاص حين تشتبك المسالك وتدلهمّ الرؤى . من هذا الموقع وبهذه الصفات ( بيضة قبّان وبوصلة)يمكنه الإسهام – مع حكماء البلاد وكبرائهم- في اجتراح رؤية تقطع مع أشكال الاستقطاب وألوان التجاذب، وتكرّس تقاليد الحوار وقبول الرأي المخالف، وتعمل على حسن إدارة الخلاف و توجيه جهود الجميع رغم تناقض مصالحهم ورؤاهم في اتجاه مشترك تفرضه المصلحة العامّة وأهداف البلاد الآنية والمستقبلية .ولنا في أصابع اليَدِ الواحدة مثال وعبرة، فرغم اختلافها موقعا وحجما ووظيفة تتحرّك –لانجاز مهامها- معا وفي نفس الاتجاه ، ولو خرقت إصبع منها هذا النظام لارتبكت حركتها وتعطّلت غايتها . ولقد سعى النادي الثقافي برادس- وأنا عضو هيئته المديرة -إلى تكريس هذه الرؤية منذ انبعاثه في شهر جويلية 2011. فكان " الرأي والرأي الآخر" أحد شعاراته التي جسّدها فيما نظّم من ندوات ومن استدعى من شخصيات .. فنحن نعتقد أنّ الفضيلة السياسية أوالفكرية أوالأخلاقية وسط بين رذيلتين، وانّ المثقف حارسُ قِيّم على عكس السياسي الذي هو قانصُ فرص .و المثقّف لن ينهض بدوره على الوجه المطلوب إلاّ إذا خرج من ضيق الأيديولوجي والمصالح الحزبية إلى أوساع الثقافي والهموم الوطنية. الشاعر طارق البوغديري استقالة المثقف من الممارسة الثقافية الموازية للممارسة السياسية وراء تفاقم العنف عندما نحاول النظر بشيء من الموضوعية في تطور العنف السياسي في بلادنا سنجد مسببات عدة لهذه الظاهرة المستجدة في بلادنا و أهم سبب هو استقالة المثقف من الممارسة الثقافية الموازية للممارسة السياسية. في الحقيقة الثورة التونسية التي فتحت الباب أمام الربيع العربي و التي اتسمت بالسلمية قد دفعت دوالبها تعابير ثقافية بامتياز فلقد كان للغناء و الشعر و الرسم دور هام في دفع سيول المتظاهرين للشارع و لخلق الحماسة ففي الموسيقى كان لما يسمى الراب دور في شحذ العزائم و في الرسم كان للقرافيتي دور في التعبير عن مطالب الشعب التونسي و أيضا كان للشعر دور في تحديد المطالب التي رفعت في شكل شعارات و لعل اهمها " اذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر " و من الملفأت المركونة دون تنقيب فيها أن الخطاب الديني و الاديولوجي قد غاب ابان قيام الثورة في بلادنا لكن مباشرة بعد 14 جانفي 2011 بدأ شبح العنف يطل علينا و تقهقر الفعل الابداعي لتعوّضه الممارسة السياسية و كفعل مضاد بدأ العنف يستشري تحت أكثر من غطاء و هو في غالبه ممنهج وراءه قوى الردة من أزلام النظام البائد و على سبيل المثال نذكر اثارة النعرات العشائرية و الجهوية لكن الأخطر من ذلك هو التصادم الثقافي الناتج عن نية مبيّتة لتمرير خطاب ديني وافد علينا كمد تكفيري وهابي يريد أن يتغلغل في عقول البسطاء باسم نصرة الدين و الهوية و لقد وجد ارضية خصبة خصّبها التضييق على حرية المعتقد في العهد البائد فتولد ما يمكن ان نسميه انفلات عقائديّ على حساب فكر الاعتدال في بلادنا و ثقافة التسامح التي اقتات منها مجتمعنا النخبوي على امتداد سنوات والخطأ الفضيع أنه لم يحاول تقريبها للعامة لتترسخ في عقول و نفوس البسطاء خاصة من الشباب محدود المستوى التعليمي فبدأت تظهر الخطابات المتشنجة في المساجد و تطورت بسرعة الى حد التكفير و الدعوة للقتل و قد أدى هذا الانفلات العقائدي في غياب مراهنة أحزاب اليسار و اليسار القومي على مشاريع ثقافية أثناء الحملات الانتخابية لفتح المجال أمام الحركات المتأسلمة للوصول للحكم و هذا مثل غطاءً لهذه الحركات لتمرير مشروع ثقافي بديل ينخر في جسد مشروع ثقافي اتسم لقرون بالاعتدال و الوسطية والانفتاح فبدأت عملية حرق لمقامات الأولياء الصالحين و الغاية ضرب الذاكرة الثقافية التونسية في العمق و نحن نعلم علم اليقين أن الفكر الوهابي هو الوحيد عدو هذا التعبير الثقافي و لم تحرك السلطة ساكنا أمام هذا الاعتداء الصارخ و هكذا استفحل العنف و كانت اخطر وجوهه الدخول في مرحلة الاغتيالات لعناصر امنية من طرف خلايا ارهابية استطاعت في ظرف أمني غير مستقر في ليبيا الشقيقة ادخال السلاح و استعماله في وجه الأمن و تواصلت سلسلة الاغتيالات لتطال واحدا من حركة الدعوة و التبليغ تلك الحركة الوسطية التي كانت متعايشة مع مجتمعنا واستهدف الداعية لطفي القلال بعد خروجه من صلاة الفجر ثم اغتيل ايضا الناشط السياسي في حزب نداء تونس لطفي نقض ففي مرحلة أولى كان السلاح المستعمل هو السلاح الأبيض لكن أخطر عملية اغتيال هي اغتيال امين عام حزب الديمقراطيين الوطنيين شكري بلعيد بعد تعرضه لأكثر من تهديد و بشكل مبيت و منظّم و هي الحادثة التي جعلت كل العلمانيين و المفكرين و الفنانين و الأدباء يقفون وقفة تأمل للتلفّت تلفّت القلب و العقل للماضي القريب من أجل استنتاج خطر الفراغ الثقافي الذي تعيشه البلاد ذاك الفراغ الذي عششت فيه حركة ترهيب الفكر و في الحقيقة الرهان الكبير هنا هو رهان على المثقف التونسي ليلطّف الشحن السياسي فتنفرج عقدة الفكر عند التونسي و لنا من الطاقات الابداعية ما يمهد الطريق لبناء ثقافة بديلة قادرة على النهوض بالمشروع الفكري البناء وهو أمر مرتبط بارادة عامة ينفذها المثقف بدرجة أولى و الاعلامي بدرجة ثانية فنحن اليوم في حاجة ماسة لتقليص المساحات الاعلامية السياسية لصالح المساحات الثقافية كما نعول على الجمعيات الثقافية كي تكون أكثر فاعلية في تلطيف الأجواء المشحونة ومن الضروري أيضا تفكيك المؤسسات الموازية للدولة الأمنية منها و الدينية و التعليمية حتى فتستعيد وزارة الشؤون الدينية الدور المناط بعهدتها و وضع المدارس القرانية المستحدثة في بلادنا تحت طائلة القوانين و ضرورة النظر الى الخطر الذي يتهددنا بكثير من الجدية و الحذر بتفكيك هذه المعضلة و استنتاج مواطن الداء. عنف السّلطة هو العنف الوحيد المُمنهج الشاعر والروائيّ لطفي الشّابي علّمنا التّاريخ أنّ الأقوى، مهما كان مقياس القوّة، هو الذي يضع القوانين ويحرص على فرضها مهما بدت مجحفة بحقّ الأضعف. والتّاريخ يقول لنا دائما إنّ أنجع طريقة يعمد إليها صاحب السّلطة هي العنف المنظّم والمؤسّس على منطق ينتهي في أغلب الأحيان إلى إدراك أهدافه وجني ثماره. ولكنّ التّاريخ يقول أيضا أنّ منطق العنف وإن كان ناجعا في أغلب الأحيان، فإنّه لا يستطيع أن يحقّق أهدافه باستمرار. فنجاعته مؤقّتة دائما، بل لعلّ ما يعتمده من عنف ينتهي دائما إلى عكس ما يطلبه، إذ غالبا ما يكون من يعتمد العنف الممنهج ضحيّة ذلك العنف، وفي هذه الحالة يكون السّقوط مدويّا وفظيعا. وحين نتحدّث عن العنف الممنهج فإنّنا نعني المؤسّسة (الدّولة أو ما يقوم مقامها داخلها أو موازيا لها أو مناوئا) التّي تحرص عادة على تقنين العنف والتّنظير له وتبريره إلى الحدّ الذي يستوي مشروعا أو ضروريّا. ومن أهمّ النّماذج التّاريخيّة التّي تؤكّد ما ذهبنا إليه، هي نظريّة " العين المفقوءة " التي نادى بها كيسنجر وزير خارجيّة أمريكا الأسبق عقب إدانة المجتمع الدّولي لمجزرة صبرا وشاتيلا التي ذهب ضحيّتها أكثر من ثلاثة آلاف فلسطيني وبطريقة بشعة لا يزال العالم يذكر آثارها. ما قاله كيسنجر معلّقا على الضجّة التّي أحدثتها تلك الجريمة في مختلف أنحاء العالم، إنّ ذلك لم يكن ليحدث لو فقأت إسرائيل أعين الصّحفيين الذين يُعتبرون في تلك الحالة أعداء، والأعداء يمكن قتلهم في ساحات القتال. وقد كانت تلك النّصيحة ناجعة في نظر الإسرائيليين، فعمدوا إلى التخلّص من الصّحفيين بقتلهم بطريقة ممنهجة ومنظّمة. ثمّ انتحلت الكثير من الحكومات الجائرة هذه الطّريقة في كتم الأصوات المناوئة التّي تقف في وجه الظلم وترفض الصّمت على الحقيقة. ولعلّ ما تعيشه تونس منذ قيام ثورة 17 ديسمبر 2010 يؤكّد أنّ العنف الممنهج أصبح هو اللغة الغالبة والصّوت الأعلى كما تؤكّده الأحداث الأخيرة التّي انتهت بتدشين عهد الاغتيالات السيّاسيّة التي لم تعرفها البلاد في تاريخها الحديث أبدا. إنّ اغتيال المناضلين بهذه الطّريقة البشعة والوقحة ( في وضح النّهار ) أصبح يهدّد البلاد بكسر شعار الثّورة العظيم: "لا خوف بعد اليوم! " الذي فتح بوّابة الحريّة والكرامة وفجّر منابع الحقّ وكلّ القيم التّي تناضل من أجلها الشّعوب منذ عصور. وليس من العسير أن نفهم أنّ من يقف وراء هذه الموجات من العنف المنظّم هي الأطراف المعنيّة بالمحافظة على النّفوذ أو بالتّأسيس لنفوذ جديد على أنقاض القديم المتآكل، ولكن من المهمّ أن نبحث في العوامل الكفيلة بإجهاض مثل هذه المشاريع والوقوف دون إعادة بناء منظومة استبداديّة جديدة قد تكون أشرس من سابقتها وأعنف. ولستُ ممّن يعوّل على السياسيّ في بناء منظومة حكم حكيمة تعتمد على ثوابت الفكر الإنسانيّ وعلى تراث القيم الأثيل، ولكنّي من القائلين بأنّ المثقّف والمبدع مهما كان مجال الإبداع الذي يمارسه، هو حجر أساس كلّ مشروع حداثيّ في المجتمع. إنّه لا غنى في نظري عن ثورة ثقافيّة واعية منظّمة تحدّ من هذا المدّ الفوضويّ الذي أنتج تفاقم الخطاب العنيف في كلّ مجالات الحياة الاجتماعيّة بسبب انهيار حاجز الخوف وتراجع سيطرة الدّولة على المؤسّسات واستشراء النّزعات الانتهازيّة والمقولات النفعيّة التي لا تعرف حدودا ولا تعترف بغير المصلحة الذّاتيّة الضيّقة الآنيّة مطلبا. إنّه من المؤسف أن نرى اليوم عددا كبيرا من مثقّفينا يركبون المركب الذي يركبه السّاسة والعامّة على السّواء، أعني المصلحة الشّخصيّة، يلتمسونها بالتقرّب من السّلطة القائمة بالجبن عن المواجهة أو بغضّ النّظر عن المطالب الكليّة في سبيل تحقيق المطالبة الجزئيّة. إن خيانة المثقّف هي الخيانة الأخطر في نظري، لأنّها خيانة تقتل الثّورة وتُجهز على أهدافها. فإذا كان عدد كبير من مثقّفينا ومبدعينا قد فاتهم قطار الثّورة فركبوه وقد انطلق ودارت دواليبه طاحنة آلة الاستبداد ومديريها، فما عليهم إلاّ أن يتداركوا تقصيرهم ويحرسوا القيم التّي نادت بها الثّورة ويدفعوا باتّجاه تحقيق أهدافها. فلا معنى في اعتقادي لفنّان لا يستلهم فنّه من قيم الثّورة، ولا مجال للحديث عن مثقّف يركن إلى المهادنة ويجنح إلى الاستخفاف بالاستبداد وهو جنين، لأنّه سيكون أوّل ضحاياه حين يشتدُ عوده وتنمو مخالبه. الأستاذ طاهر العجرودي "العنف التونسي" يحتاج إلى مقاربات جريئة العنف الممنهج عند شق من بعض المجتمعات طريقة عيش ،هناك فئات و أحياء و مدن في العالم نتذكرها دائما... بعنفها و قسوتها و عيشها داخل جدليته المتجددة بل يصبح عندها منتجا اجتماعيا خالصا يوفر أسباب العيش وفرص الثراء بل إن اسمه يختفي ليتحول إلي استيهامات تجعل من هذا السلوك رديفا للشجاعة و غيرها من النعوت التي تصيره ضرورة اجتماعية في اوساط معينة . هنا تونس.... بعد انتفاضة (ثورة) عصف بالسائد اجتماعيا و أخلاقيا عصفت بكل شي سحبت البساط من تحت الخواء الهائل الذي عاش فيه مجتمعنا طيلة عقود من الزمن وفي طريقها لنسف كل ماهو سلبي عبثت كذلك ... بالتراتبية.... بتقسيم النخب وتوزعها.... بمنتجي الأفكار و مستهلكيها ...وسط هذا الركام الهائل هل يحق للملاحظ و الدراس أن يتسائل عن أسباب هذا العنف المتوالد يوما بعد اخر والمتفشي في زوايا الحراك الاجتماعي ؟ لابأس من القيام بمراجعة بسيطة لتاريخ أفكار العنف * يقول قابريل مارسيل :يعود أصل العنف إلى قصد عدواني متجه نحو شيء أريد نفيه نفي الآخر الذي أحقد عليه وأكرهه أو آخذ في تحطيم نفسي التي اكرهها. *يقول الأديب الياباني يوكو ميشيما مبررا العنف: بأنه استرخاص للحياة عندما أرى أن هوية اليابان الثقافية مهددة امام الغزو الغربي واختار الانتحار على الطريقة اليابانية شق بطنه بنفسه قبل أن يقطع رأسه * اما عند المسلمين فاللجوء الى العنع يبرره الدفاع عن النفس او الوطن كوسيلة ضرورية للجهاد في سبيل الله و لبناء دولة الإسلامية ولو أن الاختلاف مازال قائما حول طريقة استخدامه. * أما عند أنجلز فالعنف هو أصل البناء: فأمام العنف الاجتماعي المقنع اللامساواة الاجتماعية. الطبقية و اللاعدل،و الاضطهاد. الاستبداد والتعسف، يوجد عنف مضاد عادل هو العنف الايجابي البنّاء الذي يهدف الى تصحيح الوضع ومنع السلطة من استبعاد شعوبها . فالثورة الأصلية في أساسها أخلاقية أمام الاضطهاد و الظلم حيث تسترجع الحق المسلوب وتحقق العدل . لعل السؤال الأجدر بالطرح هل أن ظاهرة العنف الممنهج الذي يبرز بين الفينة و الاخرى في تونس اليوم يعتبر مفاجئا ام هو كمين الجسد الاجتماعي التونسي حيث كانت الأنظمة ماقبل 14 جانفي 2013 تعالج هيجانه بالمسكنات المختلفة دون مسالته وتقنينه ؟ يبدو ان ذلك صحيح الى حد ما وكل منا يدرك اننا كنا اما ظواهر محلية عنيفة تدرجت من اللفظ الى اللكم وصولا في المدة الاخيرة إلى سلب حق الحياه هل المجتمع التونسي مجتمع عنيف ؟ اغلب توصيفات علماء الاجتماع في بلدنا والتي تبتعد عن المقاربات السياحية للمجتمع التونسي تقرّ بوجود استعداد لممارسة العنف لدى التونسي وهو استعداد تلاحظه الدراسات التاريخية منذ انتكاس الدولة الحفصية و تعرض البلاد التونسية لهجمات عسكرية و ثقفية متعددة وصولا إلى الاحتلال التركي و دولة الاستقلال حيث لم يمارس التونسي حقه في تونس بل كانت اغلب تحركاته ردات فعل متوالية جعلت منه كائنا متحفزا مستعدا للمناوشة والدخول في حوارات خاصة تعتمد في اغلبها على مدونة العنف بكل تمظهراته مالحل؟ عندما كتب سارتر كتابه (عارنا في الجزائر، 1961) لم يتملكه الحياء، ولم تمنعه النعرة القومية الفرنسية - وهو المثقف الليبرالي النبيل- من أن ينتقد أمته فرنسا، والجيش الفرنسي، ويرميهما بالعار والشنار، عما كانا يفعلانه بالشعب الجزائري. وندد بشدة بالحكومة الفرنسية وبالمثقفين اليمينيين الفرنسيين، ووقف مواقف ايجابية تجاه المعذبين الجزائريين. المثقف اليوم امام لحظة تاريخية فارقة لاستعادة مكانه لمواجهة كل ظواهر الانحراف في السلطة و المجتمع و لمواجهة الإمراض الاجتماعية و من ضمنها العنف المتفشي داخل مفاصل المجتمع ...، عليه باستعادة شجاعته المغدورة سابقا و الخروج من الصف و الانتظام بعيدا مفارقا للإجماع و التمجيد و التهليل و الانتباه لمشاكل بعيدة وغض الطرف عن مشاكل مجتمعه الحقيقية ؟ لاتوجد أفضل من هذه الفرصة التاريخية للمثقفين و الفنانين ووسطاء الفعل الثقافي للعودة إلى مربعهم الحقيقي بعيد عن السلطة وقريبا من اهلهم للقيام بدورهم العضوي في مقاربة كل المشاكل الجتماعية لا حل في اعتقادي إلا بالدفاع عن مناخ الحرية و الحوار ...العنف كل العنف الذي تضيق مجال هذه المقاربة عن توصيفه و رصده هو نتاج للكبت و لغياب وسائل التعبير و البروز و التمظهر السلمي للأفراد و المجموعات، لابد من استيعاب ديناميات الهوية ولتثاقف و الاختلاف داخل مجتمعنا المحلي التونسي. لابد من شجاعة مطلقة لقبول الاختلاف في اللباس و الهوية و الممارسة ، أن أسطورة التماثل و الاختلاف و الوحدة الوطنية و الصفوف المتراصة لن تقود سوى لمزيد من الحطب لإشعال عنف اخر متجدد . الشاعر عادل أحمد العيفة سقط رأس الجسد المتعفّن و بقي الجسد الباقي يتلوّى عاشت بلادنا في السنوات الأخيرة منعرجا تاريخيا حاسما تمثل في سقوط رمز من رموز الإستبداد و الضيم، وقد أفرز هذا المنعرج تغييرات جذرية على جميع الأصعدة، و نستهلّ ذكرنا لهذه الأحداث بالحديث عن الجانب السياسي فقد سقط رأس الجسد المتعفّن و بقي الجسد الباقي يتلوّى مُخلّفا ارتباكا واضحا في الساحة السياسية، فما يطلقون عليهم تسميات عدّة ك "الفُلول" أو "الرِّدَّة" هُم قوى مضادة تشدّ البلاد إلى الخلف و لا تُسلِّم بحتمية التقدُّم إلى الأمام و تجاوزحقبة مظلمة من تاريخ البلاد ، بَيْدَ أنَّ جيلا جديدا انتهجَ الحوار مسلكا جدّيا لِتجاوُز كَبَوات الماضي و 0نْكبَّ بجدّيّةٍ على دراسة الواقع و مَلامحه المتباينة، همُّه في ذلك الإرتقاء بِحالة البلاد الراهنة و الخروج من المرحلة الصعبة بأخفّ الأضرار، نابذا العُنف الفكري و كلّ أشكال الحَيف والتَفَرُّدِ بالرأي الواحد، المرحلة تقتضي مَتانةً في المواقِف وصَرامةً في الفعل، الوطن في خدمة الفَرد والفَرد في خدمة الوطن. وقد أفرزت التغييرات السياسية الراهنة تأزما اقتصاديا واضحا جرّاء الحراك الشعبي للفئات الشعبية الفقيرة فهي تريد النظر الفوري في مشاكلها العويصة، والجدير بالذكر كذلك أنّ فئات العمّال كعُمّال الحضائر وعمّال البيئة تطالب ب0لزياة في الأجور، كما طفتْ على السطح ظواهر جديدة مثل الإضرابات والإعتصامات ووصل الحدّ بالمُحتجّين إلى قطع الطُّرُق العامة لِلفت 0نتباه الحكومة بِأحقّيتهم في الشّغل مِمّا أثَّرَ سلبًا على الوضع الإقتصادي ، إذ 0شتعلت الأسعار و بلغت نسبة التضخّم المالي بتونس 5.7 ٪ سنة 2012 و ذلك حسب آخر تصريح لجريدة "تونس اليوم". وَ قد ظهرت مؤخرا بوادر فتنة و أحداث عنف قد زادت الطين بَلّة، انطِلاقا من أحداث الصراعات "العُروشيّة" مع نهاية سنة 2011في أماكن متفرّقة و لعلّ أبرزها أحداث مدينة "المتلوّي" الواقعة ب0لجنوب التونسي , وُصولا إلى حادثة اغتيال المحامي و السياسي و الأمين العام للتيار الوطني الديمقراطي شكري بِلعيد التي كانت بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، إذ كانت الحادثة بمثابة الضربة الأولى لناقوس الإغتيالات السياسية ،و هنا استنفرت جُلُّ فِئات الشّعب و خاصة فئة السياسيين و المثقفين الذين تباينتْ رُدود أفعالهم، و على الرّغم من الإختلاف إلّا أنّ حبل النّجاة الذي جمعهم و تعلّقوا به هو حبّ الوطن . فالوضع الراهن يُحتّم على المثقّف أن يظهر بفكره لينير الأمَّة ،و يرتقي ب0لذوق العام من رتبة الفوضى الهَدّامة إلى الخَلق الفِكري الذي يتبلور في أبسط الأشياء ظاهرا و أعمقِها باطنا كمُجايَلة الطّفل ، محاوَرةُ الكبير للصّغير و محاولة فهم تَطلّعاته هي المجايَلَةُ الحَق ،تلك التي تُبنى أساسًا على الإدراكِ و الوعي بمتطلّبات الآتي . يَقول "فرويد" : "محاوَرة الطِّفل كالمَشيِ في الوَحَل ، فَتَوَخَّ الحذر" . إنّ إدراك الشعوب لقِيَم الحِوار و التشارُك المدني الحقيقي بين مختلف الأجيال و تكامل مختلف هياكل المجتمع المدني لخلق مناخ متجدّد و مواكِب لسيرورة الأحداث التاريخيّة هو الضامِنُ الأمثلُ للتَّكيّف مع الضّروف السياسية الطارئة على الشعوب .و يعتبر 0ختراق بعض الظواهر السياسية الخطيرة لِلمَسار السياسي المحلّي، كظاهرة الإغتيال السياسي حُجَّةً صارخةً على هشاشة الأُسُس الثقافيّة الوطنية و انهيار الوعي الفِكري الشَّعبي الذي مازال متشبّثا بعادات شعبيّة و قيم بالية ، مُغتربة عن واقعها اليومي، إذ تقوم على الخرافة و الشعوذة و "التعزيم" و تكريس الرّأي الواحد القائم على مفاهيم الزجر و العِقاب و تهميش مكانة المرأة، و جعلها كائنا تابعا و مُكَبَّلًا بِأَغلال الفِكر المُتَحجِّر. هنا، في هذا الجوّ الضبابيّ يَكون المثقّف مَدعُوًّا لِتعديل الخِطاب العام ، الذي تشوبُهُ التجاذبات الحِزبية والتكفير ، إذْ أنّ غياب الحِسّ الثقافي و الفنّي عن المجتمعات يَنتُجُ عنهُ بَحثُ الأَفراد عن إفراغ كَوامِنِهم بِسلوكات تَصوغ ذواتهم المَكبوتة، تبلغ حدّ الإنحِراف و الجريمة. يقول العالم الألمانى "جيرهارد روث" العالم بعلم الأعصا : "الفعل الناتج عن فعل المنحرف هو غياب الوسيلة التعبيرية المناسبة في الوقت الحسّاس" . إنّ حادثة 0غتيال الشهيد شكري بلعيد تتجاوز حدود اغتيال انسان يؤمن ب0لتفتّح و الفِكر البنّاء، هي 0غتيال للفِكر الحُرّ في وطن يدخلُ منعرجا تاريخيا حاسِمًا، هي كتابة بحبر الدّم لشعب يلتمس طريق البِناء تحدوهُ الرّغبة لتجاوز إحباطات السياسة في حقب مريرة متوالية و مراجعة الموروث و نقد السائد و غربلة الوافد. إنَّ بِعُهدَةِ المُثقّف اليوم في تونس مُهمّة مصيرية، وهي الإجتهاد للتقليص من الفجوات بين الطبقات السياسية والإجتماعية وإيجاد روابط، ومناخات صالحة للحِوار والتعدُّد والتّصدّي لكلّ أشكال العنف، هذا هو الكافل الوحيد لإيجاد التّوافُقِ لترسيخ الأمَل، توفيرا لمُقوّمات النّجاح ودَحر أسباس التَّقَهقُر. سامي السنوسي شاعر و كاتب-عضو مؤسس نقابة كُتّاب تونس- "إما مثقف له ميول "أشعبيّة" أو مثقف صالونات يجلس في برجه العالي " يقول ادوارد سعيد: " نّ إحدى مهام المثقف هي السعي لكسر التصنيفات المقَوْلبة والمختزلة التي تحدّ من التفكير والتواصل الإنساني. لم توجد ثورة رئيسية في التاريخ بدون المثقفين وعلى نحو معكوس لم توجد حركة مضادة للثورة بدون المثقفين. عليك أن تستمر بتذكير نفسك انك كمثقف أنت القادر على أن تختار بين الايجابي : وهو أن تقدم الحقيقة على أحسن وجه، والسلبي وهو أن تسمح لراعٍ أو سلطةٍ أن تُوَجّهك. " ما قاله ادوارد سعيد يُثبِت الأسبقيّة الأزليّة للحرية على أيّ قالب قانوني أو ترهيبي يكتبه الأقوياء حسب البعض،لذلك حتى و إنْ صاغه الأسوياء فإنّ الإشكاليات التي دائما ما تنجبها الحرية ،تجعل القالب القانوني في حالة لهاث متواصلة لتقنين و لَجْم هذا الهامش الذي لم يتوقّعه صائغو القانون. كيف يمكن الموازنة بالقسطاس بين مبدأ الحرية و بين ضرورة تقنين ذلك دون المس من تلك الأسس بما يسمح بترسيخ تلك القيم دون سقوط في الفوضى المطلقة أو الزجر المؤدي إلى تكميم الأفواه لغايات سياسية لا تتجاوز فرض السيطرة المطلقة على كل مفاصل المجتمع و إعادة إنتاج نسق ديكتاتوري في باطنه، ديمقراطيّ في شكله يرهن المثقف لنزواته و طلباته التي لا تنتهي إلاّ...بزواله و لو بعد حين!. إنّ تغييب المبدع عن الشأن الجماعي و محاولة حصره في أتون التهويمات و السُّكْر و السلوك "الأشعبي" ،فيه ظلم و ضَيْم لمن ناضلوا شارعا و نصّا .نعم!،لدى المبدع العضوي على قول غرامشي،ما يكفي لقراءة نقدية موضوعية للواقع السياسي إذ لا يمكن الحديث عن حرية الإبداع إن كانت الصحافة ملجمة، ولا يستقيم التبجح باستقلالية الإعلام إذا كان القضاء غير مستقل.إنّ العنف اللفظي والمادي على المثقف ليس مرتهنا للفوضى السياسية التي تعيشها البلاد اليوم، لقد بدأ في "عمله" منذ اليوم الأول بعد الثورة وهو ليس نتاج انفلات عادي في ظرف غير عادي بل سياسة ممنهَجة تمهّد بالقوّة لاستيراد ثقافة ظلامية هجينة ودخيلة على ثقافتنا الاجتماعية الوسطية،لذلك فإنّ للعنف مستوايين:مادي "شارعي" وآخر قانوني ما دمنا في مرحلة تأسيسية تستجيب لصاحب الأغلبية في الصندوق، فما الذي يمكن لكتاب شعر أو رواية أو دراسة نقدية في علم من العلوم الإنسانية أن يُسّببه من إخلال بالنظام العام أو تهديد للأمن العام؟ ثمّ مَنْ سيكون له "شرف" تأويل قصيدة شعر قوامها المجاز و الاستعارة ليجعل من أبياتها دليلا على إدانة الشاعر و اعتبارها تحريضا على الدولة بمفهومها المؤسساتي أو مسّا بالمقدّسات؟ ،هل هو القضاء ؟ ،ما علاقته بالإبداع الفني؟،هل هو العنف المباشر المبرَّر بالمقدس؟ ،في هذه الحالة سيكون من الطبيعي تبرير تجريم الشعراء و الأدباء و الكُتّاب الذين ساهموا في تثوير مسار 17 ديسمبر-14 جانفي من طرف نظام بن علي لو لم يسقط كقطع الدومينو ،و دائما تحت شعار تطبيق القانون الذي يرفض التحريض في مفهومه الإبداعي!.ثمّ والأخطر من ذلك ماذا لو كان القضاء غير مستقل ؟، هذا يعني و بكل وضوح أنّ تجريم المبدع يبقى بيد السلطة الحاكمة تُحرّكه عن طريق العنف أو بالقضاء كلّما ابتعد في كتاباته الابداعية عن ما تعتقد أنه صفّها مع أنّ دوره الرئيسي هو المضيّ قُدُما نحو أقصى ثنايا الحرية دون بحث عن إرضاء أو محاباة كائن مَنْ يكون. بعيدا عن تقزيم دور المثقف في إنجاح سقوط النظام البائد،و بعيدا عن حمى الثورية المتأخرة كمراهقة الشيوخ، يبدو أنّ الاهتمام بأهمية الثقافة في تكريس سيادة الشعب ستتطلّب سنوات طويلة. فمقابل الحضور الطاغي بل الممجوج للسياسي و الحقوقي ، نلاحظ تغييبا كاملا للمبدع في الشأن العام ،و مردّ هذا التغييب،التسليم بانتفاء أي دور له في الشأن الاجتماعي و السياسي. و هذا الطرح لا يختلف عن الدور الذي قام به مثقفو الخدمات في العهد البائد،فهؤلاء كانوا يبرّرون الواقع السياسي دون أن يكونوا فاعلين فيه بل و عملوا – و بإرادتهم- على أن يكونوا لعبة لضرب كل نفس وطني غرّد خارج سرب المناشدة و لعلّ الظروف القاسية التي تأسست فيها نقابة كتّاب تونس في جويلية 2010 ،و عدم الاعتراف برابطة الكتّاب الأحرار و رحيل المناضل الحقوقي عبد القادر الدردوري حرقة على كتابه الذي وقع حجزه، و تعرّض العديد من المبدعين إلى تعطيل إصدار كتبهم بالضغط على دور النشر دليل من الأدلة الكثيرة على ارتهان المشهد الثقافي بمدى قربه أو ابتعاده عن السلطة القائمة. و هذه العقلية تواصلت مع الأسف بعد 14 جانفي ،و إنْ بطرق و وسائل مختلفة في آلياتها الانتهازية ،و متّفقة في نتائجها و هي محاولة إعادة التموقع في المشهد المطل على الخيرات.:فمن كان مناشدا لبس رداء الثورة و أطلق العنان لكل مواهبه في الخطابة و الكتابة. من تحبير التقارير إلى كتابة القصائد السريعة الممجدة للثورة، و من منظّر للخطاب السياسي السابق إلى دكتور في الديمقراطية .والمضحك المبكي في هذا الخطاب عدم استيعابه لقدرة الشعب على تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود.و هذه الممارسات تمثل عائقا أمام تحديد مفهوم جديد لدور الثقافة في مستقبل البلاد. في المقابل ،يقف المثقف المناضل الذي التصق بهموم شعبه سنوات الجمر و تأذى من التهميش و الهرسلة ، حائرا ،تائها ، فهذا المثقف الذي نحترم نضاله و إبداعه قبل 14 جانفي ، مازال يفكر بعقلية الاحتجاج و المعارضة متناسيا أننا نعيش مرحلة ثورية بامتياز لا معنى فيها لكلمة "معارضة" لانتفاء سبب وجودها و هي السلطة المقابلة،و يبدو أنه لم يستوعب سرعة سقوط النظام السابق فبقي محافظا على نفس آلياته في فهم و تحليل الواقع و الاحتجاج عليه. على هذا المثقف المحترم أن يساهم في تأسيس ثقافة بديلة قوامها الانتصار للإبداع ،الانتصار لقيم الحرية و حق الاختلاف و لمفاهيم الحداثة و حقوق الإنسان. لم تكن الثقافة يوما كتابة و مسرحا و سينما فقط ، بل هي روح المجتمع المتطلّع للكرامة و الحرية و العدالة الاجتماعية . و في هذا الإطار ،نلمس خطورة الدور الموكول للمثقف:كيف يمكن له تجذير هذه القيم لدى عامة الناس حتى لا يزورنا نظام كلياني جديد ؟ إنّ هذا الدور الذي خيط فقط للمثقف،استفرد به الآن السياسي و الحقوقي .كيف يمكن للأحزاب التنظير لمفاهيم الحرية و الكرامة دون أن يكون لهذه التنظيرات وسائل عمليّة على أرض الواقع؟ كيف يمج الحقوقي – مع احترامنا لإضافاته- أسماعنا بالحديث عن قوانين تحفظ هذه القيم دون أن تكون متجذّرة في الوجدان الشعبي البسيط؟ أليس هذا دور المثقف الذي عليه أن يناضل للقيام به على أكمل وجه؟ إنّ سياسة التفقير والتصحّر الثقافي التي مارسها النظام البائد ساهمت في إعطاء صورة مشوّهة عن الثقافة ،و المثقف، تلك الصورة النمطية المتداولة عند العامة:إما مثقف خدمات و له ميول "أشعبيّة" يميل حيث الدينار يميل، أو مثقف صالونات يجلس في برجه العالي . فالجميع الآن يتحدث عن أولوية التشغيل و إحداث المؤسسات و الاستقرار ، و لكن لا أحد سأل نفسه،كيف يمكن اجتناب تكرار الممارسات الدنيئة التي تعيق هذه الأولويات كالرشوة و المحسوبية و استغلال النفوذ؟ المثقف وحده قادر على إيجاد الآليات الكفيلة بعدم تكرارها و هنا يأتي الدور الخفي الذي يجب أن يقوم به لتجذير ثقافة المواطنة و علوية القانون و تكافؤ الفرص. الآن و قد فتحت أبواب العمل الجمعياتي ،على المثقف أن يبادر بتكوين جمعيات مختصة . فلكل جهة من بلادنا لها خصوصيات مميزة و تكوين جمعيات ثقافية تأخذ بعين الاعتبار تلك المميزات، يقرّب الفعل الثقافي إلى العامة و يبسّطه . يجدر التأكيد هنا على ضرورة أن تلتزم هذه الجمعيات بأهدافها و أن لا تصبح واجهة لحزب سياسي ما يسيّرها حسب أهواء رجال السياسة. كلمة أخيرة للمثقف: إنّ عدم القدرة على الفعل نتاج موضوعي لعدم القدرة على القرار و تحمل المسؤولية . و الاستقلالية لا تعني الاستقالة من الشأن العام بدعوى الحياد ،بل يجب دخول معمعة العمل الابداعي و الجمعياتي و النقابي و السياسي بروح المسؤولية و الاجتهاد .فما نراه الآن هو إعادة تموقع من هؤلاء المستقيلين المستقلّين المتسلّقين ،إنهم يبيعون الكلام و نقيضه،هم مع اليمين و لكن ،هم مع اليسار و لكن،هم مع الوسط و لكن .... إنّ عدم القدرة على اتخاذ المواقف و الدفاع عنها و تحمل مسؤوليتها أمام الرأي العام دليل على انتهازية بالية تتلوّن حسب الأزمنة و الأماكن ،فهي ثورية الآن ، و غدا ترتدي رداء الجمهورية المنشودة و ربما لباس دكتاتورية بدأت تطل علينا من كُوَّة قريبة... يقول أنطونيو غرامشي: يبدو أنَّ التاريخَ ليْس إلا ّ ظاهرةً طبِيعيَّةً هائلةً ، بُرْكاناً ،زِلْزالاً ، نحنُ كُلُّنا ضَحاَيَاها،سواء مِنَّا صَاحِبُ الإرادَة ،أمِ اللاّمُبَالي ،ويَصِيحُ هذا 0لأخيرُ مُهْتاجًا .إنَّه يُرِيدُ أنْ يَفْصِلَ نفْسَهُ عَنِ النّتائجِ لِيَجْعَلَ مِنَ 0لْوَاضِحِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَاغِبًا في 0لأمْرِ وَ لَيْسَ مَسْؤُولاً عَنْه ، و لَكِن أَحَدًا تَقْرِيبًا لاَ يسْألُ نَفْسَهُ :" لَوْ فعَلْتُ أنا أيْضًا واجِبي ، و لَوْ سَعيتُ إلى جَعْلِ إرادتي وَ رَأْيِي يتغَلَّبَان ، هَلْ كان لِهَذاَ أَنْ يَحْدُثَ؟"