لا حديث بين السلطة وخصومها في المعارضة خارج "اللاءات" المرسلة بين هذه الجهة وتلك، فالسلطة على لسان الوزير الأول وأيضا من خلال الأمين العام للأرندي عبد القادر بن صالح، لا تريد أي صوت يعلو على صوتها، وترى في المشاورات حول الدستور "الفرصة التي لا يجب تضييعها" من قبل المعارضة، بعدما رفضت السلطة كل حديث عن المرحلة الانتقالية أو حل البرلمان. لكن المعارضة التي نجحت في تدشين أكبر تجمع لها منذ بداية التعددية، تريد الرمي بكل ثقلها لتعديل قواعد اللعبة السياسية وتحقيق "الانتقال الديمقراطي". وفي غياب أي "توافق" بين السلطة والمعارضة واتساع الهوة بينهما، تحولت العملية إلى ما يشبه لعبة كرة الطاولة "البينغ بونغ"، السلطة تقول إن الكرة في مرمى المعارضة، وهذه الأخيرة ترى بعد نجاح ندوتها بأن الكرة في مرمى السلطة. السلطة تعتبر المرحلة الانتقالية طرحا خاطئا ورفضت حل البرلمان مشاورات الدستور كأقصى ”تنازل” للمعارضة أعلن الوزير الأول، عبد المالك سلال، من على منبر مجلس الأمة، عن العديد من ”اللاءات” كرسائل من السلطة إلى خصومها على أنها غير مستعدة لتقديم ”تنازلات”، في وقت قال رئيس الحكومة الأسبق، مولود حمروش، إن الحكومة الحالية ”لا تملك قاعدة اجتماعية وسياسية ولا يساندها أي حزب حتى من الموالاة، فقاعدتها الوحيدة هي الجيش، وهنا تكمن الخطورة، فالجيش ملزم بأن يبقى ويتقوى كداعم للدولة وليس للحكومة”. فهل ما قاله سلال بصوت علني هو ما يجري تداوله داخل الغرف المغلقة للسلطة؟ أم أنه تظاهر بالقوة فقط لفرملة طموحات المعارضة؟ لم يكتف الوزير الأول بالرد على معارضي السلطة، بالقول ”إن الجزائر طوت المراحل الانتقالية ولن تعود إلى الوراء”، لكنه اعتبر ما تطالب به أحزاب المعارضة بالذهاب لمرحلة انتقالية بأنه ”طرح خاطئ”، في رسالة منه أن السلطة ترفض حتى مناقشة هذه الفكرة، متسائلا ”ما الجدوى من الحديث عن انتقال جديد؟”، في محاولة منه لتتفيه وتمييع مطالب المعارضة الذين اجتمعوا في ندوة ”الانتقال الديمقراطي”. وبلغة الواثق من النفس، ذكر الوزير الأول أن المنظمين والمشاركين في ندوة الانتقال الديمقراطي ”أحرار في آرائهم ومن حق كل طرف أي يعبر عن رأيه”، في تلميح بأن حرية التعبير مكفولة في الجزائر، غير أن الأمر غير المكفول هو مدى استعداد السلطة لسماع ما يقوله شركاؤها في المعارضة؟ الجواب جاء على لسان عبد المالك سلال على معارضي السلطة ”يجب أن يدركوا أن الرئيس بوتفليقة حاز على تأييد واسع من قبل الجزائريين في الانتخابات الرئاسية، وأنه معترف به من قبل المجموعة الدولية”، في رسالة مفادها أنها لن تتنازل للأقلية. ويتضح، من خلال الرسائل التي اجتهد الوزير الأول في بعثها إلى تكتلات المعارضة، أن أقصى ”تنازل” تقدمه السلطة المنتشية بالعهدة الرابعة، هو مشروع التعديل الدستوري الذي لم تقص أي جهة من المشاورات حوله، حيث قال سلال إنه ”يود لو تنخرط المعارضة باقتراحاتها في الحوار حول تعديل الدستور”، قبل أن يضيف بن صالح بأن ”مقاطعة المشاورات الخاصة بتعديل الدستور ليست مجدية ولا تؤثر على مسارها”، مستطردا في هذا الصدد بأن ”المعارضة إذا كانت ترغب في التغيير فهذه فرصتها للدفاع عن وجهة نظرها”، ما يعني أن السلطة ستبقى دوما هي القاطرة التي تجر وراءها الجميع ولن تتعامل مع أي مبادرة لا تخرج من رحمها، على غرار رفضها حل البرلمان الذي طالبت به حنون بقوة، وهو ما يفهم منه أن السلطة أدارت ظهرها لخصومها المقربين، وأيضا لنتائج أكبر تجمع نجحت في تنظيمه المعارضة في الجزائر منذ بداية التعددية. فهل تملك السلطة الوسائل لاحتواء شركائها في المعارضة؟ أم أنها مجبرة على الاستماع لغير المنتسبين إليها؟ عندما يقول مولود حمروش إن الحكومة لا تملك قاعدة اجتماعية وسياسية تساندها، فهو ما يعني أن السلطة ليست في موقف المنتصر القوي الذي يفرض شروطه ويحتكم في يده على كل قواعد اللعبة، وهذا الوضع الهش خصوصا بالنظر إلى التحديات الخطيرة المحيطة بالجوار، يدفع السلطة إلى مد يدها لخصومها لتقوية الجبهة الداخلية ب«توافق حقيقي”، إن كانت طبعا تريد حماية الدولة من الانهيار وليس الكرسي. أعدت وثيقة ونصبت هيئة تشاورية المعارضة تريد محاصرة السلطة من كل الجوانب وجهت الأحزاب والشخصيات المعارضة ضربتين للنظام في آن واحد. الأولى أنها حشدت له أكثر من مائتين من أهم المشتغلين بالسياسة ممن لهم حضور إعلامي وسياسي قوي، وحضَّرت له بديلا له في أرضية للتغيير. والثانية أنها قاطعت استشارته الدستورية جماعيا، فحوَّلتها إلى حوار بينه وبين أطراف تدور في فلكه فنزعت المصداقية عن مسعاه. بصرف النظر عما إذا كانت المعارضة المجتمعة في زرالدة بالضاحية الغربية للعاصمة الثلاثاء الماضي، تزن ثقيلا في معادلة الانتخابات، فقد حققت صدى إعلاميا وسياسيا لم يكن متوقعا، لمجرَّد أن سعيد سعدي يجلس جنبا إلى جنب مع علي جدي عدوه السياسي في تسعينيات القرن الماضي، فهو تحوّل لافت في المشهد السياسي في غير مصلحة النظام. ولمجرَّد التقاء الأفافاس والأرسيدي في مبادرة واحدة، هو في حد ذاته مؤشر على حدوث تغيّر في الطبقة السياسية، في غير مصلحة النظام الذي راهن طويلا على استمرار العداوة بين الحزبين، وبين ما يسمى العلمانيين والإسلاميين. حاول النظام، من خلال الاستشارة الدستورية، توظيف ورقة ”التوافق” لجلب المصداقية لمسودة الدستور المنتظرة. فكان الهدف الأول أن يشرك الإسلاميين في المسعى، ولما كان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وجماعته يدركون، مسبقا، أن الأحزاب الإسلامية المعتمدة والشخصيات المحسوبة على هذا التيار لن تزكي خطوتهم، لجأوا إلى جبهة الإنقاذ المحظورة بدعوة بعض قياداتها من بينها عبد القادر بوخمخم. قيادي ”الفيس” قال لقائد المشاورات أحمد أويحيى في رسالة، إنه ممنوع من الاشتغال بالسياسة بموجب قانون، وإنه خاضع للرقابة القضائية منذ 2009، واستغرب أن يكون على هذه الحالة وتصله دعوة رئاسية بصفته ”شخصية وطنية”!. المثير في القصة أن نفس النظام حلَّ ”الفيس” بقرار سياسي ولكن بإخراج قضائي، وحمَّل قادته مسؤولية الإرهاب الذي دمَّر البلاد وحرمهم من حقوقهم السياسية في قانون المصالحة. وبعد كل الحرب التي خاضها ضد الحزب المحظور، يشركه اليوم في مبادرة على درجة كبيرة من الأهمية سياسيا ومجتمعيا، مؤكدا بذلك أن ”الفيس” شريك سياسي كغيره ممن دعاهم لتقديم اقتراحاتهم بشأن الدستور. يحاول النظام حاليا بواسطة مواصلة الاستمرار في استشارة ”ضعاف” الأحزاب و«الشخصيات”، فك الحصار السياسي الذي ضربته عليه المعارضة بواسطة لقاء زرالدة غير المسبوق منذ عقد روما في 1994، لكنه لا يملك سلاحا قويا يمكَنه من ذلك. فالرئيس مريض لا يقوى على ترتيب زيارة ميدانية تجمع له فيها الحشود، فتكون بمثابة رد على المعارضة ينزع عنها المصداقية. والهوان الذي يوجد عليه بوتفليقة اليوم، خدم المعارضة إلى أبعد الحدود. أما الردود التي تأتي من حزبي السلطة، الأفالان والأرندي ضد المعارضة، فتكاد لا تلفت انتباه أحد. فعمار سعداني غارق في مشاكله مع عبد الرحمن بلعياط والفريق الذي يضغط للإطاحة به، وعبد القادر بن صالح مشغول بمواصلة حربه ضد ”إرث أويحيى” داخل حزب كان له وجود سياسي ومواقف لما كان يوصف ب«الثكنة”، ولما كانت هجومات أويحيى على النظام تلقى أثرا في السياسة والإعلام، لكن الآن أصبح قوقعة فارغة يدور فيها بن صالح وجماعته. الجزائر: حميد يس على النقيض الدكتور محمد أرزقي فراد كاتب وناشط سياسي ل”الخبر” “اتفاق المعارضة أصاب السلطة بالهلع” استعرضت قوى المعارضة قواها في فندق مزفران، والسلطة تجاهلت الحدث وتصر على رفض الانتقال الديمقراطي، لمَ هذا الرفض؟ تعتبر الندوة الأولى للحريات والانتقال الديمقراطي لحظة تاريخية هامة صنعتها المعارضة بأطيافها المتنوّعة التي طالما أهدرت طاقاتها في معارك هامشية، كان النظام القائم هو المستفيد الوحيد منها. ولا شك أن المتتبعين لهذا الحدث السياسي البارز، قد لاحظوا تلك الصورة الرائعة التي تبادل فيها الرئيس السابق لحزب الأرسيدي سعيد سعدي التحية مع قيادي ”الفيس” علي جدّي، وبقدر ما بعثت هذه الصورة الأمل في النفوس المتطلعة إلى التغيير، فقد زرعت هلعا في أوساط السلطة. لذا فمن الطبيعي أن يصدر رد فعل عنيف منها، في محاولة يائسة للتقليل من أهمية الحدث. يبدو أن المشاورات حول تعديل الدستور والاستفتاء حوله طريقة السلطة للبحث عن شرعية جديدة بعد نكسة 17 أفريل؟ حكامنا يدركون جيدا أن العهدة الرابعة كانت بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، لأنها ببساطة كانت مرورا بقوة بالتعبير الرياضي، فترشح الرئيس المنتهية ولايته كان على حساب القانون والدستور. إنهم يملكون الأرقام الانتخابية الحقيقية، ويدركون أن الشعب قد قاطع مهزلة الانتخابات الرئاسية بنسبة قد تصل إلى 80 بالمائة. لهذه الاعتبارات تحاول السلطة عبثا الالتفاف على الشعب، سعيا وراء شرعية وهمية قد تخفي فضائحهم لبعض الوقت، لكن هيهات فالسفينة لا تجري على اليابسة، كما قيل. ماذا يجب على السلطة القيام به لوضع حد للاحتقان السياسي القائم؟ إن ما يرجوه الشعب أن تعود السلطة إلى رشدها، وأن تمدّ يدها إلى المعارضة التي أكد الإقبال على ندوتها أنها قوية بأفكارها، ورجاؤنا ألا تضيّع هذه الفرصة السانحة مثلما أضاعت فرصة سانت إيجيديو. ويبدو أن الوضع صعب لأن المستبد الذي يعمّر طويلا في سدة الحكم، ينتهي به الأمر إلى اعتبار نفسه الممثل الوحيد للشعب، بل هو الشعب مثلما أشار الكاتب أحمد بهجت. من مشاكل المعارضة أنها لا تتوفر على أدوات لفرض رؤيتها، ما العمل إذا؟ لقد نجحت المعارضة في تجاوز صراعاتها الإيديولوجية وفي توحيد جهودها وتقديم بديل سياسي جدير بالدراسة والإثراء. إن ندوة 10 جوان 2014، كانت بمثابة منار أخرجنا من عنق الزجاجة، وعلينا الآن أن نحافظ على روح هذه الندوة بتأسيس هيئة ما، تواصل العمل والنضال قصد التوصل إلى اقتراح وسائل إجرائية تبيّن بوضوح كيفية تجسيد فكرة ”الدستور التوافقي” ميدانيا، وتحدد معالم الحكومة الانتقالية. ولا شك أن إنجاز هذه المهام يقتضي أيضا تأسيس لجنة خبراء في القانون تنكب على إعداد مشروع دستور جديد، وعقد مزيد من الندوات، تشارك فيها السلطة. الجزائر: حاوره ج. فنينش عضو المكتب السياسي للأفالان السعيد بوحجة ل”الخبر” ”الانتقال الديمقراطي محاولة من المقاطعين لحفظ ماء الوجه” لماذا هذا الرفض من السلطة وأحزاب الموالاة للمطالبين بمرحلة انتقالية؟ نعتقد أن انتخابات 17 أفريل وضعت حدا للمراحل الانتقالية، فالشعب شارك بقوة في هذه الانتخابات ورئيس الجمهورية حاز بشهادة الملاحظين العرب والأفارقة على منصبه بنزاهة وشفافية، وبتأييد شعبي لا يمكن الطعن فيه، وبالتالي لا يوجد سبب يرجح الدخول في مرحلة انتقالية جديدة، والقول بهذا غير معقول، ويخالف المنطق وحقائق الميدان. هل يعود تجاهل السلطة لمطالب المعارضة لإدراكها ضعف هذه المعارضة أم لرفضها وجود من يقول لها لا؟ نحن الآن في مرحلة جديدة توافقية، مساهمة الطبقة السياسية فيها مطلوبة لإعطاء الشعب الجزائري قاعدة دستورية تمكنه من الإقلاع في المستقبل. السلطة دعت المعارضة للمشاركة في المشاورات باقتراحاتها، ومكنتها من تنظيم ندوتها، لأن لقاء مزفران تم بترخيص من السلطات، وهذا يعني أنها تستمع إليها، ثم إن الدستور الجاري الإعداد له ليس دستور سلطة أو موالاة بل للشعب الجزائري. السلطة تقول بالتوافق الوطني وتشتغل بأدوات وآليات غير توافقية، هذا يعزز الشكوك لدى المعارضة في أهداف التعديل الدستوري أي أنها تبحث في الحقيقة عن شرعية جديدة؟ الشرعية مكتسبة، كما قلت سابقا، من خلال التأييد الشعبي في 17 أفريل، وباعتراف المراقبين الدوليين والعالم. نحن نتحدث عن مرحلة جديدة لتكريس دستور جديد، وتحصين البلد وبناء مؤسسات قوية، ونية السلطة صادقة في تكريس الديمقراطية وضبط قواعد العمل المؤسساتي، وهي لا تمارس الهروب إلى الإمام، لأنه بعد 55 سنة من الاستقلال حان الوقت لإحداث نقلة في الجزائر والتخلي عن الأساليب القديمة في التسيير. المعارضة وقطاع من المحللين يشككون في نوايا السلطة ويرون أن المشاورات وتعديل الدستور لا تهدف للتمكين للديمقراطية بل لإنقاذ النظام ذاته، ما رأيكم؟ التعديل الدستوري كان مبرمجا منذ سنوات، والنية كما هو مصرح به ومحدد، لتكريس الديمقراطية وشرعية الحكم، وليس لإنقاذ النظام، فالجزائر في حاجة لآفاق جديدة، ولتعميق الإصلاحات والانتقال إلى محطة يشعر فيها الشعب أنه موجود والمعارضة بأنها بديل. ما رأيكم في نتائج ندوة الانتقال الديمقراطي؟ قلت سابقا إن الندوة طريقة غير مباشرة للمشاركة في النقاش والحوار والمشاورات التي باشرتها رئاسة الجمهورية، فالقوى التي شاركت وخصوصا التي قاطعت الانتخابات وصلت إلى طريق مسدود، وما طرحته هو محاولة للخروج من المأزق الذي هي فيه. وفي تقديري، فإن الندوة التي أقيمت بترخيص من السلطات، هي صيغة من الصيغ التي وجدوها للحفاظ على ماء الوجه، وهم يدركون في قرارة أنفسهم أن بعض مطالبهم قابلة للتنفيذ. الجزائر: حاوره جمال. ف أنشر على