دشنت السلطة مرحلة ما بعد 17 أفريل بخطاب الود والغزل لكسب ثقة خصومها، إذ بعد اقتراحها مناصب وزارية على الأحزاب المعارضة، وهو العرض المفروض، عاودت السلطة المحاولة بتسخين البريد الرابط بينها وبين الطبقة السياسية والحزبية، بحيث قررت إرسال مسودة "التعديل الدستوري" إلى الشركاء المعتمدين وتعهدت ب"الشفافية" في تسيير المشاورات التي كلفت بها مدير الديوان، أحمد أويحيى، ووعدت أيضا باحترام الرأي الآخر، وهي تطمينات لم ترق لإزالة "الوسواس" لدى قوى المعارضة التي رأت في اقتراب السلطة مجددا منها، بعد سنوات من الهجر والفراق، محاولة جديدة للسعها من نفس الجحر مرتين. بعد فشل ورقة الحقائب الوزارية السلطة تستعمل الدستور التوافقي لإغراء خصومها تحاول السلطة الإبقاء على شعرة معاوية قائمة بينها وبين خصومها في المعارضة، من خلال دعوتهم للمشاورة بمقر رئاسة الجمهورية حول وثيقة التعديل الدستوري، بعد سقوط عرضها لحقائب وزارية على أحزاب المعارضة، غير أن ردود الفعل الأولى تؤشر إلى أن السلطة ستجد نفسها مرة أخرى تحاور نفسها. بطرحها رزنامة زمنية محددة للحوار حول الدستور ومبادرتها بإرسال وثائق المشاورات السابقة حول التعديل الدستوري إلى الأحزاب السياسية، خلال منتصف شهر ماي الجاري، قصد مباشرة جلسات الاستماع إليها في الشهر الذي يليه، تريد السلطة كسب السباق مع الزمن للحيلولة دون ”هروب” خصومها في المعارضة، نحو المبادرات السياسية الأخرى المطروحة في الساحة، سواء تلك التي طرحتها تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي المقررة في شهر جوان، أو تلك التي يسعى إليها الأفافاس، والخاصة ب ”بناء إجماع وطني”، وهو المشروع الذي يسعى الحزب إلى انجازه بالتعاون بين المعارضة السياسية، المجتمع والسلطة، بغرض الخروج من الأزمة، أو المبادرة المعلن عنها من طرف رئيس جبهة التغيير، والمتمثلة في ”الحل التوافقي”. وهذه السرعة التي خرج بها رئيس الجمهورية في استدعائه لاجتماع مجلس الوزراء، قبل حتى إعداد مخطط عمل الحكومة، للإعلان عن محتوى إصلاحاته السياسية بالتفصيل، تجد بعض تفسيرها في سقوط الإغراءات التي حاولت بها السلطة شراء هدنة مع المعارضة، والمتمثلة في قضية منحها حقائب وزارية في حكومة سلال الثالثة، غير أن العرض لم يفتح شهية أحزاب المعارضة ولم يدفعها للهرولة وراء مشروع العهدة الرابعة، إلى درجة أن قيادة الأفافاس قالت بصريح العبارة إن حزبها ”لن يقبل بالمشاركة في الحكومة، ولو منحته نصف الحقائب الوزارية”، وهو عكس ما صدر عن حزب السلطة الأول الأفالان الذي لوّح أمينه العام عمار سعداني بالتحوّل للمعارضة إذا لم يمنح الأفالان أغلبية الحقائب الوزارية في الحكومة التي ستتشكل بعد تعديل الدستور في الخريف المقبل، وهو تصريح يعكس درجة الهشاشة والضعف التي تعيشها السلطة، رغم انتصارها الأخير في انتخابات الرئاسة. وبعد النكسة التي لحقت بالسلطة جراء فشلها في تشكيل حكومة موسعة، تشمل أحزاب المعارضة، أطلقت السلطة مشروع المشاورات حول التعديل الدستوري في محاولة اصطياد مجددا خصومها وجرهم إلى طاولة المفاوضات، بعدما كسبوا جزءا من رهانهم في مقاطعة الرئاسيات الماضية، خصوصا ما رشح منها من نسب العزوف عن المشاركة الشعبية. وسعت السلطة إلى التعليب الجيد لتسويق مشروع التعديل الدستوري، من خلال تقديمه على أنه يهدف إلى تعزيز الحريات والحقوق والفصل بين السلطات وتوطيد استقلالية القضاء وتأكيد مكانة المعارضة وحقوقها، ووعدت بإجرائها في ”شفافية”، وهو التعهد الجديد مقارنة بما جرى في السابق، ما يعني أن الرئيس بوتفليقة لا يريد تضييع هذه الفرصة، بعدما لم تلق يده الممدودة من يمسك بها في جبهة المعارضة التي اكتوت من تجاربها السابقة مع السلطة ولا تريد أن ”تلدغ من نفس الجحر مرتين”، مثلما قال رئيس حركة مجتمع السلم، الذي أعلن رفض حركته المشاركة في المشاورات حول الدستور حتى قبل الإعلان عنها. فهل تملك السلطة وصفة سحرية بإمكانها إرجاع الثقة بين هذه الأخيرة وشركائها السياسيين؟ اختار أويحيى لإدارة المشاورات ورسم الطريق بأرضية كردون صياغة رؤية بوتفليقة للدستور مستمرة منذ 15 سنة! يطلب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من كل الطبقة السياسية، أن تمحو الإجراءات التي تمت في 2011 و2012 على صعيد التحضير لتعديل الدستور، لتعيد تكييف مقترحاتها على أساس خطاب 28 أفريل الماضي، الذي يتحدث عن ”دستور توافقي”، بدل خطاب 15 أفريل 2011 الذي قال فيه بوتفليقة إنه هو من يقرر وحده ما سيكون عليه شكل ومضمون الدستور. إذا كان عجز بوتفليقة بدنيا عن ممارسة مهامه كرئيس للجمهورية، ثابتا إلا في أعين المنتفعين من بقائه في الحكم، فغموض رؤيته هو شخصيا لما ينبغي أن تكون عليه الوثيقة المرجعية للقوانين في البلاد، ثابتا أيضا. لقد أصبح الدستور في عهد بوتفليقة لغزا محيّرا، إذ وعد عدة مرات بإحداث التعديل الذي يعكس رؤيته لنمط نظام الحكم، وعلاقة مؤسسات الدولة ببعضها، وحدود كل واحدة منها وموقع الحريات والمعارضة في منظومة الحكم. بوتفليقة يبحث عن تعديل الدستور وفق هذه الرؤية، منذ 15 سنة ولم يتوصل إلى بلورته! تسلَم بوتفليقة، عن طريق وزيره الأول، في سبتمبر 2013 نتائج عمل لجنة عزوز كردون التي اشتغلت (أو يبدو كذلك) على الأفكار والمقترحات التي جمعتها لجنة بن صالح، من الأحزاب والشخصيات والجمعيات والنقابات بخصوص تعديل الدستور الذي ذكره في خطاب 15 أفريل 2011. وعاد بوتفليقة إلى الموضوع نفسه بمناسبة أول اجتماع لمجلس الوزراء بعد الانتخابات، بعد أن استقر في أذهان كل المهتمين بحكاية بوتفليقة ودستوره، بأن صاحب الشأن صرف نظر عن الأمر، كما فعل بعد خطاب 6 جويلية 2006 بوزارة الدفاع لما قال إنه سيتوجه إلى تغيير عميق في الدستور، فسكت عنه لمدة عامين ولم يكن ليعدّله في 2008 إلا لكون آجال الترشح لانتخابات 2009 اقتربت، وكان عليه أن يزيح ما يمنع ترشحه لأكثر من عهدتين. طلب الرئيس في مجلس الوزراء الأخير أن تكون الورقة التي خرجت بها لجنة كردون، هي الأرضية التي سيعرضها أحمد أويحيى على الشركاء السياسيين والناشطين في المجتمع، ولكن ما الذي منع بوتفليقة من إطلاع هؤلاء الشركاء الذين استشارهم بن صالح، ومعهم الجزائريين، على نتائج عمل كردون ورفاقه منذ أن تسلمها قبل 8 أشهر؟ ما الذي يجعل الذين سيطلب أويحيى استشارتهم، يقتنعون بأن مقترحاتهم سيتعامل بوتفليقة معها بجدية، خاصة ما تعلق بمطالب الحريات ومنح صلاحيات الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية للمؤسسات المخولة حقيقة بذلك، بينما الجميع يعلم أن الرئيس الذي يتشبث بالكرسي وهو مصاب بمرض مزمن، يستحيل منطقيا أن ينزل عليه الوحي بعد أيام من تحقيق رغبته في تمديد حكمه ل 20 سنة، فيحوّله إلى شخص ديمقراطي يؤمن بالتداول على السلطة! من الواضح أن المسعى القديم الذي بعثه الرئيس، ليكلف به شخصا معروفا بولائه الشديد للشخص الذي يريده النظام ليكون رئيسا مهما كان هذا الشخص، يعكس تشبث بوتفليقة بالإصلاحات التي استعملها في 2011 لتفادي حركية في المجتمع كان ظاهرا بعد أحداث مطلع نفس العام، أنها ستقوى، فأراد بوتفليقة وحاشيته تفاديها بمراجعة مجموعة من القوانين، واستحداث واحد جديد، والأرجح أنه سيحافظ على التوجه نفسه لربح مزيد من الوقت. حوار القيادي في حركة البناء الوطني نصر الدين سالم شريف ل ”الخبر” السلطة مطالبة بجرأة أكبر لإنجاح الإصلاحات أعلنت السلطة عن إطلاق مشاورات مع الأحزاب السياسية وتعيين مدير ديوان الرئاسة أحمد أويحيى لتولي هذه المهمة، هل تعتقد أنها تفي بالحاجة وتبلغ سقف مطالب القوى والشخصيات السياسية؟ شكل المشاورات المقترح لا يعكس التطلعات والآمال التي ارتبطت بالإصلاحات المعلن عنها منذ ثلاث سنوات، ونتمنى أن يكون المضمون أعمق وأكبر من شكوك الأشخاص وخارطة طريق المسؤولين. بعض الأحزاب السياسية والشخصيات المعارضة أعلنت مقاطعة المشاورات، وهي تشكك في نوايا السلطة من هذه المشاورات مادامت السلطة، حسبها، لم تف بتعهداتها ووعودها في إصلاح سياسي حقيقي، ألا تعتقد أن موقفها صائب؟ كل مشكك له مبرراته، وخصوصا بسبب التسويف المتواصل منذ اندلاع ما يسمى ب«الربيع العربي”، وكأن الإصلاح السياسي أطلق تحت تأثير هذا الربيع، ونرى أن شراء السلم الاجتماعي بالطريقة التي تمارسها السلطة وفيها ما فيها من إهدار للمال العام، لا ينبغي أن يستمر، لأنه قد يدفع مستقبلا للثورة على حساب أمن واستقرار الوطن، ولهذا فالمطلوب من السلطة اليوم أن تقوم بإصلاحات دستورية حقيقية تعبّر عن تطلعات الشعب الجزائري، لأنه ما دام لم تزرع فيه الثقة ولم تعتمد آليات التداول السلمي على السلطة والفصل الحقيقي بين السلطات وانتخاب حكومة ممثلة حقيقية للشعب الجزائري، بعيدا عن كل قراءة جهوية وبعيدا عن تأثير المال الفاسد. اختيار مدير ديوان الرئيس أحمد أويحيى لإدارة المشاورات، عزز شكوك البعض في حقيقة نوايا السلطة، وهناك من قرأ في القرار بأنه رسالة من ”السيستام” للمعارضة لعدم القدوم، ما رأيكم؟ أويحيى موجود في السلطة منذ 20، واسمه يرتبط لدى كثير من الجزائريين بقائمة طويلة من التجاوزات، ومن الطبيعي أن يتحفظ المعارضون على هذا الخيار، وأعتقد أنه على السلطة الخروج من الأحادية، فهناك أسماء مرادفة لهذه الأحادية، وهذه المشاورات في حاجة إلى جرأة كبيرة من السلطة لكسر الحواجز وكسب الرهانات، وذلك أمر صعب المنال. هل تجاوبت حركة البناء مع دعوة السلطة للمشاركة في هذه المشاورات، وهل ستساهمون بمقترحاتكم لتعديل الدستور؟ الأمور في بدايتها وستفصل مؤسسات الحركة في الملف في حينه. ما هو مطلوب بالضبط من السلطة ومن الرئيس شخصيا لجلب المعارضة إلى طاولة الحوار وإنجاح مسعى الإصلاح، وخصوصا أن قطاعا كبيرا من الطبقة السياسية لا يثق في وعوده التي أطلقها خلال سنوات حكمه ال15 الماضية؟ المطلوب تغيير هذه الطريقة، لأن الإصلاحات لن تؤثر في بوتفليقة ولا في جيله، ولا يجوز لأي كان أن يلّغم طريق أجيال المستقبل. الجزائر: حاوره ف.جمال المتخصصة في القانون الدستوري الدكتورة فتحية بن عبو ل ”الخبر” مطلوب من أويحيى الجرأة والابتعاد عن حاشية السلطة أعلنت السلطة عن إطلاق مشاورات مع الأحزاب السياسية وتكليف مدير ديوان الرئاسة، أحمد أويحيى، بتولي هذه المهمة، هل تعتقدين أن هذا يفي بالحاجة ويحقق سقف مطالب القوى والشخصيات السياسية؟ من ناحية المبدأ الحوار مع المعارضة شيء جيد، لأن الانغلاق على الذات يؤدي إلى طريق مسدود، والسلطة أخطأت في مساراتها، وخصوصا في تحجيم دور المعارضة. المنطق السياسي يقتضي إشراكها في القرار تدريجيا حتى تتعلم ممارسة الحكم التي هي مهمة في غاية الصعوبة والتعقيد، وليس الإمساك بكل المفاتيح. بعض الأحزاب السياسية والشخصيات المعارضة أعلنت مقاطعة المشاورات وهي تشكك في نوايا السلطة، مادامت السلطة، حسبها، لم تف بتعهداتها ووعودها في إصلاح سياسي حقيقي، هل تعتقدين أن موقفها صائب؟ الشك قائم فعلا، فهناك خشية من بلوغ نفس نتائج المشاورات التي أشرف عليها رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح في ماي وجوان 2011، وهناك توجس من تكرار نفس المشهد، أي الاستماع لنفس الأشخاص ونفس الأجهزة الحزبية والمنظمات، التي هي قواقع فارغة لا تمثل إلا نفسها وبعيدة عن الواقع ونبض الشارع. ومن الضروري أن تدرك السلطة وجود انفصال بين الحكام والمحكومين، وهذا أمر ينذر بالخطر، وبالتالي يجب إعادة النظر في النهج والمنهجية. ومن الضروري أيضا أن يدرك أصحاب القرار أن الاستماع لنفس الحاشية التي تعطي نفس النظرة، يحمل مخاطر كبيرة، لأن هذه الحاشية لا تتردد على إسماع السلطة إلا ما تريد سماعه، في حين أن المنطق يقتضي العمل بالمثل الشعبي ”اسمع رأي لي يبكيك، وما تسمعش الرأي لي يضحكك”. اختيار مدير ديوان الرئيسة أحمد أويحيى لإدارة المشاورات، عزّز شكوك البعض في حقيقة نوايا السلطة، وهناك من قرأ في القرار بأنه رسالة من ”السيستام” للمعارضة لعدم القدوم، ما رأيكم؟ لا أعرف أويحيى عن قرب، وما أذكره عنه أنه من أصدر قرار اقتطاع الأجور من الموظفين في 1996، أي أنه ينفذ كل ما يطلب منه، وأعتقد أنه يجب عليه أن يكون أكثر جرأة وصاحب مبادرة وعدم الاكتفاء بدور منفذ، ولهذا من الضروري إعادة مراجعة الأساليب ولا نبقى في نفس النمط، وفتح مجال المبادرة لتجنب كل المخاطر التي تتربص ببلادنا، لأنه إذا استمر الوضع عما هو عليه سنغرق في الفوضى. ما هو الأنسب لتمرير التعديل الدستوري؟ يجب أن يكون التعديل الدستوري عن طريق الاستفتاء، وليس عن طريق البرلمان الحالي الذي هو فاقد للمصداقية والمشروعية في ظل التحالف القائم بين المال الفاسد والسياسة. الجزائر: حاورها ف.جمال